امتحان الباكالوريا موعدٌ سنوي يسْتبد أمام الجميع ويتبختر بكبريائه وسلطته وما فيها من أحاسيس الدهشة والخوف والارتياب . كل سنة في مثل هذه الأيام القائظة، التي تشوي الجلود وتلهب بحرارتها مسام العقول أكثر مما ألهبتها انحناءات الحروف في الاستعداد والمذاكرة ، يتشمر جيلٌ كبيرٌ من التلامذة عن سواعدهم من أجل اجتياز وادي الباكالوريا المتدفق. توقد شمُوع وتفرَغ جُهود، وتبقى عيون كثيرة سامرة سواد الليل حتى أوائل الصباح. فالموعد حقا، يثير العديد من الأسئلة، ويستفز بحلاوته ومرارته مضاجع الأفراد والعائلات، بل والأساتذة أيضا ومختلف الأطر التي سهرت طيلة السنة على إعداد هذه الجمجمة التي ستعصر في أيام معدودة ، لتفرز شهْدا معرفيا يبرئ التلميذ وينير دربه نحو مدارج العُلى ..
 
في هذه الخطوط المهرولة بسبب عنف الزمن وضيقه، سنقارب موضوع الامتحان وفق مقاربة خاصة. لن نهتم فيها بما يتعلق باشكالات المناهج والبرامج في متاهاتها الأفقية و العمودية ، ولا بسياسة الوزارة عموما .فالحديث عن هذه الأمور أضحى طعام إبليس، تخمر بها الناس وعرفوها أكثر من معرفتهم بأحوال عوائلهم .
 
سنحاول إذن أن نثير نقاشا هادفا ننبه من خلاله بالخصوص إلى جانب متعلق بالاستعداد النفساني لدى التلميذ أو التلميذة، ثم ما يعلق بأجواء امتحان الباكالوريا من تمويه عن الذات ومكاشفتها حقيقة، وغيرها من أحوال الطلاب المتخفية عنوة تحت إزار "ظريف وكيقرا مزيان"
 
أولى الخطوات المبنية على الملاحظة المباشرة التي نستهل بها الجانب النفساني عند التلميذ (ة)، هو ما نبصره في المكتبات وخاصة المحاذية للمؤسسات التعليمية من تصغير وتقزيم لحجم الدروس في جميع المواد بدون استثناء تقريبا، حيث تنتعش تجارة موسمية خاصة. فالتلميذ الذي من هذا الصنف يعيش طيلة السنة هوسا خطيرا وازدواجية عجيبة، يجعل كل شيء على عاتق آلات المكتبة والوُريْقات المصغرة، مما يزرع في داخله نوعا من التكاسل والتواكل وكل معاني الخمول. .يحضر الدروس والحصص جثة متحركة بلا عقل، فتصير نفسه معلقة بنهاية الموسم واقتراب موعد الامتحان، بل يكون مشدوها أكثر ببعض المشاهد التي أفلح فيها بالغش في ما مضى، ويطمح بكل شوق إلى تكرار التجربة بنفس السلاسة واللذة المقرونين بالتوجس والارتباك..
 
إنها بكل وضوح طريقة غير سليمة، تظهر التلميذ(ة) على غير حقيقة ما يجب أن يكون عليه. والأنفع في هذه النقطة بالذات هي أن يكون التلميذ (ة) واضحا ومقتنعا مع نفسه أولا ، حتى يعلم جهارا صادقا ما يريده وما يود الوصول إليه ، وفق ما يتوفر عليه من إمكانات وقدرات ، ثم لا بأس أن يكون شجاعا قادرا على الدفاع عن وجهة نظره وشخصيته عموما.
 
فان يكن المرء متعثرا (وقلنا متعثرا وليس كسولا، لأن الفرق بين المصطلحين كبير)، ثم يدرك ذلك ويجس مكامن ضعفه ونواقصه ويعقد العزم على تجاوزها ، والعمل بجد نحو الوصول إلى الهدف، لشيء كبير جدا، ويحسب للتلميذ القادر على هذا الانجاز دون تمويه عن ذاته ألف حساب. فهو على الأقل تلميذ(ة) يفوق درجات عديدة صاحب(ة) النية المبيتة في الغش والتحايل.
 
ثاني الخطوات التي تهم هذا الجانب العويص عند التلميذ(ة)، هو قدرته على الموافقة والمواءمة بين واقعين متغيرين وفاعلين أساسين في الامتحان ومساره، وهما الواقع الخارجي الذي يعيش فيه والواقع الداخلي (النفسي) الذي يعيش به. فالتلميذ كائن معقد وغامض، وبالتالي إذا استطاع أن يخرج نفسه من بوثقة الصراع بين الرغبة في عيش الواقع بتفاصيله وان يستمتع بموسيقاه ولعبه وأصدقائه وفراغه ودردشاته ، وبين أن ينهمك بكل شغف في هضم دروسه واستيعابها والوقوف أمام الامتحان (هذا الذي يسمى عند البعض باللعين)، بكل جرأة وانشراح، فقد يصير نموذجا ناجحا بكل تأكيد، ويبصر آنئذ وضاعة وصغر التصرفات السابقة التي تسم الشخص بالنقصان وتزج به في منازل العميان .
 
ثالث الخطوات التي تحتاج إلى مكاشفة في مرحلة الاستعداد هذه، هي تصور التلميذ للامتحان كأنه غول غاصب لمرحه ووقته وحريته عموما، وهي نظرة سلبية نابعة من الضعف المعرفي /النفسي الذي يشعر به التلميذ(ة). ويقل هذا التمثل تدريجيا كلما زادت جرعات الإعداد الجيد.
فالأصل في هذه المسألة، هو أن ينظر إلى الامتحان نظرة الصحبة و الاعتياد. فالإعداد الجيد يمنح للتلميذ أريحية و هامشا فسيحا من التفكير في الأمور بشكل صحيح و مضبوط.
 
 
ان الامتحان ضيف وديـــــــع ودود، يزورنا كل سنة بابتسامته العريضة وكل مشاكساته المعروفة، فلا ينبغي الاساءة إلى جنابه الكريم، بل يحسن وفادته واستقباله بشكل يليق به، وكل ما يتوهمه التلميذ من تمثـــلات سلبية عن الضيف الجليل، ليس صحيحا، إنما هي انعكاس تخاذله وتكاسله وعدم مثابرته, فالتعثر والاهمال أسباب تدفع التلميذ غصبا الى معاداة الامتحان والنظر اليه نظرة العدو المتربص الذي قَدِم ليسْلبه حريته ومرحه ويكشف عن عيوب فشله أمام العائلة والمجتمع.
 
نشدد في آخر هذه الخطوط الناصحة، على الجد و المثابرة والثقة بالنفس، فلا شيء يأتي من فراغ، وقد صدق الشاعر شوقي اذ قال:
 
- وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي" "وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
 
نرجو التوفيق والنجاح للجميع.