تابعت في أحد المواقع الاليكترونية المغربية حديثا مفتوحا عن " الفيسبوك والتحولات الاجتماعية "... متابعة تم خلالها إقحام مخيلتي وتفكيري بمواقف متعددة . من قبيل أن الشبكات الاجتماعية خاصة " الفيسبوك " بعبع جارح / مفسدة للأخلاق / تجسس/ إثم ...  هي أوصاف وصور طغت على النقاش بكثرة، مردها التقوقع ضمن خانة التخوف من كل أمر مستجد يتميز بالحركية التحولية في الحقل الاجتماعي، إنها وضعية كيس أحكام القيمة التي نستنجد بها لتخليص رقابنا من الافتاء والاجتهاد الابتكاري . إنها سلطة إبخاس مستحضرات الحاضر بتجلياته الكونية ، والاحتماء بمناقب عز الماضي ولو بالوقوف على أطلال وشم خولة ....

    أولى الملاحظات اننا نسحب الدين الى كل نقاش اجتماعي، جر يتم بموضع الاستنجاد بالدين المعياري . في حين أن أمر" الفيسبوك "  يستحوذ عليه المنظور الاجتماعي الحداثي، عبر موجهين اثنين الاول ملمح وافد بايجابياته، وقوته الدافعة في امتلاك معالم كونية المعلومة . والثاني يلتصق بحقل الايجابيات وتنحدر سلبياته وتصطف بتمام الاستعمال الجانح عن اهداف وغايات المواقع الاجتماعية . وهذا هو الانفلات المعلوماتي الرحب الاستعمال نحو خانة الشر الافتراضي المسكوت عنه  . ان التعامل مع ظاهرة " الفايسبوكية "  لها محطات اكثر من محطات قطار يربط ابعاد العالم الرباعية ... انه الغول القادم من العوالم الافتراضية ، ويقض مضاجع نومنا بكوابيس الفزع عن اثاره السلبية -" الفيسبوك " -على جيل الحاضر و المستقبل . 

   لا أنكر، ولا ننكر دور مظلة  الدين في توطين مكارم الاخلاق الحميدة بالتربية على القيم ذات السلوكات الخيرة ، بموازات مع رفض شيطنة الشر التي تسكن أفعالنا في تموضعات جل أمكنة محيطنا الاجتماعي، وفي أزمنتنا الماضية والحاضرة والمستقبلية  . ولكن الذي يحز في النفس الخيرة - " الذات التنظيرية " - هو اعتقادها ان الحركية التطورية الاجتماعية تنحو في اتجاه الافلاس الاخلاقي بشقه التقليدي ... إلا ان هذا الحكم لا يحتمل القطعية المطلقة بعلة أن مشقة التطور - " السفر " - ليست هي سبب الإفطار كرخصة ، وإنما العلة في السفر بحد ذاته الموجب للإفطار، انه قياس ولو بوجود فجوة الفارق المتمثلة في " الحركية الجارفة نحو الأفق المجهول للآخر الافتراضي  ..."

   ان نهج مسلك العزيمة المؤطرة سلفا باليسر في التعامل مع المواقع الاجتماعية ، له مسار قبلة المصالح الشرعية . مقاصد مثلى للامتثال للواجب كخير، واجتناب المناهي كشر شيطاني ... اما مقصد اعتبار " الفيسبوك " كحكم رخصة تستدعي العلة والسبب ، فهو الموضع غير المحصن بتمام مصالح العباد ، فتتحول الرخصة الى عزيمة قائمة الذات باستقلاليتها عند شباب "الفيسبوك " والتمسك به ولو بسباحة غير محمية من طرف المراقب الحاضر بالسلطة الفوقية ، او الرقيب الذاتي كضمير للغائب . انها الوجهة الدنيوية التي تلزمنا ، ويلزمنا مراعاة المرونة في اقرار المصالح الاجتماعية المتحركة بطيف الوان الثقافات الوافدة بعالميتها  .

  التنظير بوجه المعيارية الاخلاقية يركبنا جميعا ، بينما المستجد اجتماعي ومعالجته تستوجب النقل بنقلة نوعية نحو أخلاق العناية ، بدءا بالذات ووصولا الى الاخر . والغاية الفضلى في متمها هي بناء مشروع التجليات السلوكية العنائية لوجه الخير ، ثم بالعقل عبرحرية انفتاحية بحدود " العقل عند الاشاعرة ، باعتباره منبع العلم ومطلعه وأساسه ".

   ان نسق منطق التحولات الاجتماعية بعلو سهم الانفتاح التام على الشبكات الاجتماعية والاعتراف به علانية بصيغة الجمع ، هو المنطلق الاولي للتحليل والتفكير و الاحاطة  التنظيرية . فالوصول الى استنباط الاثر الراجع بايجابياته ، يتم عبر مقارعة الوضعيات السليمة مع الجانحة منها  ، ثم استخلاص الاولويات المقدورعليها ، ليتم لاحقا تدبيرها كأفعال اجتماعية مدمجة بالتتبع والتقويم والمعالجة التصويبية. ثم تحصينها بالبدائل الكامنة ضمن رقعة السلوكات المدنية . انها اخلاق العناية اللصيقة بنا ، من الاسرة الى المجتمع ، الى محصلة كفايات التربية المدرسية والقيم الاجتماعية السائدة بسلطتها الدينية والعرفية  . فمعرفة العينة الضابطة لمستهلكي " الفيسبوك " كوضعية مشكلة . هو الخيط الموصل الى الحلول المحصنة لفئة الشباب المغربي ، بمعيار مسلك التوجيه الادماجي الاستباقي ، لا النواح البكائي باستدعاء الارواح بالمواقع الاليكترونية لتزويدنا بسلبيات " الفيسبوك " وحدوده غير الشائكة  ...

   جيل "  البلوتوت " و " الفيسبوك " ليس هو جيل " سندباد " و " كريندايجر " ...  انه التاريخ المتجدد بحقل التطور الالي . فالحتمية التاريخية تستلزم الوثوق بحدود نتائج التجربة المتحولة بتشكلاتها غير التامة ، من خلال التجديد المستديم لكثلة الفرضيات الاولية . فلا يمكننا السباحة في النهر مرتين بنفس المقاييس والمعطيات ،انه تدفق التجدد المائي المتتالي....ان المعالجة الكلية بمقاربة الحداثة تستلزم الدعم الاخلاقي الاعتنائي ، والكشف عن كل الخبايا المسكوت عنها بالتتبع والتقويم الهيكلي ... مع ترك مساحة اوسع للحريات الشخصية البالغة سن الرشد بقوة أن حركية العجلة التاريخية سيرانها في متم دورانها الزماني والمكاني ...

    الشبكة الافتراضية " المواقع الاجتماعية "  احتلت غرف ومكاتب أبنائنا  داخل منازلنا دون المرور بطرق الابواب  وفتحها . أحببنا الامر او كرهناه  انه الضيف المرحب به من طرف جيل الحاضر والمستقبل بمتتالية ادفع . هم رواد " الفيسبوك " الصاعد ، فضلا عن المستقطبين من الجيل المخضرم  . بينما عندنا – نحن جيل المعلقات - هو الضيف الثقيل بمنازلنا ... وحتى متم ثلاثة ايام الزيارة ... ، فالضيف الافتراضي لا تعنيه ، فهو سكن عنوة بيننا ، وصاغ شبكة عنكبوت على جدران بيوتنا  ...ودق مسمار جحا العتيد بقوة ثبوته  .

  في متم كلامي هذا ، اقول بأنني سلكت اولا في امري مسلك الموازنة بين التحديث وتنصيب اخلاق العناية كبوابة تنقلنا من الاخلاق التقليدية بقاموس معياريتها ، الى الحصانة العنائية في موكب التعامل مع العوالم الافتراضية . ثم اثرت ثانية بختم قولي ان أحكي لكم قصة رجل مثقف سليم الطباع . تطبع بمحدودية شبكة الاصدقاء في الواقع المعيشي/ الحقيقي . رجل أمضى ثلث عمره في علاقات اجتماعية افتراضية عبر " الفيسبوك " ، بانفتاحه وطيبوبته ولباقة معاملته  . حتى انه  وجدنا له من الاصدقاء على شبكة " الفيسبوك " ما يزيد عن 3500 صديق وصديقة ...  وحين وفاته أعلن نعيه على مساحة حائطه بموقعه الاجتماعي ، فتساقطت التعازي بكثرتها من كل صوب و فج عميق ... حين ذاك تم تأثيث مكان تشييع جنازته بموقع فسيح بتعداد التعازي المسجلة في بوابة موقعه الاجتماعي  . لكن الامر الأغرب ان من شيعه الى مرقده الاخير أربعة من اصدقائه ... عفوا أربعة من أقارب الرجل ... عفوا مرة اخيرة ، أربعة من شركة الدفن ... انها ازمة الصداقة الحقيقية بمقابل ثورة الصداقة الافتراضية الهيامية ... انها العلاقات المفتوحة - (الواقعية ) -  الاجتماعية تنحو صوب الانغلاق والانكماش الافتراضي ... هذا هو التحول الاجتماعي . وبه ضاعت او ستضيع علاقتنا بأبنائنا جميعا ، كجيل للمستقبل الاتي  تسكنه عفاريت العوالم الافتراضية ...