شدد الملك محمد السادس في لقائه المشهور بالسيد الحليمي على "على ضرورة الحفاظ على استقلالية المندوبية السامية للتخطيط، كمؤسسة رسمية للمعلومة الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى ضرورة الالتزام بالتعاون والتنسيق الوثيق بين جميع المؤسسات الحكومية والهيئات الوطنية المعنية بالمعطيات الإحصائية، بما يضمن الدقة والموضوعية في هذا المجال، ويعزز صورة ومصداقية المغرب لدى شركائه ومختلف المؤسسات الدولية". لذلك تستند المندوبية السامية للتخطيط في تأكيد مصداقيتها العلمية على أمرين. أولهما استقلالها عن الحكومة وعن كل توجه سياسي، وثانيهما تأكيد الملك محمد السادس لهذه الإستقلالية ودعمه لها.

لكن ماذا تعني "استقلالية" المندوبية على وجه التحديد؟ هل الإستقلاية التي يقصدها الملك هي "الإستقلايلة" التي يهدف السيد الحليمي لترسيخها؟ هل "الإستقلالية"، بالنسبة لمندوبية الحليمي شعار ترفعه أم مبدأ تعمل به في أبحاثها؟ "استقلالية" البحث العلمي عن التوجيه السياسي أمر مطلوب بكل تأكيد، لكن إذا كانت "الإستقلالية" مجرد شعار تحمي به المندوبية نفسها من كل مساءلة، فإنه يتحول إلى أداة لرعاية الفساد تحت مسميات جذابة. هناك حدثان اثنان أثبتا لنا بكل تأكيد أن "الإستقلالية" التي يتحدث عنها الحليمي ("الإستقلال" عن المساءلة) ليست بالضرورة هي "الإستقلالية" التي يقصدها الملك (ابتعاد البحث العلمي عن التوجيه السياسي). 

الحدث الأول: بعد الإتهامات التي وجهت للمندوبية من طرف بعض البرلمانيين بوجود اختلالات في المندوبية، أقر الحليمي بوجود "بعض الاختلالات" التي سجلها تقرير المفتشية العامة لوزارة المالية، معترفا بأن إنجاز هذا الفحص كان "بطلب منه شخصيا"، وبأن المخالفات التي وقف عليها التقرير "لم تكن تستدعي تحريك المتابعة القضائية في حق أصحابها"، وتم توقيف حالة واحدة بمدينة فاس، مع تسجيل "تعهدات" بإرجاع الأموال التي كانت موضوع الاختلالات.

المندوبية منخورة بالفساد إذن، والمندوبية قررت أن بعض الحالات "لم تكن تستدعي المتابعة القضائية"، والمندوبية قررت قبول "تعهدات" إرجاع الأموال. لكن من الذي يراقب ما إذا كانت حالات الفساد تقتضي المتابعة القضائية أم لا؟ من الذي سيتابع "تعهدات" إرجاع الأموال المنهوبة حتى تعود؟ ألا يعني هذا أن المندوبية يجب أن تخضع لمحاسبة الشعب؟ لم يعطنا السيد الحليمي أي دليل ملموس على أن "الاستقلالية" التي يدافع عنها ليست هي الإستقلالية عن كل مراقبة شعبية. المندوبية السامية للتخطيط أنشأت من أجل خدمة الشعب، لذلك ينبغي أن تكون خاضعة لمراقبة الشعب. وإلا فستبقى مؤسسة مشبوهة وغير ذات مصداقية.

الحدث الثاني خطير وبكل المقاييس، وهو يتعلق بأسئلة استمارة الإحصاء التي أعدتها المندوبية من أجل إحصاء سبتمبر القادم. فقد تضمنت هذه الإستمارة سؤالا عن قدرة المواطن المغربي على الكتابة بحرف تيفيناغ ولم تتضمن سؤالا عن لغته الأم (أمازيغية، دارجة، حسانية، إلخ). قد تبدو المسألة عادية و"مستقلة" عن كل خلفية سياسية. لكن للأسف هذا غير صحيح. سأشرح.

حاول الحليمي على لسان الصحافي توفيق بوعشرين (الذي أدانته المحكمة، بالمناسبة، بالتحايل على شخص والإستيلاء على ڤيلا بدار بوعزة) أن يدافع عن قراره كما يلي: "إن مطلب تغيير سؤال استمارة الإحصاء ليصبح متعلّقا باللغة الأم هو أخطر مما يظن هؤلاء، لأن ما يريدنا هؤلاء أن نفعله هو أن نقرّر في أصول الناس، ومعرفة من هو أمازيغي ومن هو غير أمازيغي، وهذا أمر لا أخلاقي علميا ومهنيا، وممنوع إطلاقا لأنه يتدخّل في إثنية وأصول الناس". 

لكن لماذا يخاف الحليمي من طرح سؤال عن اللغة الأم؟ هل لأنه يتضمن سؤالا عن الأصول؟ ألم يعترف بعظمة لسانه أن المغاربة مختلطون وأن هناك "من هو عربي الأصل ولا يتحدّث حاليا إلا الأمازيغية ولا يعرف أن أصله عربي"؟ إذن، فالسؤال عن اللغة الأم ليس سؤالا عن الأصول الإثنية بالضرورة. يمكن أن يعيش بيننا مهاجر من الهند ويتعلم هو وأبناؤه الأمازيغية دون أن يعني ذلك أنه من أصول أمازيغية. فمم يخاف الحليمي إذن؟ هل يخاف ألا يكون إحصاؤه غير "علمي" وغير "مهني" وغير "أخلاقي"؟ هذا كلام فارغ من طبيعة الحال. في الولايات المتحدة الأمريكية صممت الحكومة الأمريكية بيداغوجيا خاصة بالتلاميذ الذين ينتمون إلى أسر لغتها الأم هي الإسبانية (Sheltered Instruction Observation Protocol)، لأنها لاحظت أن معظم المطرودين من المدارس هم من هذه الفئة من الناس بسسب عدم قدرتهم على متابعة المضامين المتعلَّمة باللغة الإنجليزية. وعليه فإن معرفة الدولة باللغة الأم للمواطن تمكنها من اتخاذ سياسات لصالح هذا المواطن على المستويين التربوي والتواصلى. المعرفة باللغة الأم ضرورة أخلاقية وعلمية ومهنية.

مم يخاف الحليمي إذن؟

الجواب بسيط : الحليمي أمازيغوفوبي ... أمازيغوفوبي يخشى من الإنطباع الذي سيخلفه الإحصاء عند الهيئات الدولية التي ستعتبر نتائج الإحصاء معطيات رسمية وموثوق بها. الحليمي ينتمي إلى تيار سياسي معروف بميولاته المشرقانية ودفاعه عنها. لذلك فقد لعب على استراتيجية التدليس الخفيف في تثبيت الهوية الزائفة التي يرتضيها لشعبه. فهو يعلم جيدا أن معظم المتكلمين بالأمازيغية وغيرهم لا يزالون أميين في حرف تيفيناغ لسبب بسيط جدا هو أن ترسيم الأمازيغية لم يُفعَّل بعد والأمازيغية بحرفها التاريخي تيفيناغ لم تُعلَّم بعد في المدارس. فإذا كانت نتيجة الإحصاء هي أن عدد المتمكنين من حرف تيفيناغ ضعيف، سيولد هذا انطباعا لدى الملاحظ الأجنبي، الذي يهم الحليمي أمره أكثر من غيره، أن الأمازيغ مجرد أقلية إثنية لا يعتد بها، في حين أن تيموزغا هي الهوية الجذر لجميع المغاربة بدون استثناء.

خلاصة الكلام إذن:

أولا ـ أن المندوبية السامية للتخطيط مؤسسة يعتورها الفساد باعتراف المشرف عليها والمشرف عليها أمازيغوفوبي أثرت أيديولوجيته في طريقة طرحه للأسئلة حول مسألة اللغة في المغرب.

ثانيا ـ على السيد الحليمي أن يركن إلى الحكمة والتعقل وذلك بأن يطرح سؤال اللغة الأم أو أن يحذف سؤال اللغة وأي ما من شأنه أن يدلس على قارئ نتائج الإحصاءات بخصوص هوية البلد.

ثالثا ـ تعاون المواطنين في الإحصاء أمر مطلوب وسنكون إن شاء الله من المتعاونين فيه إذا عدل الحليمي من الأسئلة بالشكل الذي اقترحته الحركة الأمازيغية وإلا فأنا أقاطعه شخصيا.