حين بدأت الحضارة الإسلامية الأولى بفقدان تماسكها الكياني التاريخي، وتباعد ارتباطها بالمنهج الذي شُكّلت ضمنه تاريخيا، بدأت الانهيارات المتتابعة في بنائها، حتى وصلنا اليوم إلى أشكال ومحتويات تتناقض تماما مع منطلقات البدء. لم يبق لنا من رصيد تلك التجربة سوى الإحساس بأننا مسلمون، على نهج سلفي في الحالة الدينية، وعلى نهج علماني في الحالة البديلة.      

يمكن للمتتبع لتاريخ تطور العقل الإسلامي في تلك المرحلة أن يقع حافره على عظمة العقلية الإسلامية الاجتهادية الإبداعية، التي كانت قادرة على الربط ربطا صحيحا بين دلالات النصوص وحركة الواقع، والجمع بين الحكمة والشريعة، وتطوير النظريات العلمية والمناهج المعرفية، وعلى مدى قدرة العقل الإسلامي على مواكبة حياة المجتمع الإسلامي ومعالجة قضاياه ومستجداته الحياتية، وبناء وعيه الحضاري، لكن مع تدهور الحضارة الإسلامية في شقها السياسي والفكري والثقافي، أصيبت عقول المسلمين بالجمود الفكري، والتيه الثقافي، فتراجع الاجتهاد والإبداع، وفشا التقليد وبدأت عملية اجترار فتاوى الماضين وأفكار الغابرين وابتلاعها دون تذوق وهضم.

 وهي أفكار وفتاوى رزئ بها الفكر الإسلامي من لدن شيوخ السلفية التقليدية والجهادية، والصوفية الخرافية، وأحبار الشيعة الإمامية، الذين لقنوا الأتباع والغوغاء والمريدين تقليد الرجال، ولقنوهم رسوم التقديس والتسليم، وأجلسوهم على بساط الجهل والتخلف، فأعدم العقل وعطل النظر، وضعف النقد، وحل محله ذوق الشيوخ وهوى الحكام.

حتى بعض قيادات الحركات الإسلامية المعاصرة التي ترفع لواء تجديد الخطاب الإسلامي ومراجعته، وشعار الوسطية والاعتدال، أو ما يسمى بمنهج التغيير الحضاري، الذي ساد منذ نهاية السبعينات في العالم الإسلامي، ورغم محاولتها القطع مع منهج المواجهة الثورية العنفية (التصور القطبي) واعتماد منهج الاندماج التدريجي في اللعبة السياسية (الحالة المغربية نموذجا)، لا تزال غير قادرة على فك عزلتها الفكرية عن ذلكم الإرث الثقافي التاريخي، و التخوض في متاهة تقديس الأشخاص والآراء التي تحولت للأسف إلى مرجعية مطلقة غير قابلة للتساؤل والأخذ والرد.  وهو المنهج الذي كبل العقل الإسلامي وضيق مساحة اشتغاله، رغم أنها في مجملها اجتهادات بشرية أملتها حاجات معينة ظرفية ومكانية.

 فالمشترك بين المنهجين التجديدي والتقليدي هو معالجة قضايا الدين بمنطق الوصاية الفكرية، وبتعبير المفكر العملاق الدكتور عدنان إبراهيم في إحدى خطبه النارية: "ما يزال منا علماء كبار وشخصيات شهيرة تتحدث بمنطق الوصاية الفكرية، لا يجوز أن يقال هذا على المنابر، لا يجوز أن يقال هذا للشباب، لا يقال هذا للعوام. عن أي عوام تتحدث، وعن أي شباب؟، العالم الآن في حالة سيولة معرفية، فكل شيء يقال، ويقال بألف طريقة وطريقة، إذا كنت أنت يا مولانا لا تقرأ ولا تتابع، وتعيش خارج التاريخ والجغرافيا، وخارج عالم البشر، فهذه مشكلتك، لكن هذه المشكلة ستنعكس لتسبب مشكلة للجيل بل للأجيال، وبالتالي للدين نفسه عبر أهله وحملته،  قضية خطيرة جدا، لذلك علينا أن نتخفف بل نتحرر بالكلية من منطق الوصاية البالي هذا، فهذا المنطق ما عاد يجدي".

 أضف إلى ذلك أن الإسلاميين الجدد لهم مناطق مغبشة ورمادية تحتاج مواقفهم فيها إلى شيء من الوضوح والتحديد، في ظل المتغيرات الثقافية والسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم المعاصر. فنحن في مرحلة استحالة تكبيل العقول بالأفكار المعلبة، نتيجة الانفتاح الفضائي وتوسع وسائل الاتصال بالعالم، ولذلك أصبح المثقف والباحث في حيرة من تعدد الخيارات العقلية، أو انجذابه إلى التيارات الفكرية المتكالبة على كسب أسواقها الجديدة، فمازالت هناك أسئلة تحتاج إلى حسم ووضوح وتفصيل، ولعل أبرزها هو الموقف من الديمقراطية، والمواطنة، والطبيعة المدنية للدولة، وقضية المرأة، والنظر إلى الآخر؟.

كل هذه المظاهر تجلي وتكشف طبيعة أزمة العقل المسلم، وعدم قدرته على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وذلك لن يتم في اعتقادي إلا باعتماد أساليب جديدة في التفكير تستهدف التعمق، والتحليل والتركيب، جمعا بين المنهج العلمي والمنهج العقلي والمنطقي الدقيق، وليس الخطاب العاطفي التهييجي، الشعبوي التعبوي. والكم الهائل من الفتاوى التي ينتجها العقل السلفي والتي لا تتماشى مع مصالح الإنسانية ولا القواعد الأخلاقية، والدين منها براء، ولا تعبر عن روحه بالمرة، اعتقادا منهم أنها الحل الموضوعي لتجاوز الأزمة الحضارية وعودة الخلافة الإسلامية.