في كل التنظيمات وفي كل المجموعات أو الجماعات البشرية، تجد أشخاصا يحسبون كل خطواتهم ولا يقدمون على عمل ما إلا إذا كان لهم فيه مصلحة أو منفعة شخصية؛ وتجد آخرين يشتغلون بنكران الذات وبدون حسابات الربح والخسارة على المستوى الشخصي؛ بل، ترى هؤلاء يقدمون مصلحة الغير على مصلحتهم الشخصية؛ أو لنقل: يؤثرون المصلحة العامة على المصلحة الشخصية لاقتناعهم بأن في المصلحة العامة ما يحقق أيضا المصلحة الشخصية ( والعكس غير صحيح)، عن طريق المشاركة مع الآخرين في الاستفادة (المادية أو المعنوية) من ثمار العمل الجماعي. لذلك، تراهم يبذلون قصارى جهدهم لتحقيق المشروع المشترك الذي تتحقق من خلاله الذات الجماعية.

إننا نسمي الصنف الأول من الناس بالانتهازيين، ونسمي الصنف الثاني بالمناضلين. فالانتهازي (من انتهز، أي طلب مصلحته الخاصة)، هو من يستغل الفرص لصالحه دون اعتبار لمصلحة الغير أو للمصلحة العامة. أما المناضل (من ناضل؛ والجمع مناضلون ومناضلات)، فهو الذي يدافع عن الحقوق (سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو غيرها) وعن القضايا التي يؤمن بعدالتها ومشروعيتها. إنه المدافع عن مبادئه والمتفاني في تحقيقها. فهو، إذن، مكافح وباذل للجهد في سبيل الحصول على حقوقه وحقوق غيره. وبالتالي، فهو نقيض الانتهازي.

ويتضح، من هذا التعريف، أن للكلمتين حمولة أخلاقية، تضعهما على طرفي نقيض. فكلمة "انتهازي"، لها معنى قدحي (تحقيري أو تشهيري)؛ إنها تحط من قيمة الموصوف بها؛ بينما كلمة "مناضل"، لها معنى إيجابي (أو امتداحي)؛ أي أنها تعلي من شأن من تطلق عليه هذه الصفة (لن نهتم، هنا، بالابتذال الذي تتعرض له كلمة "مناضل"، والذي يجعلها لا تعني أكثر من الانتماء أو الانتساب إلى هيئة ما، سواء كانت سياسية أو مدنية أو غيرها).

وتستعمل هاتان الكلمتان (الانتهازي والمناضل)، بالأساس، في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي... حيث الحاجة إلى قاموس، يسعف في ترتيب الناس في سلم القيم، حسب سلوكهم وحسب تطابق أو عدم تطابق أقوالهم مع أفعالهم.

وبما أن الأمر مرتبط بعوامل متعددة (منها الثقافي والتربوي والنفسي...)، ويهم كائنا معقد البنية النفسية والسلوكية (أو السيكولوجية)، كائنا متقلب الأطوار وسريع التأثر، فإن دوام الحال يكاد يكون، عند البعض، من المحال. وهذا ما يجعل العلاقات الإنسانية من أعقد ما يكون بسبب تداخل العوامل الثقافية والنفسية والسلوكية وغيرها (دون إدخال الحالات المرضية، هنا، في الاعتبار).

وبما أن ما يهمنا، هو التمييز بين الموقف الانتهازي (الأناني) والموقف الإيثاري (أي الذي يفضل الآخرين على الذات؛ وهذا هو ديدن المناضل الحقيقي)، فإنه قد يبدو من السهل تصنيف النشطاء (أو الفاعلين) في المجال السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الحقوقي أو غير ذلك، بحسب مواقفهم وبحسب بعد أو قرب هذه المواقف من خدمة الذات أو من خدمة الآخرين.

لكن الأمر ليس بهذه السهولة؛ ذلك أن الانتهازي (الذي مذهبه في الحياة هو"الغاية تبرر الوسيلة") قد يرتدي قناع المناضل؛ وقد تنطلي هذه الحيلة على المناضلين الحقيقيين وعلى كل من يتعامل معه في المجال أو المجالات التي اختار تحقيق ذاته من خلالها، ولو على حساب منطق الأشياء وعلى حساب المبادئ والأخلاق وقواعد التعامل الإنساني والاجتماعي السوي.

وليس من السهل، ما لم تتوفر بعض الشروط وتتغير بض الظروف، التمييز بين المناضلين الحقيقيين والمناضلين المزيفين. وأخطر هؤلاء، هم أصحاب النفَس الطويل والتخطيط على المدى البعيد، لتكون الاستفادة الشخصية أكبر(بينما تكون الصدمة أقوى على المخدوعين فيهم، عند اكتشاف حقيقتهم). أما المتهافتون، فبمجرد ما يستشعرون صعوبة أو استحالة تحقيق أهدافهم في المدى المنظور، فإنهم يغيرون الوجهة، بحثا عن فرصتهم (ولنا في مسألة الترحال السياسي خير دليل)؛ وليست لهم عقدة في فعل ذلك.

لا شك أن القارئ قد أدرك أن كلامنا هذا لا يعني الطموح المشروع لكل شخص في أن يثبت ذاته وأن يحقق أهدافه بواسطة الاجتهاد والعمل المثمر والتنافس الشريف؛ بل نقصد به فقط من يتحينون الفرص للاستفادة الشخصية بأقل مجهود وعلى حساب الغير.

لكن، يجب الاعتراف أنه من الصعب كشف الانتهازي الذي يتقمص دور المناضل ويتقنَّع (من القناع) بخصاله وسلوكه. وهذا الصنف من النشطاء (الانتهازيين)، غالبا ما يحتلون الصفوف الأمامية في القيادات (محليا أو وطنيا). واعتبارا لذلك، فالانتهازي يسعى إلى ترسيخ صورة إيجابية عنه لدى الأصدقاء والمعارف والرفاق في التنظيم (سواء كان سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو حقوقيا أو غير ذلك). ولهذا، فإن تقلبه يحدث صدمة قوية عند هؤلاء، لكونهم يعتقدون بأنه لم يصمد أمام إغراءات المنصب أو الموقع أو المال، أو غير ذلك؛ بينما هو كان، في الواقع، يعمل من أجل هذا الهدف، ويتحين فقط الفرصة المواتية. وقد يكون سبب الصدمة، انخداعهم فيه واكتشافهم المتأخر لحقيقته.

وحتى لا نسقط في النمطية أو في التبسيطية؛ وأخذا بعين الاعتبار أننا نتحدث عن كائن بالغ التعقيد، الذي هو الإنسان، فإن الضعف وارد. فقد يحدث للمناضل أن يضعف، لهذا السبب أو ذاك، وينقلب على قناعاته السابقة، فيتنكر لماضيه ولمبادئه، ويلتحق بصف الانتهازيين. ولإخفاء صراعه الداخلي، تجده يبحث لنفسه عن تبريرات وذرائع لا تصمد أمام الوقائع والتحليل. ولا نعدم أمثلة على ذلك في تاريخنا السياسي والاجتماعي والثقافي...

وقد تكون التحولات المجتمعية وما تحدثه من تغيير في مستوى القيم، سببا في الانقلاب الذي يحدث في سلوك الأشخاص. فكثيرا ما نسمع المناضلين القدامى في التنظيمات السياسية (التقدمية منها على الخصوص)، يشتكون من القيم التي أضحت سائدة، اليوم، ليس فقط في المجتمع، بل وفي تنظيماتهم أيضا؛ مما جعلهم يشعرون بنوع من الغربة ومن الانسلاخ عن الواقع. وهذا ما جعل الكثير منهم يتوارى إلى الخلف، إما استسلاما وإما استنكارا لما آلت إليه الأوضاع. فأغلبهم يتحسر على الماضي، رغم ما كان فيه من قهر و قمع... بل، منهم من يرى في ذلك المعيار الحقيقي الذي كان يسمح لهم بتمييز المناضل عن المتناضل (أو المدعي النضال). فالصمود أمام آلة القهر، كان هو الفيصل في تحديد من هو المناضل. أما اليوم، فهم يرون بأنه قد استوى الماء والخشب، وأصبحت الانتهازية هي السائدة، تحت غطاء مسميات مختلفة؛ لكن، في كل الحالات، أضحى المحرك الأساسي للشخص هو تحقيق أكبر قدر من المكاسب بأقل ثمن (أو مجهود) وبأساليب تتنافى والأخلاق النضالية والتنافس الشريف.

ومن الملاحظ، أن الانتهازي، في حال فشله في بلوغ هدفه، فإنه لا يتردد في استعمال كل معاول الهدم المتوفرة، خصوصا حين يتيقن من الإفلاس المحقق لمخططه أو حين يرى نهاية حتمية لاستفادته؛ وهنا، تنكشف انتهازيته بوضوح رغم محاولته إخفاءها، تارة بدعوى التصحيح والتغيير وأخرى بتوزيع الاتهامات يمينا وشمالا في محاولة منه، من جهة، للنيل من الآخرين، ومن جهة أخرى، لتلميع صورته كمناضل، يقدم نفسه كغيور على الرصيد النضالي للتنظيم الذي ينتمي إليه، بينما هو، في الواقع، يوجه إليه الضربات الموجعة التي لا تخدم إلا خصومه (خصوم التنظيم المعني).

بالمقابل، تجد المناضلين الحقيقيين (ومنهم قادة كبار، خصوصا في المجال السياسي) يتوارون إلى الخلف ويترفعون عن الروح الانتقامية وعن الإساءة إلى رصيدهم النضالي وإلى التاريخ الشخصي والمشترك، رغم ما يتعرضون له من إساءة وظلم على يد من يفترض فيهم، أخلاقيا، أن يناصروهم وينصفوهم. وحين يقدمون على هذا الموقف، فليس هروبا ولا ضعفا ولا استسلاما، وإنما لتجنيب إطارهم التنظيمي مزيدا من التأزم والتشرذم الذي لا يخدم إلا مصلحة المتربصين به.
وتذكرني هذه الصورة (صورة الانتهازي الحامل لمعول الهدم وصورة المناضل "المفرط" في حقه الطبيعي)، كلما تأملت ما يقع في بعض التنظيمات الديمقراطية (أو هكذا يفترض أن تكون)، بإحدى القصص التي كانت تحكيها لي جدتي (رحمة الله عليها) في طفولتي: إنها قصة امرأتين كانتا وابنيهما بجنب النهر؛ وفي غفلة منهما، جر النهر ابن إحداهما. فادعت هذه أن ابن الأخرى هو الذي جره النهر. ولم يكن أمامهما، سوى اللجوء إلى الحاكم أو القاضي للفصل بينهما.

أصرت كل واحدة منهما أن الولد المتنازع عليه هو فلذة كبدها. وأمام غياب ما يفيد عكس ذلك، اهتدى الحاكم إلى حيلة، يعرف بها الأم الحقيقية. لقد تظاهر بعزمه على تقسيم الولد بينهما وأمر بإحضار سكين ليشقه نصفين؛ عند ذلك صاحت الأم الحقيقية بأن الولد ليس ابنها، بل ابن المرأة الأخرى. وبذلك، تبين للحاكم من هي الأم الحقيقية. وبهذه الحيلة، عاد الولد إلى أمه ونالت المفترية عقابا على طمعها في ما ليس لها.

وعلاقة بنفس الموضوع، فقد كان أحد الأصدقاء (الذي شاركته نفس الانتماء السياسي والنقابي) يردد، كلما طلبت منه أن نراعي مصلحة تنظيمنا المشترك في الصراع الذي كنا نعيشه مع بعض الأشخاص: هل قدرنا أن نتأسى لوحدنا بنموذج "الأم الهندية"، بينما هم يسيئون للتنظيم، دون أن يرف لهم جفن؟

وقد نجحت في كثير من المرات أن أقنعه برأيي، دون أن أسأله يوما عن قصة الأم الهندية التي كان يحيلني عليها دائما؛ لكني، فهمت من السياق بأن قصتها تشبه حكاية جدتي. وبمعنى آخر، فالأم الهندية، هي رمز لمن يتنازل عن حقه حفاظا على شيء ما: أخوة، صداقة، أسرة، شراكة، تاريخ مشترك، الخ؛ بل حفاظا على نفس بشرية، كما في حالة المرأة التي قبلت أن تأخذ منها امرأة أخرى ولدها، بدل أن يتم شقه نصفين. لقد استنتجت، من كلام صديقي عن الأم الهندية، أن الحكاية التي كانت تحكيها جدتي، إنما هي من الحِكم الهندية التي شاعت وانتشرت عبر العالم.

لكن، فضول الباحث قادني إلى اكتشاف أصل القصة الذي يعود إلى عهد داوود وسليمان، عليهما السلام، كما ورد في أحد الأحاديث النبوية الشريفة. لقد رُويَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَانَت امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ هذه لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَت الْأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَام فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكما، فَقَالَت الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُها، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ" .متفق عليه.

وبغض النظر عن أصل الحكاية، التي يمكن أن يكون لها وجود وجذور في كل الثقافات الإنسانية (ما دامت الحكمة ليست حكرا على شعب دون الشعوب الأخرى)، فإن من بين الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه القصة، هي أن المطالب بالشيء، ليس بالضرورة صاحب الحق فيه. وفي هذه الحالة، يكون صاحب الحق المزعوم، هو الأكثر إصرارا على انتزاع هذا "الحق"؛ ويكون مستعدا لكل شيء، بما في ذالك إتلاف الشيء المتنازع عليه، عملا بمقولة "المصيبة إذا عمت هانت" أو "أنا وبعدي الطوفان".

ويمكن اعتبار الأم المزعومة في القصة التي أوردناها، هي أول مثال صارخ للانتهازية التي تعني، من بين ما تعنيه، أخذ حق الغير بالكذب والغش والخداع، الخ.

كما يمكن أن نستخلص من نفس القصة أن من لم يتعب في تحصيل شيء، يكون مستعدا لأن يفرط في وحدته وكينونته بسهولة، ولو أدى الأمر إلى اندثاره. فالمرأة التي قبلت بشق الولد نصفين، أعطت الدليل بأنه ليس ابنها؛ ولذلك، كانت مستعدة للتفريط فيه بقبول القسمة؛ بينما الأم الحقيقية، رفضت هذه القسمة حفاظا على ولدها.

وإذا ما أردنا أن نمثل لهذا السلوك من حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية والجمعوية... فسوف لن نعدم الأمثلة عن المواقف التي تجسد سواء موقف الأم الحقيقية أو موقف الأم المزيفة. ويكفي المرء أن يتتبع، عبر المواقع الاجتماعية والجرائد الإليكترونية، ما يكتبه البعض (خاصة بعد التمرين الديمقراطي الذي تشهده هذه الهيئة أو تلك، وما يتلو ذلك، لدى بعض الفاعلين، من تنكر لقواعد اللعب وللنتائج التي أسفرت عنها) عن رفاق الأمس أو عن التنظيم الذي كان (أو لا زال) يجمعهم، ويتمعن في الأسلوب المستعمل (والذي يصل درجة كبيرة من الإسفاف والانحطاط)، ليتبين المواقف الصادقة من المواقف المتحاملة أو الهدامة. وله، بعد ذلك، إذا ما تسلح بما يكفي من الموضوعية، أن يصنف الناس، حسب مواقفهم، إما في خانة الانتهازيين وإما في خانة المناضلين وإما في خانة المنزلة بين المنزلتين.