هذه الأيام يحتفل الإعلام الفرنسي العمومي بالذكرى السبعين لتحرير محتجزي معتقل «أوشفيتز» الألماني، حيث كان هتلر يعتقل ويعذب ويصفي اليهود بالآلاف، مثلما يحتفل بدحر النازية.
لنتفق سلفا على أن ما حدث لليهود على يد النازية الألمانية جريمة بشعة لا شيء يبررها، مثلما أن لا شيء يبرر قتل أو تعذيب أي كائن حي تجري فيه روح.
لكن علينا أن نتفق أيضا على أن ما حدث وسيحدث في غزة يدل على أن إسرائيل قررت تطبيق سياسة الإبادة الجماعية نفسها التي تعرض لها اليهود على يد النازية الألمانية.
في سنة 1942 قررت النازية الألمانية تطبيق خطة أطلقت عليها «الحل النهائي»، خلال مؤتمر في منطقة «وانسي» بالقرب من برلين. فقد انتهت إلى أن أحسن حل للتخلص من اليهود الذين كان يقدر عددهم آنذاك بتسعة ملايين يهودي يوجدون تحت قبضة النازية، هو إبادتهم عن آخرهم.
واليوم أصبح كل شيء يفيد بأن قرار إبادة سكان غزة تم اتخاذه في تل أبيب بمباركة من بعض الجيران العرب للتخلص من غزة وسكانها بإحراقهم أحياء.
خذوا مثلا تسمية العملية العسكرية الإسرائيلية، والتي أطلقوا عليها عملية «الرصاص المصهور»، وستجدون أنها تشبه كثيرا تسمية «ليلة الكريستال» التي وضعتها النازية كبرنامج لعزل يهود أوربا ومحاصرتهم في مراكز اعتقال جماعية تمهيدا لقتلهم.
غزة اليوم مركز اعتقال مفتوح على السماء، حيث يوجد حوالي مليون ونصف مليون فلسطيني حكمت عليهم النازية الإسرائيلية بالفناء، وطبقت عليهم «الحل النهائي» الذي يقضي بإبادتهم جماعيا، على مراحل.
وبالسرعة التي تسير بها جرائم الإبادة الجماعية يبدو أنهم سيقضون على سكان غزة في وقت أقل بكثير من الوقت الذي تطلبه القضاء على مئات الآلاف من اليهود في أفران «أوشفيتز» و«بيلزيك» و«سوبيبور» وغيرها من مراكز الاعتقال. فالمحرقة مستمرة حتى النهاية، وقد قالها وزير الدفاع الإسرائيلي بالواضح، فالجيش النازي سيبقى في غزة ما يكفي من الوقت لإنجاز «المهمة». ولتسريع هذه «المهمة» في أقرب الآجال لم يتورع «ليبرمان» عن مطالبة الحكومة الإسرائيلية بإلقاء قنبلة نووية على القطاع، هكذا تنتهي إسرائيل إلى الأبد من وجع الدماغ هذا المسمى غزة.
في معتقل «أوشفيتز» النازي كان الألمان يبيدون اليهود بإحراقهم في أفران الغاز، وفي غزة يلقي الجيش الإسرائيلي النازي القنابل الفسفورية الحارقة التي تسلخ جلود الأطفال والنساء، تلك القنابل الجبانة التي قال عنها «برنار كوشنير»، وزير الخارجية الفرنسي السابق، في برنامج «كلمات متقاطعة» على القناة الفرنسية الثانية في تلك الفترة، إنها غير ممنوعة في الحروب. تصوروا، مؤسس منظمة «أطباء بلا حدود» يقول إن القنابل الفسفورية ضد المدنيين غير محرمة دوليا.
لقد جعل «كوشنير» صهيونيته تطغى على قسم أبوقراط الذي نطق به عند تسلمه لشهادة طبيب، مثلما جعل «بيرنار هينري ليفي» صهيونيته قبل أيام تطغى على جنسيته الفرنسية، وهو يطالب في الأمم المتحدة العالم الغربي بمحاربة «معاداة الصهيونية». فالرجل لم يعد يطالب بمحاربة «معاداة السامية» بل بمحاربة كل من يعادي الصهيونية.
ولماذا لا يطالب «برنار» بذلك طالما أن نائب الرئيس الأمريكي «جو بايدن» نفسه اعترف في تل أبيب بأنه صهيوني، وأنه ليس ضروريا أن تكون يهوديا لكي تكون صهيونيا.
عندما كانت ألمانيا تجمع اليهود من أوربا وترسلهم إلى مراكز الاعتقال، كانت هناك حكومات أوربية، منها حكومة فيشي بفرنسا، تتعاون مع حكومة هتلر وتشحن يهودها في القطارات مثل البضائع وترسلهم إلى محارق هتلر وغرفه الغازية.
خلال تصفية اليهود على أيدي النازيين كان الجلادون يتفننون في التمثيل بالجثث، ويركلون الأموات ويعبثون بالجماجم ويلتقطون الصور مع الأشلاء. في غزة اليوم يقوم الجيش الإسرائيلي بقصف المقابر ونشر أشلاء الشهداء فوق الأرض لكي تأكلها الكلاب الضالة. وكأن قتل الفلسطيني مرة واحدة لا يكفي الإسرائيلي ليشفي غله في عدوه التاريخي، بل يجب قتله أكثر من مرة.
لهذا كله فالذين لازالوا يعتقدون أن ما قامت به إسرائيل وستقوم به في غزة هو رد فعل طبيعي على استهداف القرى والمدن الإسرائيلية بقذائف «حماس» تقليدية الصنع، عليهم أن يصحوا من أوهامهم. فالمستهدف من هذه المحرقة هم مليون ونصف مليون فلسطيني تريد إسرائيل إحراقهم على مراحل في فرن مفتوح على السماء.
إن قرار الشروع في تنفيذ «الحل النهائي» في غزة لم يكن وليد الأسابيع أو الأشهر أو السنوات الأخيرة، أو جاء بسبب خرق الهدنة من طرف «حماس»  أو اختطافهم لرهائن، ولكن هذا القرار كان مبرمجا منذ سنوات طويلة.
إسرائيل لم توفر وحشيتها للقضاء على حركة «فتح» وحركات المقاومة اليسارية في وقت لم تكن فيه حركة «حماس» موجودة. ومذابحها معروفة منذ دير ياسين وكفر قاسم مرورا بجنين ووصلا إلى مذابحها الأخيرة. أما خرافة خرق «حماس» للهدنة أو خطف رهائن، فلم تعد تنطلي سوى على بعض ضيوف البرامج الحوارية التلفزيونية الفرنسية التي ينشطها سفير إسرائيل في باريس. 
ولكي يفهم العالم بأسره أن القضية اليوم ليست قضية «حماس» أو «فتح»، وإنما قضية فلسطين، على الأوربيين، والفرنسيين على الخصوص، لكي يفهموا عمق المشكلة أن يتصوروا أن الوضع كالتالي: سيأتي مثلا إلى باريس قوم غرباء وسيطلبون من سكانها أن يتركوا لهم بيوتهم وأراضيهم وأن يذهبوا لكي يسكنوا في الخيام، بحجة أن أجدادهم القدامى عاشوا في هذه الأراضي قبل آلاف السنين، ولأن الله طلب منهم في كتابهم المقدس أن يفعلوا ذلك.
هكذا سيأخذ الغرباء باريس، وبعدها سيجتاحون الضاحية والمدن المجاورة. ولكي يطبقوا تعاليم دينهم بالحرف سيشرعون في بناء سور عازل يقطعون به كل الطرق ويعزلون داخله أنفسهم. أما الفرنسيون أصحاب الأرض فسيصبح لديهم مخيم، وسينعتهم المحتلون باللصوص والإرهابيين. وعندما سيقتل المحتلون المدنيين من سكان المخيم سيسمي المنتظم الدولي ذلك بالدفاع الشرعي عن النفس. عندما سيختطف المحتلون أبناء المخيم بالآلاف لن يكون هناك من يعاتبهم، فقط عليهم أن يشهروا يافطة الإرهاب، أما عندما يختطف أصحاب المخيم جنديا واحدا من جيش الاحتلال، فإن ذلك يسمى إرهابا.
وفي وسائل الإعلام الموالية للمحتلين، عندما يتم ذكر المقاومة يجب دائما ربطها بسوريا وإيران، أما عندما يتم ذكر المحتل فيجب تجنب ما أمكن ربطه بالدعم الأمريكي والأوربي، حتى لا يظهر للرأي العام الاختلال الكبير في موازين القوى بين الجانبين.
وعندما سيطلق المقاومون صواريخهم نحو الأراضي التي احتلها العدو، ستقوم حكومات العالم الغربي، وقادة العالم العربي وصحافيو الطابور الخامس، بإدانة ذلك، لأنه يستهدف المدنيين. وكأن هؤلاء المدنيين ليسوا محتلين اغتصبوا أراضي ليست لهم ومساكن كانت لغيرهم. هل رأيتم الآن كيف تحولت الأمور في غزة من دفاع عن الأرض المغتصبة ومقاومة لاسترجاعها، إلى اعتداء وإرهاب ضد المغتصب وتهديد أمنه وحياته؟ وكأن هؤلاء كانوا ينتظرون من الفلسطيني الذين سلبت أرضه وبيته وحقوله، أن يلقي على المغتصبين مكان القذائف الورود والأكاليل ليهنئهم على صنيعهم.
المؤسف في ما تقوم به إسرائيل، ويباركه تسعون بالمائة من يهود فرنسا كما صرح بذلك رئيس الطائفة اليهودية بباريس، هو أن الأوربيين الذين نكلوا ببني إسرائيل وأحرقوهم ووزعوهم على المنافي وأغمضوا عيونهم عن محارق النازية، هم اليوم حلفاء وأصدقاء إسرائيل الغارقون في عقدة الذنب تجاهها.
أما العرب الذين آووا اليهود عبر التاريخ وحموهم وتقاسموا معهم تجارتهم وأفراحهم وتقاليدهم، فهم من تسومهم حكومتهم اليوم سوء العذاب، فيذبح جيشها أبناءهم ويحرق نساءهم ويدمر مساكنهم.
كم هو مفيد الرجوع بين وقت وآخر إلى الماضي لفهم الحاضر بشكل أحسن. طبعا بالنسبة للذين يريدون أن يفهموا، أما الذين لا يبحثون سوى عن تبرير ما تقترفه إسرائيل بالدفاع الشرعي عن نفسها ضد الإرهابيين، فهؤلاء موقفهم يشبه كثيرا موقف المثقفين والصحافيين الفرنسيين الذين أغلقوا أعينهم عندما كانت تمر من أمامهم عربات القطارات التي كانت تحمل آلاف اليهود نحو المحرقة النازية.
فهل سينتظر هؤلاء حتى تحترق غزة بكاملها لكي يفهموا أن القضية ليست «حماس» أو «فتح»، وإنما القضية قضية شعب فلسطين ودولته الحرة وعاصمتها القدس الشريف.
هذه هي القضية، وهذا هو المطلب الذي يبرر كل أشكال المقاومة من أجل تحقيقه.
أما الباقي فكله تفاصيل.