كغيرها من قبائل الجنوب الشرقي المغربي تنتشر حكاية تاسرودنت ن إسمضال و تارير كبطليتين خرافيتين تسمهما العجائبية و الغرائبية و القوة الخارقة في أوساط قبائل مكون التي من الصعب أن تقنعها - و إلى اليوم - بأنه لم يكن هناك وجود لهذه الكائنات و أنها مجرد "أساطير الأولين".

و تاسردونت ن إسمضال يمكن ترجمتها باللغة العربية إلى بغلة القبور, و ترتبط هذه الحكاية بالمرأة التي توفي زوجها و لم تحترم "حق الله عليها", أي العدة, و كعقاب لها على تمردها و خروجها عن الأعراف فإن الله "يمسخها" كل ليلة إلى بغلة.

 

أما تارإير فهي كلمة تتكون من شقين Tar و تعني "عديمة" و مذكرها War)عديم و تستعمل للتعبير عن فاقد الشيء أو عديمه فنقول مثلا: War Oul أي ميت أو "عديم" القلب...) و "Ir" و تعني المرتفع(جبل أو تلة) أو الحد القاطع و مؤنثه(تاوريرت), و بجمع الكلمتين Tar+Ir نحصل على كلمة أخرى تعني عديمة الجبل أو عديمة الحد(أي التي لا حدود لها) أو الأرض المستوية, إلا أن الطريف في الأمر أن منطقة مكون كلها منطقة جبلية, مما يرجح أن المقصود من "تارإير" ليس هو "المعنى التضارسي" الصريح الذي أشرنا إليه أعلاه, إنما معناه أن تارإير لا تعرف الحدود و ليست لها قيود و لا تمنعها حواجز من التنقل و هذا نفس ما ذهب إليه الدكتور لحسن أيت الفقيه, حين قال"... و بالتالي ف "تارير" أنثى لا تعرف الحدود , و لا تعترف بالقيود و لا علاقة لها بالقيم..."1.

و من الخوارق التي تتصف بها تارإير حسب "المعتقد المكوني" أنها امرأة مفترسة و قاسية, لا ترحم من يقع في قبضتها, تعرف كل اللغات و تخاطب الناس بأسمائها, أي أنها تعرف كل واحد باسمه, وهي امرأة مشوهة الملامح,شعرها أشعث و لها مخالب طويلة و أنياب قاطعة, تتنبأ بالحوادث قبل وقوعها و"تعلم ما بذات الصدور"..., أما بغلة القبور فهي تتخذ شكل البغلة و يرتبط ظهورها بالليالي المقمرة ثم تعود إلى "أصلها الإنسي" بالنهار(ارتباطها بالليالي المقمرة مرده إلى محاولة ثني النساء عن ممارسة السحر و التي ترتبط هي الأخرى بهذه الليالي و إلا تحولن إلى بغلة القبور أو تعرضن لشرها2), و يمكن التغلب عليها و النجاة منها أثناء المطاردة بدخول ضحيتها إلى الظل, لأن دخولها إلى الظل يعني تحولها إلى الإنسان و بالتالي اكتشاف أمرها و من تكون3, و بغلة القبور كائن مخيف تحدث بصليل سلاسلها و صفائحها صوتا مرعبا يكسر هدوء الليل,كما أن احتكاك حوافرها بالأرض يحدث شرارة و تتطاير منه شظايا نارية, و تتصف بقوة خارقة على صعود الجبال و قطع الأنهار و الفجاج, إلا أنها لا تفترس ضحاياها عكس تارير, بل تقوم بنقلها إلى المقبرة و دفنها هناك4, والمستنتج من أغلب الروايات الشفوية المكونية أن أغلب ضحاياها من الرجال, وكأنها تعاقبهم لأن أحدا من أبناء جلدتهم هو المسؤول عما حل بها من تشوه(مارس معها الزنا).و السؤال المطروح هنا و الذي يحتاج إلى المزيد من البحث و التدقيق هو: لماذا بغلة القبور و ليس حيوانا آخر؟.

و هكذا, فإذا كان أصل بغلة القبور معروف حسب "المخيال المكوني" و هي امرأة تتأرجح بين الإنسان نهارا و الحيوان ليلا جزاء لها على عدم احترامها للعدة, فإن تارإير يبقى أصلها مجهولا و إن كان لحسن أيت الفقيه يرى أنها "امرأة تهيم خارج الأسرة,تهاجم الأنسنة و تنزح نحو التوحش و التوحد"5.

يرجع سبب انتشار حكاية "تار إير" أو الغولة و بغلة القبور في الثقافة الأمازيغية(مع مراعاة الاختلافات من منطقة إلى أخرى) حسب أيت الفقيه إلى كونها "فرد غير منسجم و أعراف القبيلة, أو كامرأة متمردة فضلت الحرية على قيود الأسرة و أغلال النسق الثقافي"6, و يستفاد من هذا الكلام أن الهدف من انتشار و نشر هذه الحكاية بين الأجيال المتعاقبة حيث يتوارثها المكونيون جيلا عن جيل هو الرغبة في الحفاظ على وحدة الجماعة و منع التمرد على قوانينها و أعرافها خاصة بالنسبة للنساء و إلا كان مصيرهن المسخ إلى "تار إير" أو بغلة القبور, و بالتالي فهذه الحكايات هي نوع من السلاح الوقائي لتحصين القبيلة من التشرذم و التمزق و الفساد الأخلاقي(الزنا و السحر و الشعوذة) الذي يبدأ ب "التمرد: كل امرأة تتمرد أو أرملة تخرج ليلا قبل متم عدتها أو امرأة تنادي زوجها باسمه و لا تحصن فرجها و لا تطيع زوجها تمسخ"7.

و ما يؤكد أن الغرض من هذه الحكايات هو الحفاظ على روح الجماعة و التعاون و التآزر لدى كل أفراد القبيلة كبارا و صغارا و تجنب الأخطار الخارجية القادمة من قبيلة أخرى إبان فترة الصراع القبلي بين مجموعة من القبائل, أن الروايات الشفوية السائدة عند قبائل مكون تفيد بأن بغلة القبور أو تارإير لا تتعرضان إلا لمن يخرج ليلا بمفرده و لا يمكن أن تتعرضا لجماعة من الناس و هذه دعوة صريحة إلى الوحدة و التكتل درءا لكل الأخطار, لأن"السلوك الفرداني ممقوت في الأوساط القبلية المغلقة"8, التي تعتبر قبائل مكون من أكثرها انغلاقا على نفسها.

إن المثير للاهتمام هو: لماذا المرأة فقط هي التي تكون معرضة للمسخ؟ لماذا لا نسمع مثلا عن "بغل القبور" بالنسبة للرجل الذي يزني مباشرة بعد وفاة زوجته أو Warir؟.

مرد ذلك في نظرنا إلى سببين: أولهما أن المجتمع المكوني و معه المجتمع الأمازيغي ككل, مجتمع ذكوري, ينظر إلى المرأة على أن مكانها الطبيعي هو البيت و أن خروجها عن هذا "الطقس" سيعرضها للمسخ, إلا عند الضرورة الملحة, لأن الأرملة التي تعيش وحدها و ليس لها أبناء أو بنات أو أقارب يقضون أغراضها, يمكنها أن تغادر البيت و لا حرج في ذلك, كما أن خروجها في هذه الحالة لن يعرضها للمسخ, و بالتالي فليس الخروج في حد ذاته هو سبب التشوه الذي تتعرض له المرأة, بل إن ذلك يرتبط بما تفعله أثناء خروجها9.

السبب الثاني: أن فساد المرأة و خروجها عن قوانين القبيلة يعني بداية تسرب الفساد و التمزق إلى كل القبيلة, فالمرأة إذا هي الحصن الحصين لكل قبيلة, فإذا فسدت فسد المجتمع(القبيلة)كله و إذا صلحت صلح كله, وعليه فإذا كان السبب الأول يعبر عن نظرة تحقيرية اتجاه المرأة, فإن السبب الثاني يجعل منها عنصرا مهما و معظما, بل هي عصب الحياة في القبيلة.

إذا كان لنا أن نعترف بأن مثل هذه الحكايات قد تراجعت في الوسط المكوني كما في غيره من الأوساط القبلية الأخرى التي كانت سائدة فيها, فإنه علينا أن نطرح السؤال عن السبب في تراجع تداول مثل هذه الحكايات, تراجع لا يعني –كما يعتقد البعض - اختفاءها(الحكايات) نهائيا؟

يعزي أيت الفقيه سبب اختفاء الغولة(أي تارإير و ما شابهها) بالقول"و يفسر بعضهم اختفاء الغولة بانفتاح المرأة, و كأن النساء كلهن غولات لا يغضضن من أبصارهن,و ثلة منهن لا يحفظن فروجهن,و يظهرن زينتهن و لا يلتزمن الصمت إطلاقا..."10.

و هنا لابد من طرح سؤال آخر هو التالي:هل المقصود باختفاء الغولة, الغولة كجسد أم كحكاية؟

إذا كان أيت الفقيه يقصد اختفاء الغولة كجسد, فهذا اعتراف منه بأنها كانت موجودة ذات زمان قبل أن تختفي, مما يتناقض و اعتبارها "كائنا أسطوريا"11 و خرافيا,بل إن الكثيرين في قبائل مكون ما زالوا و إلى اليوم لا يصدقون عدم وجود بغلة القبور و تارير كجسد, فأنى لهم أن يصدقوا بأنها اختفت؟فيقسمون بأغلظ أيمانهم أنهم شاهدوا بأم أعينهم بغلة القبور أو تارير أو أن واحدا منهم أو من عائلاتهم كانوا ضحايا لها,و العجيب أنك عندما تسألهم عن آثارها على أجسادهم, يبررون بأنهم نجوا منها بأعجوبة ! بل هناك روايات منتشرة تقول بأن هناك حالات كثيرة لرجال شجعان من هذا الدوار أو ذاك تمكنوا من التغلب عليها و احتجازها حتى الصباح ليكتشف أمرها,و هناك من أطلق سراحها في الليل بعد أن وضع عليها وشما و في النهار ظهر عليها الوشم فأصبحت موضوع حديث كل الدوار لتكون عبرة للأخريات رغم توسلها إليه أن يستر أمرها و ألا يشمها.
أما إذا كان يقصد الغولة كحكاية فهي لم تختف نهائيا و إن تراجعت نسبة تداولها بشكل كبير, ليس بالضرورة للأسباب التي ذكرها,لأن النساء لسن كلهن متبرجات و لسن كلهن فاجرات, بل إن أغلب نساء المجتمعات القبلية المنغلقة على نفسها-و إلى اليوم- نساء محافظات جدا, منعزلات عن الرجال حتى في مائدة الأكل و هذا ما نعاينه في الحياة اليومية للمجتمع المكوني إلى حدود الساعة, أما تجوالهن في الأسواق فليس وليد اليوم, بل إن المرأة الأمازيغية التي كان زوجها يسافر بحثا عن لقمة العيش كانت هي من تتولى أمر التسوق و منهن من كن يقمن ببيع بعض منتجاتهن في الأسواق كما يخرجن للعمل في الحقول...لذلك فالأسباب التي قدمها أيت الفقيه عن "اختفاء الغولة", أسباب ناقصة و غير كافية, و إذا, ما السبب أو ما الأسباب الكامنة وراء تراجع هذه الحكايات؟.

لقد ارتبط انتشار هذه الحكايات - كما قلنا آنفا -, بمرحلة تاريخية كانت فيها كل قبيلة تبحث عما يجمعها أكثر مما يفرقها تحصينا لوحدتها و حفاظا على روحها الجماعية و لمجالها الجغرافي من أي تدخل أجنبي(القبلي خاصة), أما و الحال أن هذه "الروح الجماعية الاشتراكية" قد بدأت بالتلاشي و الاندثار أمام زحف الرأسمالية و طغيان السلوك الفرداني في جانب كبير من حياة هذه القبائل,فقد أصبحت الحاجة إلى هذه الحكايات في تراجع مستمر مادام الهدف منها(الحفاظ على تكتل القبيلة و وحدتها) قد بدأ بالانتفاء.

و من جهة أخرى فقد كانت هذه الحكايات لا بديل عنها للتسلية و الترفيه عند قبائل مكون, سواء في ليالي الشتاء الطويلة أو ليالي الصيف المقمرة, في ظل غياب وسائل تسلية أخرى كالتلفاز أو المذياع(الذي لم يكن يتوفر عليه سوى المحظوظين) و الأنترنت,فكان من الطبيعي أن يجتمع الأطفال المكونيون حول جداتهم و هن يحكين ألف حكاية و حكاية, يصدقونها دون نقد أو تمحيص لأن مستواهم الفكري و النقدي كان متدنيا في غياب المدرسة,حكايات ذات دلالات و رسائل عميقة, كما كانت هذه الحكايات أداة للتربية على مجموعة من القيم و "سلاحا نفسيا" لنسيان الجوع و لو إلى حين, خاصة في أيام القحط و الجفاف في انتظار أن يجود الصباح بكسرة خبز أو ملعقة أرز12.

أما اليوم و قد انتشرت وسائل حديثة للترفيه و التسلية كالتلفاز و الرسوم المتحركة و الحواسيب و الهواتف الذكية, و تطور المستوى الثقافي و الفكري و الوعي, فمن عاد يستمع للجدة المكونية و هي تحكي "زابورها" و يصدقها؟بل أين تلك الأيام الخوالي التي كان فيها الأطفال يتشوقون لسماع تتمة القصة التي بدأت في الليلة الماضية و يرتقب أن تطول حلقاتها لليالي أخرى,ينتظرون قدوم الليل و كلهم آذان صاغية؟أينهم و أين حتى تلك الجدات التي يصبرن على فضول أحفادهن, يجبن عن سؤال هذا و يرددن عن استفسار هذا إلى أن يغلبهم النعاس؟

-------------------------------------------------------------------------------------
هوامش:
1- لحسن أيت الفقيه"المرأة المقيدة دراسة في المرأة و الأسرة بالأطلس الكبير الشرقي"منشورات شركة أوداد للاتصال,ط1 ص41
2- للمزيد من التفصيل انظر مقالا بعنوان"حول حكاية تسردونت ن إيسنضال" للحسين دمامي, جريدة تاويزا عدد 85 سنة 2004.
3- روايات شفوية من إغيل نومكون, وهذا الاعتقاد منتشر في أوساط عدة قبائل أخرى, لأن ظهور بغلة القبور كما قلنا سابقا و استمرارها في صيغتها الحيوانية مرتبط بالقمر, وبالتالي فاختفاء القمر أو دخولها(البغلة) إلى الظل يعني تحولها إلى أصلها الآدمي, لذلك فالظل ملجأ يلجأ إليه ضحاياها.
4- روايات شفوية من إغيل نومكون.
5- مرجع سابق ص41
6- م.ن ص43
7- م.ن ص46
8- م.ن, ص39
9- رغم أن قبائل مكون و معها قبائل الجنوب الشرقي تسمح بخروج الأرملة التي لا أبناء لها و لا أقارب لقضاء أغراضها خارج البيت,إلا أنها تضع شروطا صارمة لذلك, إذ تفيد الروايات الشفوية أن من بين هذه الشروط ألا تنظر إلى وجهها في المرآة قبل الخروج, و أن لا يدركها المغيب و هي خارج البيت,و أن تحيي كل من تصادفه بتحية "الله يسترك", و ألا تمارس السحر و أن تغضض من بصرها و أن تلتزم باللباس الأبيض الذي يغطي كل جسدها, أما أثناء الليل فيمنع عليها الخروج مهما كانت الأسباب, في حين أن الأرملة التي لها أبناء و لها من يتكلف بأإراضها خارج البيت فممنوع عليها الخروج و لو نهارا...
10- م.س,ص45
11- م.ن,س43
12- رواية شفوية من دوار إمزيلن(إغيل نومكون).