ذ محسن الأكرمين - جديد انفو
 
مهنة من لا مهنة له هي الظاهرة الحديثة المتطفلة على حقل التدين الإسلامي ، إنها مهنة "رجال الدين" المتأسلمين الجدد . والتي جعلت من الدين الإسلامي حقلا مباحا لحرفة حرة تمتهن بمرجعيات متنوعة ومتعددة، ولا تحتاج إلى إجازة فقيه ، ولا إلى شهادة جامعية. مهنة غير مهيكلة دينيا انطلقت من استهداف خلق جماعة الشرعية الدينية الثورية ، إلى خطابة الوعي وهداية الدعوة لأهل دار الإسلام ، إلى ردة فعل دموية غير سليمة ولا سلمية ضد التحدي الغربي ...
 
مهنة من لا مهنة له ، هل يمكن أن نعترف اليوم بظهور أفراد يمتهنون الإسلام كحرفة قائمة بذاتها ويمارسونها ؟ الجواب عن هذا السؤال يتطلب منا مسبقا وضع مسلمات قطعية لا محيد عنها بالاتفاق الجمعي : أولا الإجماع التام حول سمو الدين عن الخلافات السياسية والمذهبية الجانبية اللاحقة به . فيما العنصر الثاني يرتكز على عدم إلصاق كل أثر للممارسات غير السوية بإسم الإسلام والدين . ثالثا اعتبار الإسلام دينا للتسامح ، وتوطين الكرامة الإنسانية والعدل الرباني .
 
فالإمتهان الديني، أي المهننة الدينية الذي طفت كفتها حديثا بالبروز الملحوظ ، لها مرجعياتها الوظيفية من حيث علو نجم مصطلح الإسلام السياسي إلى الواجهة، باعتبار أن الإسلام نظام سياسي متناسق... ولتوسيع المفهوم بالتوضيح فإن ممتهني حرفة (رجل الدين) يعتقدون أن الإسلام السياسي هو إيمان أولي بالنظرة الشمولية المطلقة للإسلام ، وبالمعنى الأدق والشامل يصلح لبناء مؤسسات الدولة وللتعبد.
 
فالعلة السببية لظهور مهنة (رجل الدين) لم تنضج على نار متقدة السرعة ، بل كانت حتمية تاريخية لدخان نيران تشتعل هنا وهناك غير ما مرة. من تم كان الاستهداف الملح يقوم على الحاجة إلى إنتاج تنظير لبناء دولة دينية / ثيوقراطية ، وهو المتسع بمضمون الرخصة الذي ابتدعه محترفو مهنة الدين (كقضية موضوعاتية بمؤشرات الوصول إلى سدة الحكم) . وهي كذلك من سرع بظهور سلطة مهنة ( رجال الدين ) كمهنة من لا مهنة له .
 
لا نقصد في توصيفنا لهذه المهنة المستجدة / القديمة مقصد التساوي بينها وبين الفقيه أو عالم الأصول ، بل نرمي بها إلى البوابات المطلة علينا عبر الفكر النهضوي (الجانبي) وما شابهه من تيارات متداخلة مرة ومتباينة مرات أخرى .وكذلك بين (الدكاكين الحديثة ) للقنوات التلفزية غير المشفرة بالفتاوى المتنوعة التي تتساقط علينا كالبرد من سماء مشارق الأرض ومغاربها . قنوات أتلفت أسناد المذاهب السنية الأربعة (المالكي، الحنفي، الشافعي، الحنبلي) وألبستها ثوبا حريريا من أفكار المدارس الدينية المشرقية ، وما لحق ذلك من تنظيرات وتنطيعات للفرق والجماعات و الأحزاب المتحركة بالنفعية والظرفية التاريخية .
 
الأسباب الكامنة وراء بروز امتهان (رجل الدين) تتعدد تشعبات مرجعياتها الداخلية والخارجية . في حين أن الدينامو الأولي لمحرك هذه المهنة يتوزع مابين النفسي /الذاتي ، والثقافي / التربوي... . فيما فجوة الفراغ الديني وتردي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لها سبق الأثر المحرك لمهنة المرشد المصلح (رجل الدين).
 
فالإختلالات التي تعرفها وعرفتها الظواهر الاجتماعية في دار الإسلام عموما، هي الموزع الأساس الذي نقل فطرية الاعتقاد الديني والإيمان من الإقرار باللسان (النطق بالشهادتين ) ، والإيمان بالجنان (اعتقاد وتصديق بالقلب ) والعمل بالأركان ( الإتيان السليم للعبادات ) . إلى اعتلاء منصة الخطابة والدعوة والإفتاء بحجم التخصص بمهنة (رجل الدين) والتجديد . هنا نتساءل ، كيف أمكن التحول من عمامة الفقيه (التقليدي) إلى مهنة قصر اللباس كرجل الدين وافد من منافذ المتأسلمين الجدد ؟ .
 
إنها ردة موازية لفعل التحدي الذي فرضه الغرب بالقوة على الرقعة الجغرافية لدار الإسلام . إنه الأثر السلبي للقهر الذي يمارسه الغرب باختلاف تشكيلاته الجغرافية بالحيف والتمييز تجاه الدين الإسلامي وحامليه . إنها الحرب الصليبية الحديثة والتي خيوط لعبها خبره المستشرقون وأفاضوا الربح في رقعتها بالسيطرة وتدجين الشعوب الإسلامية. إنها مهنة امتهان التعصب كحرفة تحتكر التأويل الديني بمنتهى التكفير ضد الآخر ، وتفتعل الحرب المفتوحة في معارك صراعات وهمية بين التيارات المتنافسة على الشرعية التمثيلية الدينية (صفوة أهل الحل والعقد الديني ) . إنها حرفة المدنس بعقلية الدين الاجتماعي (بمعنى الدين المتعارف عليه اجتماعيا) فيما الدين المعياري فنصوصه القطعية يتم استحضارها عنوة بالتأويل المشوه لتسويغ الأعمال والأفعال المشينة بالمعقولية والمرجعية الدينية ، وحشد الأتباع والمريدين ولو باستغلال أميتهم الأبجدية والدينية .
 
وحري بنا في هذا الباب أن نقر بأن مهنة (رجل الدين) تستند على حدود الجمود الفكري - (البراغماتي)- كخطاب إيديولوجي ، دون إعطاء السلطة التامة لحركية حرية التعبير السلمي ، والتعبير المضاد بضمان جاذبية العقل والمنطق . من تم فإن تأصل الفعل التعصبي (الدوغمائي) كعادة ومعطى مسلم به ، لا يستوجب لا نقاشا ، ولا جدالا فلسفيا ، ولا رفضا ما دامت مسألة إنتاج الفكر والتفكير تصل إلى رتبة الموازنة مع المقدس... وهذه هي المتوالية الخاطئة.
 
والملاحظة البينة هي خصوبة إنتاجية تربة شتائل مهنة (رجل الدين ) كحرفة تزيد بالإتساع لمن لا مهنة له . الأسباب كثيرة، ولا يمكن حصرها فقط بين التحولات الداخلية والعالمية ،أو الاكراهات السياسية الضاغطة ، أو الإخفاق في التنمية ، ولكن هي أوسع من كل ما ورد . وإنما سؤالنا لا يستهدف مرجعيات الظهور كروافد تاريخية للظاهرة ، بل السؤال الأسلم لدينا هو : هل هذه الظاهرة سوية أم لا ؟
 
هنا قد لا نختلف بيننا في الجواب بقطعية الرفض للظاهرة ، قياسا بأن الإسلام لا يحتمل تموقع تواجد الحواريين بيننا . فالإسلام لم ير في الرهبانية إلا بدعة ابتدعوها ... من تم كانت مقاصد الشريعة طيعة المأخذ من أفواه فقهاء الدين وعلماء الأصول . ولنا في المنتوج الثقافي الفقهي خير الدليل ، حتى إذا جاز لنا أن نسمي الثقافة العربية الإسلامية بأحد منتجاتها الأوفر فإنه يحق لدينا القول بأنها ثقافة فقه .
 
الحيلولة دون تزكية النفس (الذاتية ) ضد النفس الإنسانية (العمومية ) بالقتل والإرهاب بكل أشكاله ، هو المطلب الذي ندفع به إلى رفض كل من احترف مهنة ( رجل الدين) . هذا الرفض فيه سد للذرائع – ( وهو الأصل التشريعي الذي ينفرد به المذهب المالكي ) - ويقوم على تأصيل أن الشارع ( سان الشريعة / واضع الأحكام الشرعية ) ما شرع أحكامه إلا لتحقيق مقاصدها السامية من جلب المصالح ودرء المفاسد . من تم فالتحريف في الأحكام لغير ما شرعت له ويراد بها خلاف مقاصد الشريعة الحقيقية ، فإن الشارع لا يقر إفساد أحكامه وتعطيل مقاصده الفضلى ، وهو القول الفصل الذي يزكي مذهبنا إلى رفض كل ممتهن (رجل دين ) .