زايد جرو - جديد انفو
أسْرج الطالْب أحمد  خيل الهمة لسنين خلت، وعدا بها نحو السهوب التي لا تُحد، ووقف وِقفة المتهيب، ولم يشكُ لا العجز ولا التقصير، الرغبة الجامحة في الطموح لم تفارقه أبدا، ولم تَخْبُ شعلتها على مر الأعوام،  فتحولت مع الأيام هاجسا مِلحاحا نحو درج التسلق.
 
امتلأ جوف أحمد سابقا بعلم لا يجود بمثله زمان، حتى وصل حد السُّكر والثمالة من دَنِّ جوف الكتب المعتقة الممجدة، استعان بالصبر حاديا وهاديا، داعب أوتار قلبه وأهداب عينيه فرحل لموطن الناي الحزين، فأمضى العمر في نشيج ونواح شوقا وتوقا، وقرون بينيه وبينه أزمان الهمة، وما همَّه كل ما كُتب عنها طوال هذه السنين، وما همُّه في النهاية غير إحساسه، وخبرته، وشهادته وتشغيله ... فجثا على طاولة الشباب كغيره بقاعة الفحص ليتهجَّى المعطى علّه يلج مدرسة الحياة ولو لسنوات قلائل بالتعاقد.
 
 
دق جرس الخوف الذي يُعز فيه المرء أو يُهان ... ومد اليد المتثاقلة ليعد الأوراق التي عليه افتحاصها في أربع ساعات متتالية، فهي أربع حقا في العربية : نص الانطلاق فيها كان ل" جبرا ابراهيم جبرا " اطلع على الأسئلة، تهجى بعضها ولم يميز بين نوع الأنماط السردية، ولم يدرك مغزى محطات الحياة في الكتابة السردية، ولا مقاطعها، ولا الفرق بين تعليل الأحداث والتعليق عليها، ولا موقع المفردات ولا الجمل من الإعراب، ولم يثر انتباهه غير الأسئلة التي تبتدئ بالتذكير والتأنيث : ركب ركبي، صغ صغي، بين بيني، حدد حددي، أعد أعيدي ... فتعمقت لديه إشكالية التذكير والتأنيث في المجتمعات النامية التي قرأ عنها سنين مضت ...طقطقت مفاصله ،وشده التبول وكثرت المواجع بأحشائه ... فارتجف القلم بين أصابعه ... انقلب أحمد للوراء وقلب الورقة من اليمين لليسار ومن فوق لتحت، ولم يفهم الوضعية المشكلة، ولا المشكلة الوضعية، ولا الفاعل ولا اسم الفاعل والآلة ولا الكتابة الذاتية ولا أنواعها، فرمق بجانبه فاطمة الزهراء، الزعراء كما كانت تلقب أيام النضال بالكلية  من العيون الباحثة عن دفء المداعبة  أو حتى الكلام، والتي لم تكن تعر الطلبة القادمين من بلاد وَزّون  اي اهتمام ، اكتنز جسمها كثيرا وغارت عيناها المدورتان وما بقي من  " الزغبية " ومن جمال مُحياها غير بعض الحروف كما يُقال، وهي واقفة في العقبة أكثر منه  فسبحان مبدل الأحوال.... طلب الخروج للمرحاض فرافقه حارس خاص وحمد الله أنها لم تكن امرأة، فتعجب.. كم هو مهم هذا اليوم أصبح له حارس خاص، يسهر على سلامته في الطريق الطويل المؤدي للمراحيض البعيدة ، قضى حاجته بألم  كبيرفي البواسير وما خرج الخبث من الدبر إلا بشق الأنفس... وعاد يمشي الهوينى وحارسه الشخصي يتبعه من الخلف ،فتذكر بعض ما قرأه سابقا في بعض الأشعار الثورية" من كان منكم عالما سأجعله حارسا لكلبي " فافتحص العبارة لاسترجاع ما له علاقة في المعنى بحاله الحالي ، فقطع تفكيره الوصول لباب حجرة الافتحاص.... دخل من جديد وفكر في الخروج ثانية لأن تفكيره في العبارة انقطع ، ولأنه أحس بقيمته والحارس يتبع خطواته، ورغب في تقمص الدور مرة ومرات ... حذق ذات اليمين وذات اليسار، حك جنبه فطوى أوراقه دفاتر أيامه ووقع وانسحب محاولاً أن يلحق بزمان رحل وانتهى، أقعِده العجز بباب الحجرة المعدة للافتحاص فاستطاع أن يتلمس بحاسة القلب أنه أمام قصة حياة فريدة، زاخرة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر...
 
رحل أحمد الذي ناهز الخمسين سنة يمشي الهوينى على طول الشارع العام أزعجته سيارة الإسعاف وسفارة تنظيم المرور، وتذكر أنه لم يذق ذات يوم طعم العيش النقي طول العمر ،وتيقن أنه سيموت عازبا تاركًا وشمَ الخزي على الحياة ... خاطب قلبه قائلا... تنهد أيها القلب ما شئت لأنك أنت الذي لم تُلبِّ حظك، حين طلبوك في سن الثلاثنيات يوم كان وعيك ثاقبا لتكون حارسا لكلاب برواط عنق وراعيا لضباع  بألسن طويلة ومؤنسا لبعض الأسد النقية  القليلة مثل كل النبغاء من سنك، ليكون لك شأن في الحياة فامتنعت ، فبقيت عنيدا منتصبا مرفوع الهامة حتى رحل العمر... مرت ربما آخر تجربة في عمر الطالْب احمد ويقن أن كل العطارين اجتازوا بسهولة حواجز مدن الحب السبع ،بينما لا يزال هو في الزاوية الأولى من الممر الضيق ...رحلت السنون وكانت هذه آخر تجربة في الحياة فعاد لعشق التمني والصبر وترديد ما حفظه عن أبيه، رحمة الله عليه ،لن يغلق الله بابا حتى يفتح أبوابا والحمد لله على كل أمر وحال.
 
إضاءة: الشخوص التي في الصورة لا علاقتها لها بالشخوص الورقية في المكتوب، بل هي من ربورطاج أنجزته القناة الأولى في فترة المباراة وأي تشابه أو تطابق في الأسماء والصفات فذاك مجرد صدف لاغير.