ذ/ محسن الأكرمين

من جيل ذاق مرارة المحاكمات المفبركة، إلى جيل آخر سعد بقوسي حرية ولو مضبوطة. جيل المنزلة مابين المنزلتين (باختلاف فقهاء المعتزلة)، جيل تشبع بمتسع الحريات الداخلية والكونية، جيل كان حده السياسي و النضالي ضحل حين وصلت الفعل السياسي التخمة والميوعة السالبة.

عند كل كارثة مهما كانت مرجعيتها و أثر انعكاساتها المميتة، يتهافت الكل نحو المطالبة بالمحاكمة وكأننا نبحث عن أكباش فداء صغرى. فاجعة قطار بوقنادل أعادت إلى الأذهان كل الكوارث الماضية، أعادت الحديث في المسؤوليات البشرية و الأخطاء المهنية. فحين نطالب (بتفعيل قفص المحاكمة) عند كل فاجعة، فإننا نبحث عن مشجب سريع نعلق عليه الأسباب، ونتغافل عن موت الأحياء بدون كرامة و لا عدالة اجتماعية. فإننا نبحث عن مستقبل تحضر فيه العبرة في عدم التكرار،  و التفريط في المسؤوليات .

قد لا نجد اختلافا بيننا في قدسية القانون وتفعيله بيننا بالعدل، قد نختلف في موجهات تقديم (سارق البيضة واستبعاد سارق القناطير المقطرة...). ولكن ليبقى العدل أساس نهوض الأمم و الدول. قد أكون ممن أعجبوا برأي المعتزلة (المنزلة بين المنزلتين) و أعلن أن أمر الفواجع مهما كانت لن ينتهي بالمحاكمات وفتح أبواب السجون على مصراعيها. فالدعوة الأولى السليمة هي أمل الخير في التقدير الرباني والرضا به، فيما الثانية فهي تمتلكنا بوجود الاستثناء الحاصل في نواقص تخصنا بالتنوع، و النسب المتفاوتة. إنها أزمة تدني مستوى قيم في المجتمع، إنها أزمة مظاهر التحولات الاجتماعية غير السوية في التربية والوعي، إنها أزمة بناء حضارة أتلفت مشيتها بأرض المغرب. لما القول يحيلنا على تسبيق هذا كله؟.

إشكاليتنا الكلية إشكالية تدني مستويات القيم الوطنية والدينية فينا، ضياع  خاصية المعقول و السلوكات السليمة، ضياع التربية على الخير و الالتزام واحترام القانون والعدل. إشكاليتنا أننا ننتج التنظير الكثير ولا نطبقه على أرض الواقع إلا بالنزر القليل، ننتج الاصلاحات بكثرة ونضيع بوابات تنزيله. إشكالياتنا أننا أتلفنا أهداف التربية والتعليم السليمين، أننا بتنا نعيش (نص/نص) .

فبالرغم من هول الفاجعة، والمشاهد المؤلمة، هناك من استغل واقعة انحراف القطار ليقوم بفعل سرقة الضحايا بدل تقديم العون والإسعاف الأولية، دائما قولنا لا يحتمل التعميم. هناك من رفع من سعر تذكرة التنقل بين الرباط والقنيطرة. إنه الوعي الشقي كمتحول بئيس على منتوج مجتمع التحولات الجارفة. لكن لنقف احتراما لمن وقف في صفوف طويلة للتبرع بدمه ، نعم هنا تظهر المفارقة العجيبة بمن يعيش من ألم الناس ومن يحمل على عاتقه صدق المشاعر و التضامن الخير المدمج.

لهذا نقول، لا بد من مقاربة شمولية تحصن الوطن من مجموعة منزلقات مميتة،  لا بد من مقاربات تروم الى التربية السليمة على مكارم، وبناء السلوكات المدنية. لا بد من تحريك روح المواطنة الايجابية بالغرس، لا بد كذلك من خوفنا من القانون باعتبارنا سواسية أمام العدالة.