سليمان محمود - تنغير / جديد أنفو
وأنا لمَّا أزلْ طفلاً، أتذكرُ أنَّ رفعَ صوتكَ في وجهِ الاستبدادِ قد يُسبِّبُ لكَ قَطْعَ لسانك.. هي جانبٌ من ثقافة الخوفِ التي زُرِعَتْ في نفوسِنا ونحن أطفالٌٌ.. كان "المخزنيُّ"، وهو أضعفُ مرتبةٍ في أنواع قوى الجيش المغربي (القوات المساعدة) باللسان الشعبي، يُحِسُّ كأنَّه ملكٌ في مغربنا العميق.. أتذكرُ جيداً ذاك المخزني الذي يسعى في الأرضِ فساداً؛ يأكلُ مال هذا، ويسُبُّ ذاكَ، ويشتمُ أولئك، والكلُّ يخضعُ ويخنعُ.. أتذكَّرُ أنَّ آباءَنا يخافون عندما ننتقِدُ "المخزن"، ونحن بين جدرانِ منازلنا، كأنَّ جدراننا عملاء لـ "المخزن"، أو كأنَّ لـ "المخزن" آذانٌ سحريَّةٌ، أو قوى غيبيةٌ مُسَخَّرَةٌ لخدمته...
هي جزءٌ من قمعٍ واستبدادٍ تربَّى في نفوسِ أبناء الجنوب الشرقيِّ منذ سنواتِ الرصاص وما قبلَها، وما بعدَها، وما زال آباؤنا يأمروننا، خوفاً علينا، بعدم ذكر "المخزن" بسوء، لأن ذلك سيُبِّبُ لا محالة في حرماننا من "رؤيةِ ضوءِ الشمسِ من جديد"، مُلَمِّحين بذلك إلى السجون السريةِ والاغتيالات والاختطافات..
ثقافةُ الخوفِ هذه تحدَّاها رجالٌ، لكنهم اختفوْا في لمح البصر؛ فمنهم من اغتيل، ومنهم من اخْتُطِفَ، ومنهم من ضاعَ أثره، وما يزال سراً لم تُكشَفَ مُلابساتُه إلى يومنا هذا..
ثقافةُ الخوفِ هذه تحدَّاها بعدَ ذلك جيلٌ ثائرٌ تشرَّبَ قيمَ الحريةِ الممزوجةً بعلقمِ الإقصاءِ والتهميشِ.. علقمٌ عنوانُه: «Iglin à Muha» (مسكينٌ موحى!)..
"موحى" رمزٌ خطَّ سيرتَهُ رمزٌ آخرُ اسمُه "نبارك أولعربي"، المعروف اختصاراً بـ "نْبَا" (Nba)..
"موحى" رمزٌ لكلِّ أبناء الجنوب الشرقي خصوصاً، وكلِّ المستضعفين في المغرب العميقِ عموماً.. "موحى" الذي تحالفَ عليه الزمن بتعقيداته، والمخزن باستبدادِه وقهره..
"موحى" رمزٌ كَتبَ الذُّبابُ عن معاناتِه؛ فهو والفقرُ والمعاناةُ توأمان، ولم يشبعْ يوماً إلا قمعاً.. لم يشبعَ سوى من عصا "المخزن" الظالمةِ، ولم يحلمْ يوماً أن يصيرَ رئيساً أو وزيراً، وإنَّما كان كلُّ حُلمِه أن يعيشَ إنساناً حرّاً..
هي كلماتٌ ثوريَّةٌ صدحَت بها حنجُرةٌ فنانٍ غير عاديٍّ بإيقاعاتٍ قويةٍ مُستنهضَةٍ للهمم..
"نْبَا" دعا كلَّ "موحى" للاستيقاظ من غفوةِ الخوفِ، وتحدِّي الظلم والقهر..
Fafayat ayid Muha.. Tankra ayid Muha
إذ المتحكمون في القرار يرغبون، لو أمكنهم ذلك، إحراقُ كلِّ حرٍّ مُزعِجٍ..
Widrk yumzan murufin sighnak Afa
بهذه الدعوات القويَّةِ العبارةِ، والشديدةِ اللهجةِ، التي تعبقُ بروحِ الحريَّةِ والعدلِ والكرامةِ، حرَّرَ "نْبَا" الكثيرين من أوهامِ الخوفِ، ووُلِدَ مع ميلادِ مجموعته "صاغرو باند"، الكثيرُ من الأحرار الذين لا يخافون إلا من العبوديَّةِ، ولا يقبلون إلا بالكرامةِ، رافضين كلَّ أشكال التهميش والإقصاءِ..
بهذه الدعوات القويَّةِ العبارةِ، والشديدةِ اللهجةِ، التي تعبَقُ بروح الحريَّةِ والعدلِ والكرامةِ، حرَّرَ "نْبَا" النفوسَ المُكبَّلةَ بقيود الخوفِ من كل ما يمتُّ بصلةٍ بالدولةِ.. وسلاحُه في كلِّ هذا فكرٌ حرٌّ، وكلماتٌ وألحانٌ، وقيثارةٌ تعانقُ بنغماتها القويَّةِ النفوسَ التَّوَّاقَةَ إلى الإنسانيةِ الكاملةِ..
لستُ أعلمُ، أيها الراحلُ بجسدِه عنا، أنفرَحُ لحلول السنة الأمازيغيةِ الجديدة التي تصادف 12 ينَّايْرْ، أم نجزعُ لرحيلك الذي يُصادِفُ 09 يناير؟
أتكونُ ذكراكَ تاريخاً جديداً لأمازيغَ عاشوا القهر والظلم.. أمازيغُ "موحى" الذي ضاع في مغربٍ أرادوه غيرَ نافع، وهو أنفعُ مغربٍ؟ نعم، أنفعُ مغربٍ، لكن للمستبدين بكل شيءٍ.. أنفعُ مغربٍ لأسماءَ بعينها.. لكنه مغربٌ غيرُ نافع لأهله.. لــ "موحى" الذي غنَّيْتَ له، وصرخت في أذنه لعله يستفيق، لما دعوته، وعَبْرَه كل الجنوب الشرقي من إمكون إلى امسمرير، ومن تازارين إلى تنغير، وعبرهم كل المستضعفين في هذا البلد، أن يستفيق من غفوته؟
مات "نبا".. كلامٌ سخيفٌ، لا يقوله إلا من لا يعرفه، فالعظماءُ لا يموتون.. إذ تموتُ أجسادهم، لكنهم بفكرهم باقون.. فأغانيه خالدة لا تموتُ.. وأفكارُه تسري في عقول ووجدان ونفوسِ كلِّ أبناء المغرب العميق خاصةً، وكلِّ إنسانٍ حرٍّ عامةً..
ماتَ "نبا" كلامٌ سخيفٌ، لا يقولُه إلا من لم يَعِ عُمقَ التغيير الذي أحدثه في فكر الجنوب الشرقي بثَوْرِيَّتِه..
العظماءُ لا يموتون يا سادةُ وسيدات!.