• أيوب كريم (*)

الكتاب المعنون بــ: "بين القصيدة ... وحزن الناي"، للشاعرة مالكة حبرشيد، هو وليد المسمى ( قصيدة النثر le poème en prose)، من منشورات "مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام" بخنيفرة، لكن لا بد أن نتبين، قبل كل شيء، قصيدة النثر من عصيدة الشر، وأن نسأل عن روح الشعر من سجيته، إنه كالبشر تماما، كثيرا ما نغتر بالقشور دون أن ننفذ إلى لباب الأمور، وقد قرأت، منذ أمد غير بعيد، كتابات تمس هذا الجنس، مختلفة كاختلاف القصيدة، تتحكم فيها البيئة والثقافة والعصر، وفات لفكتور هيجو أن مهد لديوان "الشرقيات" قائلا: "سواء أكتب الشاعر شعرا أم نثرا، وسواء نحت في المرمر أم صب تماثيله من البرونز ...فهذا رائع، والشاعر حر"، ومن عاش حياته في موروثه سيعي جيدا كيف يتحدث ويفكر.

فلنسلم بأن الشاعر حر، ألا يؤدي هذا إلى الفوضى؟ كما أن النظام أيضا قد يقود إلى نفس المرام، لكننا نميز بين ذلك بأن يكون وسط الفوضى نظاما قليلا، بينما يكون وسط النظام فوضى كثيرة، فالشعر ليس هو فن نظم الشعر، وفن نظم الشعر لا يقتصر فقط على العروض والشكل الكلاسيكي القديم، والحرية لا تعني هتك كل الجوانب البنائية لـ (قصيدة) وإلا فإن كل كتاب النثيرات يعجزون عن التقريض و التمرد لكي يصبحوا شعراء.

يحق لنا أن نكتب بصوت مختلف تماما، وأن نحرث الأرض بمحراث يختلف عن ذاك الذي حرث به أجدادنا أراضيهم السالفة، ولكن اعلموا أيضا أن المشاكلة والصدق في نبض إحساس الشاعر لهو مصدر ثقة عند القارئ لبلوغ عتبة القصد، فالطبيعة والثقافة وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن أن تضطرب هذه إلا و تليها الأخرى، كما لا يمكن أن تستقيم هذه إلا بتلك، والإنسان الشاعر مبدئيا هو كائن بيوثقافي، بمعنى أننا قد نظن أن الوزن الذي ضاع في الثقافة قد ضاع قبلا في الطبيعة، ألا يكون هذا صحيحا؟.

ونلتقي مع كتابات الشاعرة مالكة حبرشيد، كتبت منها إليها، قصيدة نثر، محافظة على سمات الشعر المعاصر، عمقا وصورا وشكلا ... وقد أخسرت الزمان رهانه عندما واصلت بين الغابر والحاضر في أقنوم كان أبرز ما علق على ذراعيه (الذات والوجود).

يكتب عز الدين إسماعيل في كتابه التفسير النفسي للأدب قائلا: "النفس تجمع أطراف الحياة لكي تصنع منها الأدب والأدب يرتاد حقائق الحياة لكي يضيء جوانب النفس، والنفس التي تتلقى الحياة لتصنع الأدب هي نفسها التي تتلقى الأدب لتصنع الحياة، إنها دائرة لا يفترق طرفاها إلا لكي يلتقيا "سوف نطرح هذا السؤال، هل على الأدب شعرا كان أم نثرا أن ينقل حال المجتمع بشكل مباشر ويكشف أمراض واقعه أمام القارئ تاركا له مساحة التفكير في بدائل علاجية؟ هل الأدب مرآة لعصره إذن؟.

إنني أجد الشاعرة في ديوانها المميز مخلوقة من الفكر والعاطفة معا، ثم وهبت الكلام كشأن كل أديب ينماز بالتعبير عن ركود أو نهوض بأصالة وفرادة، وذلك قول جبران خليل جبران في البدائع والطرائف، ويمكن للقارئ أن ينظر إلى عصره في هذا القول:

على خشبة مسرح وقفت

أقدم عشتار في عشقها الأبدي ـ دلالها ووفائها ـ

فاجأتني الخشبة لرفضها لمحتواي:

شخصية عصر مجهول

لا ينتمي إلى الزمان

لا يعترف به المكان

فصوله خارجة عن دائرة الكون ... [1]

الانشطار، نحن الآن في هذا العصر، بغرابته وكآبته، فوق خشبة تراجيدية، عندما بدأت التساؤلات الكبرى تشغل النفس البشرية وتبلبل خاطره، ها هو ذا الكون مسرحا والأرض خشبة تقبل أن تمثل عليها مشاهد يوميا، إن كل ما نراه في هذا العالم الصارخ بالمآسي مسرحيات تراجيدية لا تأبه بالقدر! هي الدروب والمدائن والذوات الكلمى التي ما لبثت أن تعلن حالة اضطراب، أليست ضربة موجعة لكم إذا شعرتم بالغربة في الكون؟ هذا امتداد لفكر نيكولا كوبرنيك، الناس ليسوا مركز الكون أبدا ولتتحطم النرجسية.

إن ما يسمى بـ (الميتا) في شعر مالكة حبرشيد يكشف لنا نظرة الأديبة للعصر الذي تعيش فيه، إذ الأدب وليد عصره كما يقولون، ولا أستبعد في شعرها نقل هذا الواقع غابره وحاضره بصور تعكس المعيش، ولذلك، لابد أن تكون، بل هي تحمل على عاتقها التعبير عن أسئلة وجودية كبرى، الإنسان، الحب، الحياة، الماضي، الموت، الغرابة، الذات... يطل صخب ـ حي تعلالين ـ

النابت عند سفح ـ باموسى ـ

صخب النسوة..

وهن يغزلن الصوف

على سطوح منازل ..

تشهد شقوقها على مرور الطيور الجارحة (ص : 11 )

أرأيتم الآن صورة "تعلالين" و"باموسى" والسطوح ... تخيلوها صورا فوتوغرافية , وأضيفوا هذه الإشراقة في السطر الأخير وهي تعد من السمات المميزة لقصيدة النثر .. إني لا أعرف الواقع حق معرفته إلا في الأدب والفكر، والشعر وجه من وجوه تعبر عن صخب كبير، ليس فقط ما هو معكوس في ما هو مرئي وإنما أيضا ما ينعكس على الذات الشاعرة التي يشبهها الأدب الفرنسي مع هيبوليت تن ببذرة، ولا يمكن أن تثمر إلا بأرض خصيب وماء وهواء وسماد ... لكي تكون البذرة نبتة ثم شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين، هكذا هو شعر مالكة المحفوف بالجوانب الاجتماعية والتاريخية والنفسية ليستقي من منابع في الوجود مرسلا صورا تجسد هموم واقعنا المعيش، إذ الشاعرة في ديوانها المذكور، لها "رؤيا" خاصة في ما هو موضوعي واجتماعي، وتخوض فيه بجرأة كي تعلن أن لا شيء أصبح موزونا، لا في الطبيعة، لا في الثقافة، أليس ذلك صحيحا إذن؟.

فهذا الشعر ثمرة من ثمار عصره , و هذا ما قد يتم تأكديه عن طريق نفيه و النفور منه، إنها تقول في قصيدتها "على جبين الريح تستوي ... آية الرماد" ص : 20

أوقدي انحيازي إلى الشمس والماء

لا أريدني ثمرة

تستهويها الأغصان المنحنية فوق رمال التيه

تدرون جيدا، أن كثيرا من الشعراء ينحون منحى التكثيف والعمق الدلالي في الآونة الأخيرة، لا سيما عند بزوغ ظاهرة الشعر المعاصر، فقد نقول أحيانا عكس ما نود قوله ويكون ذلك أبلغ وأوصل للمعنى المقصود عبر المعنى المعروض، ولا يمكن من شعراء قصيدة النثر الحقيقيين أن لا يشملوا على فكر وزاد كبير يمكنهم من مسايرة هذا التغيير والتجديد وموقعه من دائرة الحداثة، فالحداثة ـ كما تراها خالدة سعيد ـ هي "ثورة فكرية" تتعلق بتصور العالم والكون والحياة والوجود تصورا جديدا و ليس مجرد تمرد على الوزن والقافية أو على نظام السرد، و لذلك فالشاعرة تشرب هنا كأس واقعها بكل ما فيه من مرارة لئلا تكون دعوة إلى السريالية، فهو نقل لما لا يراه الكثير من الناس، وهؤلاء هم الشعراء،   متشبثون بقناعاتهم وسط غيوم كالحة مالحة .

هذا و أقول، هناك ميكانيزمات عديدة في هذا الديوان، تم استخدامها لأجل الوصول إلى هذه  المرآوية"، من بينها التكثيف والرمز الاجتماعي والتشكيل التراثي والقدسي، وكذلك اللغة البسيطة المبنى العميقة المعنى ...، حيث تأتي الصور من خلالها كلها تعبيرا عن حرقة في الوجود وفي الشعر، وفي كل ما يحيط بالذات الشاعرة،  إذ المرام الأول في هذا الكتاب، بوح من أعماق الذات إلى أعماق الكون، في زمن أصبحت فيه التغاريد تفوح بأنغام شجينة، معلنة، أن من كان سر الوجود والخلود بتعبير جبران، أضحى الآن نايا بلون أحمر مثير نازف، لأنه شعر مبني على ما يختلج بين أعمدة قضايا كبرى لهذا العصر، ليسعى وراء الكشف والتعرية والتغيير والتطهير، إنه عمل شعري يهدف إلى تصوير واقع متحطم ويفضح عيوبه ويثير الفزع في من يعيش ذلك الواقع الموضوعي، إنه عمل يشكل وعيا آخر للإنسان حيث يدفعه لمعرفة التحولات والتغيرات الطارئة، بل و يدفعه لكسر كل الطابوهات ..

قد صدق الوعد

وصار للزوج زوج

للأنثى ... حظ الذكرين

ومواكب لشوارب

تحتها يتراقص الأحمر (ص : 29 )

وتقول:

سماؤنا أنفاق سحيقة

للألم الإنساني

وحشة اللحظات تتوغل

في الأجساد العطشى (ص : 57 )

تعال يا أبانا أرسطو، ماذا وجدت الشاعرة في نظريتك السائدة منذ عهدك القديم، من يعشق الحقيقة لا يهم أن يبدل الكائن إلى الممكن، مع أن ليست ثمة حقيقة أصلا .

إن كتاب أرسطو "فن الشعر"، لا يعد مرجعا لدى الغربيين وفقط، بل إنه استطاع أن يترك تأثيرا كبيرا في الثقافة العربية، فكان من الكتب الأولى التي ترجمت إلى اللغة العربية آنذاك، و لقي اهتماما كبيرا من طرف النقاد والفلاسفة العرب المسلمين أمثال ابن سينا والفارابي و ابن رشد ... الذين تأثروا بالفكر اليوناني وتبنوا كتابه، بل نجد صيت هذا الكتاب حتى في ثقافتنا المعاصرة، و هو موجود من خلال الأفكار التي يطرحها المثقفون في الثقافة العربية،  نجده كذلك في التقسيم الذي وضعه محمد عابد الجابري للعقل في كتابه "نقد العقل العربي"، حين قسمه إلى ثلاثة أقسام :

العقل البياني: وهو العقل العربي الخالص لأن العرب ورثوا البيان من الشعر الجاهلي ثم من القرآن الكريم .

العقل العرفاني: واعتبره العقل الذي تأثر بالمعتقدات التي كانت قبل الإسلام، و هذا العقل يقوم على فكرة وحدة الوجود، أي أن الله يتجلى في الكون.

العقل البرهاني: يقوم على البرهان، والبرهان يقوم على المنطق، والمنطق يقوم على الفلسفة، وبما أن أرسطو يعتبر فيلسوفا ومنطقيا فإن محمد عابد الجابري قد صاغ نظرياته بالعودة إلى أصول علم المنطق.

وبالعودة إلى الحديث عن ديوان الشاعرة مالكة حبرشيد، نسأل ما علاقة هذا الشعر بكتاب فن الشعر؟ إذ إن أول ما يتبادر إلى الذهن عندما نتحدث عن كتاب أرسطو هي نظرية المحاكاة، أو ما يمكن أن نسميه بالمرجعية الشعرية أو مصدر الشعر، معناه أن مصدر الشعر هو محاكاة الواقع، وهذا يختلف عن النظرية المرآوية، وإنما المحاكاة هي الاتصال بالواقع الممكن لا بالواقع الكائن، معناه أنها ليست محاكاة لواقع موضوعي، بل هي محاكاة لواقع متخيل، وهذا في نظر أرسطو ما ينتج لنا نصوصا متعددة بالرغم من وحدوية الواقع، وبالتالي فإن التصور الأرسطي يذهب إلى أن الشعر إنما هو إعادة خلق للطبيعة ومحاكاة لها وللناس.

إننا انتقلنا الآن في ديوان يحتوي على اثنا عشرة قصيدة إلى عالم ممكن بعدما ذقنا قرارة الكائن، فالأستاذة الشاعرة تحلم في بناء واقع آخر غير الذي نحن فيه، فهل هو هروب من آلام عميقة كعمق الشعر؟ أم قد يكون تطهيرا من كل هذه الانفعالات؟.

إن فيما يبدو حقا، أن ديوان "بين القصيدة ... و حزن النا " لهو محاولة جادة لمحاكاة طبيعة متمردة، إيمانا منها بالاقتراب مما يمكن أن يكون، ولذلك تأتي الصور الشعرية مشابهة لما هو معروف، فليس من الضروري أن يحاكي الشاعر أحداثا وقعت أو ذاتا بعينها وإنما أوجه الحياة من حيث شكلها وجوهرها، فالشاعرة حاكت الواقع الذي تتمثله وتتخيله في ذهنها هي، و ليس عالما مثاليا يصعب وجوده، و بالتالي فنحن أقرب لإدراكه كما أدركته ..

يصاب الماء بالعطش

و كان أن جفت الأكف ..

العيون أصابها الكفاف

والناس خلف الشياطين تحتفي: (ص : 49/50 )

ظهر في القرن الثامن عشر من أكد قول أبقراط "المثل يعالج المثل" مع صامويل هانيمان الذي جاء بما يعرف بــ "الهوميوباثية" وهي نظرية في الطب تقول إن الداء يعالج الداء، لنتأمل قليلا، لماذا نحاكي مآسينا؟

بأبجدية عشق ... كنا نكتب الشعر

اليوم نكتبه بياضات تروي

انتظاراتنا العالقة في جوف الريح (ص : 75 )

هذه إذن كتابة لمحاكاة تصارع الموضوعي بالمتخيل من أجل التطهير من الانتظارات، وما هي إلا خيبات وارتجاف وخوف وحنق وخداع، هو ذا صراع القيم، صراع النفس البشرية وتخبطها في انتظارات بئيسة،  صراع من أجل الكشف والتعرية ومطاردة العقدة التي تكتنه الذات، صراع الأحاسيس والعواطف، صراع من أجل الانتصار للإرادة المجتمعية، صراع من أجل فك شيفرة الأسئلة الوجودية الكبرى والمشكلات السيكولوجية العميقة، غير أن شعر مالكة حبرشيد  لم يقف عند هذه التخوم بل هو دافع بشكل أو بآخر إلى الغوص وخوض مغامرة التنقيب عن الذي يتغنج وراء هذه الكتابة التي كتبها قلم من جمر .

ليس بغريب أن نجد في تجربة راكمت من الشعر دواوين عدة، هذا التمازج بين الموضوعي والمتخيل، وبين المرآوي والمحاكى فيكون بينهما انتقال من الكائن إلى الممكن ومن الممكن إلى الذي كان، وإن قراء هذا الديوان، سيكتشفون أن الشاعرة مالكة حبرشيد انتماء و تجاوز في آن واحد، استطاعت أن تلعب بدائرة الزمن، وقد أعلنتها صراحة وجرأة أن لا تاريخ لولادتها كشاعرة، كما أن لا تاريخ هناك لطفولة الشعر، فإذا كانت الذات الشاعرة ما تزال برباطها السري وتمتد إلى اللابلاد واللاحدود، جوالة غجرية، غجرية الأرض والسماء، أو نقول هي نفسها أسطورة غجرية، فإنها هنا تمدنا بمصير مؤلم، وهو أن الاضطراب تعدى حدود هذا الكون، إنه سفر مختصر وواحد من مراكب الشعر البهيج بألمه، بين الهنا والهناك، بعيدا عن الشكل و المضمون، ما دمنا جميعا غرباء في الكون بزمانه و مكانه ..

(*) شاعر من خنيفرة