زايد جرو -  الرشيدية / جديد انفو

لا أدري كلما حل  موعد  تخليد يوم المدرس إلا وأرغمني القدر للعودة القهقرى سنين لرؤية التيه و الذوبان  ،فقد أبت مدرستي التي سكنتني بسقفها الخشبي من جذوع النخيل وسعفه ،وبقايا كتب قديمة مهجورة في الزاويا المنسية من الحجرة ،والمرتبطة بالأشواق التي تقابلني في كل زيارة خاطفة  أن ترحل، ولو في صمت ….  

فوق كل طاولة خشبية بمحبرتها الداكنة في الزرقة حفرتُ مدرستي شقاوتي …  في مدرستي  كنت أفك الحروف العربية بيسر لأنني حفظت من الفرقان الكريم حتى سورة الرحمان ، ولم أواصل الحفظ ربما لأن  لغته غير لغتي او ربما شيطانة شعري كانت حليفا يلازمني في الدرب ….،حين تنتهي حصة الصباح  ويطوي معلم الصبيان كتبه، ونأكل ما تيسر من الإطعام المدرسي أسلك الطريق الوعر بين النخيل والزيتون دون الأعناب، فأدخل البيت الترابي الذي نقتسمه مع الدواب التي لا تزعجنا رائحة روثها  لأنها أنقى من رائحة  مؤخرة  الكثير من الأدميين بروابط الأعناق،فلا أخلع ملابسي التي ألبسها في الصف وخارج الصف ،فأتمدد فوق الحصير، وأدفن وجهي في الجدار رغم يأسي من نوم قريب… ومن حين لآخر أسمع مناديا عن منآى يقول : نم ثم نم يا بني فالنوم عبادة لأمثالك وما أسمعه  طبعا  إلا همسة ندية ولغة عميقة  من أعماق الجحيم الدفين المتطاير…..

نعود في الحصة المسائية لفتح  قراءة  "اقرأ " من جديد اتأمل صورة الدفة الأولى من الكتاب حيث صورة لطفل يقرأ ويتوسط طفلتين : واحدة  بضفيرة  قصيرة وأخرى بدونها ،أطل من جديد خلسة من معلمي …وأضحك  من نفسي بين نفسي، ولم أنتبه  بعمق أن الابتسامة نابعة من الأحلام المفزعة المتأججة التي تخبو دون أن تختفي فأقول:  هل يمكن أن أكون أنا من يتوسط النقاء  ويقرأ ؟ وأرد ممكن بالاجتهاد ،ولكن  المشكلة أن لباس الطفل  أنيق ومن أين تأتيني الأناقة في الملابس   وانا المغبر من العمق المنسي، فلا يجب لصاحب الجلباب الصوفي أن يحلم كثيرا ،وألا  يزعج الآخرين  بأحلامه، وحتى إذا قدر الله ،وحلم وتصدق عليه أحد بلباس لائق، فأين سيجد الفتاتين ليتوسطهما  بهذه المواصفات  …

أرجع لنفسي بدل أعود وأقول :إن الحلم حلم وهو ليس لي ولا لأمثالي ثم أستأنف متابعة معلمي  في التلاوة ولا أدري أين وصل مع أصدقاء الدرب في  قراءة الأسطر  والفقرات ….فلا يمكن أن أنسى شيطنة زميلي الذي تنبه ذات يوم إلى كوني أسبح كثيرا  في الحلم ،فتربص بي وقال : المعلم يقول لك تابع القراءة، ووضع لي أصبعه في السطر ، وتابعت بصوتي الجهوري الأجش وضحك الجميع من سخافتي وأكلت من العصا ما تأكله الدواب "المتحمرة " وما يأكله الطبل المجلد من الضرب.…فلا أبخس ما تعلمته من  مدرستي ولا من قراءة" اقرأ" ..فكم هي جميلة متعة قصيدة: يا إخوتي جاء المطر ..هيا اجلسوا تحت الشجر …خذوا مني الزهر،…ولن أنس ما حييت  نص "مثل الساعة ": تِك ْتَك، تك تك دوما أبدا ..رتب وقتك ،احفظ درسك ،هذب نفسك،...ولا أحلى من نص يوسف يمثل ….تعالوا نمثل ..ماذا نمثل ؟ نمثل الأب….ساعتها أعطيت للكلمات ما للكلمات ،وللحب ما للحب، ولم أترك لغيري البقية ولو ذكرى مستعصية … يسأل أحمد كل الأحمديين حين كبر قليلا ، أنه مصر على الحفاظ بالرؤى غير الطيّعة  لجيله ،وتذكر جيدا كلام معلمه القصيرة قامته، حين رغب في الاستراحة  قليلا فقال: انتبهوا ….فضرب اللوح الأسود  ضربات خشنة متتابعة قوية وغاضبة : الآن اكتبوا ما شئتم على ألواحكم  بصمت  ،ولا تتكلموا حتى أناديكم ،ولم أتوان َفي التفكير فكتبت مسرعا :" أحبك معلمي "،فلما قرأ ما كتبت  جهارا ، اندس الجميع بين الجميع احتشاما وتأسفا على وقاحتي من غير قصد ،ولحسن حظي لا حضور للإناث بيننا فهن للحطب، وجلب الماء على الأكتاف ورعي الحمير والبغال والمعز،...فعَيْب في زماننا أن ننطق بكلمة حب وإياك إياك  أن تقترب حتى من الكلمات التي في بدايتها حرف الحاء ك : حور وحب وحنين وحلب و….. أما الآن يمكن أن تتكلم بأي ضمير تشاء وأن تحكي بلا خشية كل القصص التي لا نهاية أو بداية لها على الإطلاق

أحبك  معلمي رغم العصا وحبك لا ارتباط له  بيوم ولا  بساعة ولا بسنة  وأحبك مدرستي رغم الشقاوة، لأنك لحظة  من لحظات عمري فيها المودة والعشق الأبدي لك  ولا يمكن قطعا  أن أصل ذات يوم  إلى  الشبع أو التشبع  أوالتخمة أوالاستخفاف منك ولا من معلمي .