محمد بوداري - جديد انفو / متابعة

عن دار المختار للنشر والتوزيع (مصر) صدر للأستاذ حسن إبراهيمي، أواخر عام 2018، كتاب تحت عنوان "كسرة خبز"، صنفه المؤلف في باب "شذرات أدبيّة". ويقع الكتاب، الذي صممت غلافه سعاد العتابي، في ثمانين صفحة.
 
شذرات الاستاذ حسن إبراهيمي، الموسومة بـ"كسرة خبز"، لا يمكن ان تبدأ في قراءتها دون الإنخراط في معمعانها حتى النهاية، فهي تفرض عليك جاذبيتها أو لنقل "سلطتها"، إذ لكل نص سلطة ما يمارسها على القارئ، إن على مستوى الاسلوب المشوق الذي كتبت به أو المعاني والأفكار التي تعج بها، وإن كان من الصعب كشف كُنهها، على الاقل منذ الوهلة الأولى.
 
والكتابة الشذرية من الفنون الأدبية التي انتشرت في السنين الأخيرة ولاقت إقبالا كبيرا سواء من قبل المبدعين، شعراء كانوا أو روائيون، لما تتميز به من قدرة على الإيجاز وتكثيف الأفكار والمعنى، أو من لدن المتلقي الذي يجد متعة في قراءتها خاصة إذا كان مبدعها ملما بناصية اللغة وما تزخر به من إمكانات التبليغ والإمتاع على حد سواء..
 
ولئن كان بعض النقاد ومؤرخي الادب يصنفون في باب الشذرات بعض ما كتبه المثقف الموسوعي "أبو حيان التوحيدي"، ويعتبرون فلسفة هيرقليدس، وبرمنيذس، وديمقريطس، كشكل أول لظهور الشذرات، المقطعية في الكتابة كما يسميها البعض او الفصوص كما يسميها البعض الآخر، إلا أن الشذرة لم تكن شائعة بعد في مجال الكتابة والتأليف حتى ظهور "خواطر" باسكال، التي عرفت بهذا الاسم، ثم أعقبتها "اعترافات" جان جاك روسو، لتصل ذروتها مع أعمال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي دشن أسلوبا جديدا في الكتابة ومنهجا خاصا في التعبير من خلال "هكذا تكلم زرادشت"، و"نقيض المسيح"، و"أفول الأصنام"...إلخ، وأميل سيوران ذي الأصول الرومانية، في مؤلفاته "توقيعات" و"المياه كلها بلون الغرق" و"لو كان آدم سعيداً"...
 
كما ان روج الشذرات يمكن أن نلمسها في كتابات رجل الدين والفيلسوف الأمازيغي القديس اوغسطين، خاصة اعترافاته، كما أن العديد من الإبداع المغربي، خاصة في شقه الأمازيغي، يتضمن ملامح الشذرات على مستوى الحكم والقصر، وإن كانت الشذرات تنتمي إلى الكتابي أكثر من الشفاهي الذي يميز وضع اللغة الامازيغية التي عانت من التهميش منذ قرون..
 
"شبق نصوص صدحت لثمالة أفواه على الرصيف"، هكذا قدم حسن إبراهيمي مؤلفه "كسرة خبز"، قبل أن يضيف انها " شذرات نسجت أغاني العزة لدماء الشهداء"، وهي استهلال قد يسعف القارئ في تلمس بعضا من مضامين الكتاب الذي قال عنه المؤلف في حديث معه إن "مدخلها الاخفاق الذي يعيشه الشارع السياسي" في هذه الرقعة المسماة "العالم العربي".
 
هي إذن شذرات تلامس واقعنا بكل ما يعج به من مآسي والإحباطات والأحلام المكبوتة فينا بفعل تردي الوضع وقهر المستبدين، إلا أن المؤلف ينتصر فيها للامل ويستشرف المستقبل الذي لا يمكن ان يخون ارواح الشهداء الذين رحلوا وفي عيونهم وميض أمل، وليس غريبا ان يقول عنها الاستاذ حسن إبراهيمي إنها " شذرات نسجت أغاني العزة لدماء الشهداء"، كما ان إدماج عبارة "دماء" مكتوبة باللون الأحمر، وسط عبارة "الحرية" بلون أخضر (ح-د-ما-ر-ء-ية)، إشارة قوية إلى ان لا حرية بدون معاناة وبدون كفاح ..
 
يعلن المؤلف منذ البدء بانه والوطن سيّان، وباسم هذا الوطن وباسم مواطنيه الفقراء والمقهورين فإنه يرفض القمع ومنع المواطنين من الاستفادة من خيرات الوطن وتحويلها إلى ريع في يد المفسدين..هكذا يمكن "تأويل" الشذرة الأولى من ّكسرة خبز" التي تصدح على لسان المؤلف : "لست سواك يا وطني عانقتك في أفواه المعتوهين، والفقراء...عانقتك في كل كسرة خبز تصدح في الشارع.. في وجه القمع.. في وجه كل المتارس التي تمنع المارة من اقتطاف وردة في كل حقل يسقى بدماء الشهداء... لست سواك يا وطني، وباسمك أقول للتجول في كل حقل يسقى بالغدير، ولكل من يلتف ليحول زرعه بطانة تتملق لتحول الحياة الى رماد، بعد كل انتصاب لجمر في فلعة الشرفاء".
 
واستعان المؤلف بتجليات الطبيعة لدعم القضية التي يدافع عنها، ألا وهي محاربة الظلام والقمع والاستبداد، والأمل في مستقبل مشرق وخال من الاغلال والاستغلال، وفي هذا الصدد تتواطؤ(بمفهوم إيجابي) الاشجار والأشجار مع المؤلف حيث "اتخذت الشمس من الأشجار مظلات لها... لمنع الظلال من معرفة كيفية انتشار ضوئها في ميزاب السماء"..
 
كما "تتحاشى الشمس المرور منفردة في الظل تجنبا لاصابتها بالسواد"، و"تنقل الأشجار حرارة عدم انحنائها لظلالها في كل فصل صيف لا ينحني أمام الربيع"..
 
ويعرّي الكاتب كل الوصوليين والانتهازيين من خلال شذرة تعلن: "تقتفي الظلمة أثر ضوء بعد عدم قدتها على الضياء"..
 
الغموض الذي يكتنف شذرات الأستاذ حسن ابراهيمي، راجع إلى غموض واقعنا وتعقده وعدم حسمنا في عديد أمور قطعت معها الإنسانية منذ أمد بعيد..
 
وهذا التعقد الذي يسم واقعنا يجد له امتدادا في شذرات "كسرة خبز"، التي تمتاز بالدقة في رصد ما يمور به الواقع. كما أن هذا الغضب والاحتجاج والتمرد والتذمر المنثور على طول شذرات الكتاب، هي صرخة في وجه المجتمع المعطوب الذي نعيش فيه والذي استعصى تفكيكه-ومن تم تغييره-على الفلسفة والفكر وكل انواع التفكير، وهو ما دفع بالاستاذ حسن إبراهيمي إلى تجريب هذا الجنس الأدبي علّه يحرك من خلاله ساكن الواقع المرّ المستبد بنا وفينا، والذي تأبى غيومه ان تنقشع عن شمس ساطعة..
 
ويشكو المؤلف غياب العدل في شذرات كثيرة ضمنها واحدة جاء فيها أن "الحياة لعبة أرجوحة..لاتوازن بين اللاعبين..فتارة تصاحب عيوننا من يتهيئون للصعود، وترة نأسف لنزولهم إلى الحضيض..دون استحضار من قفزت بهم الأرجوحة إلى أسفل اللعب."
 
وقد نهل المؤلف في نسج شذراته من قاموس لغوي يمتح من الطبيعة، حيث تحضر الشمس والنجوم والضوء والليل والظلال والظلام والبحر والماء.. بكل قوة، فيما ينذر ان تجد مكانا لمصطلحات تحيل على ما هو "اصطناعي" أو من انتاج الإنسان، وهو اختيار لا بد انه مسنود بقناعات فكرية لدى الكاتب، وقد يكون رغبة في عدم تلويث حكمه وتأملاته بما هو طارئ والاكتفاء بما جادت به الطبيعة قبل ان يلوثها طبع الانسان وممارساته..
 
تلك كانت بعض الملاحظات، التي لا ترقى إلى مستوى النقد، والتي ارتأينا الإشارة إليها لتقديم هذا المنجز الثقافي للاستاذ حسن إبراهيمي، حتى يتسنى للقارئ المغربي الإطلاع عليه، والذي ندعوه بالمناسبة لتقاسم "كسرة الخبز" مع المؤلف الذي يعد أحد المثقفين المغاربة الذين جاد بهم المغرب العميق، وبالضبط بلدة الريش في الجنوب الشرقي للمملكة. كما ان الاستاذ حسن ابراهيمي من المناضلين الذين عانقوا قضايا الجماهير الشعبية، وهو خريج مدرسة "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب" بظهر المهراز بفاس، وساهم في تأطير نضالات الشغيلة التعليمية بالمنطقة سواء على المستوى النقابي او الحقوقي.
 
كما كان للاستاذ إبراهمي، بمعية العبد الضعيف، شرف إغناء المكتبة البلدية بمدينة الريش بكتب قيمة عندما طُلب منا اقتراح بعض العناوين في بدايات تسعينيات القرن المنصرم، كما كنا نحن الإثنين مكلفين بجمع الدعم وتعبئة في صفوف الطلبة بكل من فاس ومكناس، في منتصف ثمانينات القرن المنصرم، وذلك لتأسيس جمعية النهضة الثقافية بالريش والتي رأت النور بفضل بعض الاساتذة والمثقفين ضمنهم عبد الله ايت بولمان وحميد شملال ومحمد مكاوي ومحد بوزهير..إلخ، قبل وأدها في المهد بسبب المضايقات التي واجهتها من طرف السلطات، باعتبارها جمعية هادفة ترمي إلى تغيير واقع آسن، مقابل التساهل مع بعض الجمعيات التي رأت النور آنذاك والتي كانت تسعى إلى نشر الفكر المتطرف والخرافي بين ابناء المدينة..
 
إن الملاحظ هو ان الإنتاجات الابداعية المغربية لا تجد لها صدى داخل الوطن، حيث ينحوا بعض النقاد والمتتبعين للشأن الثقافي، في غالب الأحيان، إلى تقديم أعمال صُحبهم ومعارفهم في سلوك ينم عن فكر عشائري لا يمث بصلة بسلوك المثقف والدور الموكوا إليه في المجتمع..
 
وفي ظل غياب المواكبة النقدية للاصدارات الثقافية بالمغرب، نشر الكاتب والصحافي الفلسطيني "جميل السلحوت"، يوم 5 يناير الجاري بموقع "أمد" للإعلام، مقالا حول "كسرة الخبز" جاء فيه:".. وجدت نفسي أمام كاتب يملك ناصية الكلمة، وأنّه صاحب لغة أدبيّة رشيقة سليمة. كما أنّه صاحب ثقافة واسعة جعلته ينزف بحبر مداده حِكَما تدهش المتلقي، هذه الحِكَم لا تخلو أيضا من فهم عميق لفلسلفة الحياة، وما يدور فيها من صراع بين الخير والشّرّ، وبين قوى الاستعلاء من جانب والفئات المسحوقة من جانب آخر. وهذه النّصوص التي صنّفها كاتبها شذرات هي بحقّ وحقيقة كلمات من ذهب لمن يعرف خبايا الكلمات".
 
وبالفعل فإن شذرات حسن إبراهيمي، كما يقول جميل السلحوت، "كانت مزيجا من عدّة أصناف أدبيّة، ففيها خواطر، وفيها ومضات قصصيّة، كما فيها قصّ وجيز أيضا، لكنّها في الأحوال كلّها وفي غالبيّتها تختصر رواية طويلة لواقع له ما له، وعليه ما عليه".