مصطفى ملو

اشتهر الجنوب الشرقي منذ القدم بتنظيم الأعراس الجماعية في كل موسم صيف, فلأن المجتمع الأمازيغي كان مجتمعا اشتراكيا بطبعه, فقد كانت تغلب عليه الروح الجماعية و التعاون و التآزر في أوقات السراء كما في أوقات الضراء متجسدة في مجموعة من المظاهر, كالأعمال الزراعية الجماعية, و المرعى الجماعي(أمردول) و نظام الحكم »لجماعت أو تقبيلت » و القصر(سكن جماعي يسمى محليا إغرم),و الأعراس الجماعية…
 
فيما مضى كان العرس الجماعي يبدأ بقيام امرأة من القرية بالطواف على جميع منازلها لإعلام باقي النساء بموعد تنقية القمح استعدادا لطحنه, و تسمى عملية التنقية هذه ب « تاغوسيTaghusi », حيث يجتمع عدد كبير من النساء حول موائد مصطفة في درب طويل يسمى « لعلو », يرددن الأغاني و الأهازيج و هن ينقين الحب حبة حبة من الأحجار و الشوائب و بقايا التبن…
 
بعد انتهاء عملية « تاغوسي » تأتي عملية الطحن التي تكون في الليلة التي تسبق العرس مباشرة. و تسمى عملية الطحن »إزيض Izid »,إذ تبتديء من مغيب الشمس حتى فجر يوم العرس و تكون هي الأخرى مصحوبة بمواويل و أناشيد خاصة تعبر عن الفرح و الابتهاج, فرغم المجهود الكبير الذي كانت النساء يبدلنه لطحن القناطر المقنطرة من القمح, إلا أن كل ذلك كان يتم في أجواء من الغبطة و السرور, لا صوت كان فيها يعلو على هدير « إزركان »و الأهازيج المرفوقة بالزغاريد التي تنطلق من هنا و هناك بين الفينة و الأخرى لبث الحماس في النفوس و إذكاء نار المنافسة بين « الطاحنات », فغدا يوم العرس و لا مجال للتكاسل أو التماطل.
 
تتم عملية « إزيض » إذا, كما هو الشأن بالنسبة لعملية التنقية بشكل جماعي و تشاركي بين نساء الدوار مستعملات أرحاء حجرية(طواحن يدوية) تسمى « أزركAzrg « و جمعها « إزركانIzrgan « ,التي تحول القمح بتحريض من سواعد النساء إلى دقيق مطحون جاهز للاستعمال, وتجدر الإشارة إلى أن بعض الطواحن نظرا لكبر حجمها فقد كانت تجتمع حولها ثلاث نساء لتحريكها.
 
في صباح يوم العرس يتم توزيع الدقيق المطحون و الخميرة على كل سكان القرية لإعداد الخبز, بهدف مساعدة صاحب العرس و تخفيف الأعباء عنه بإعفائه من هذه المهمة(مهمة إعداد الخبز) نظرا لكثرة متطلبات العرس من استقبال للمدعوين و ذبح الذبائح و الطبخ و إعداد الشاي…, و يراعى عند توزيع الدقيق عدد الأشخاص في كل عائلة, فكلما كانت العائلة كبيرة كلما سلمت لها كمية أكبر من الطحين و العكس بالعكس !
 
ويتوج هذا العمل النسوي التشاركي بعرس جماعي يصل عدد المشاركين فيه أحيانا إلى أربعين عريسا و أكثر, و لم يكن تنظيم الأعراس بهذا الشكل الجماعي اعتباطيا و دون أهداف, بل إن أهم هدف له هو تخفيف العبء على المحتفلين, فقد كان من العيب و العار في المنظور القبلي أن ينظم أحدهم عرسا دون أن يستضيف كل أهل الدوار واحدا واحدا و واحدة واحدة, بل و حتى بعض أهالي الدواوير الأخرى المجاورة و يتكلف بتغذيتهم و إكرام ضيافتهم لمدة ثلاثة أيام و أكثر, لذلك فقد كان مجرد الإعلان عن العرس, دعوة مسبقة موجهة لجميع سكان الدوار دون استثناء لحضور « تامغرا نايت فلان »,و هي المناسبة التي ينتظرها الجميع كبارا و صغارا بشوق و شغف كبيرين, لأنها تشكل فرصة للفرح و للقاء الأصدقاء و تبادل أطراف الحديث في مواضيع شتى و حتى لاختيار زوجات المستقبل من خلال رقصة أحيدوس التي تعتبر ركنا أساسيا من أركان العرس.
 
و لما كان الأمر كذلك, أي لما كان استدعاء جميع سكان الدوار أمرا ضروريا في العرس, فإنه كان يكلف صاحبه تكاليف مرتفعة, و التي لتقليصها ابتدع الأمازيغ « فكرة العرس الجماعي », من أجل تخفيف العبء على « المعرسين », و عليه فإذا كان في الدوار مثلا 400 شخصا و نظم فيه عرس جماعي لأربع عائلات, فإن هذا يعني أنه سيتم توزيع المدعوين(أهل الدوار) على العائلات الأربع لتتكلف كل واحدة ب 100 شخص « فقط », و كلما ازداد عدد المشاركين في العرس الجماعي كلما انخفضت التكاليف, أما إذا كان العرس فرديا, فإن صاحبه سيتكلف بجميع أهل الدوار(أي 400 شخصا في هذه الحالة, و أكثر عندما يكون الدوار ذا كثافة سكانية كبيرة).
 
اليوم و إن انبرت بعض الجمعيات و الشباب للحفاظ على هذا الإرث الضارب في القدم بأن جعلوا من الأعراس الجماعية موعدا سنويا, إلا أنها لن ترتقي إلى مستوى الأعراس التي كانت سائدة في ذلك الزمن الجميل حيث المحبة و الأخوة كانتا تملآن القلوب, بعيدا عن التصنع و التكلف, فاليوم عكس الأمس, أصبحت هذه الأعراس مناسبة للتباهي و التفاخر بأحسن اللباس و السيارات و حتى المأكولات, لذلك صرت ترى الناس تكلف نفسها لإرضاء المدعوين و لو كان بها خصاصة, حتى لا يخرج أحد الضيوف إلى الشارع و يبدأ بالنقد و إشاعة « عرس هذا أحسن من عرس هذا, طبخ فلان أفضل من طبخ فلان,ف لان تهلا فينا مزيان,فلان داكشي ديالو عيان »… !!
 
كما أصبحنا نأسف لبعض مظاهر التحرش الجنسي التي تعرفها هذه الأعراس و المشاجرات التي تندلع هنا و هناك بسبب السكر و تعاطي المخدرات, يضاف إلى ذلك طغيان السلوك الفرداني و اتجاه الروح الجماعية نحو الانقراض, خاصة مع الانفجار الديمغرافي الكبير الذي عرفته هذه المناطق التي لم يكن يتجاوز عدد سكان بعض دواويرها فيما مضى 1000 نسمة حيث كان السكان ملتحمين و متحدين, في حين أصبحت اليوم تتجاوز ال10 آلاف نسمة, وكلها عوامل تجعل هذا التراث يتجه نحو الاندثار و في أحسن الأحوال تفرغه من محتواه و تحيد به عن الأهداف التي خلق من أجل تحقيقها.