عبد السلام دخان / كاتب مغربي

مركزية الكينونة في الشعر توازيها مركزية المعرفة في الفلسفة، لكن كيف يمكن تشكيل التجربة الشعرية، وهل هي قادرة على التعبير عن متخيلها الشعري المخصوص؟

يتشكل تاريخ الحضور لدى الشاعرة عائشة جرو – سليلة الريف – في ديوانها الموسوم بـ»غيم في يدي» عبر إدارك قلق بتاريخ الذات وبمختلف العلاقات الاجتماعية، المرتبط بما يوازي الذات التي تسامقت مع محمولات حدسها بتبصر عميق في الحياة، في ما يشبه سرديات قائمة على المجاز، وممكنات الانزياح. وتدل مختلف الوقائع على أن قراءة الشعر ليست عملا نقديا صرفا، ولا عملا تحليليا بصرامته العلمية، لأنني أفترض أن المتلقي لا ينفلت إزاء الأعمال الشعرية الرفيعة من سلطة النص، ومن سحر العوالم الشعرية، وفتنة التشكيل الشعري، وممكنات الدلالة. وبموجب هذا القول تنسج علاقة سرية بين النص والمتلقي لا ترتبط بصيغة منطوق النص، وآليات تشكيل البناء والخصائص الفنية تبعا للرسم الهندسي المحدد، ولا ترتبط بمآلات التأويل الأحادي، بل بالطريق الثالث أو الصيغة الثالثة، الناتجة عن العلاقة العاشقة بين النص والمتلقي، بما يؤشر إلى فهم للشعر وفق أنساقه المخصوصة، ونقصد بذلك تشكل المعنى وفق المرجعيات المعرفية والجمالية للشاعرة، على نحو ما نجد في قصيدة جزاء:
«استيقظ الميت/الذي وسدته حجري عمرا/كان جائعا/التهم فخديَّ». ننساق إلى البعد الأنثروبولوجي للنص الشعري تساوقا مع ممكنات المعنى، ارتباطا باللوحة الشهيرة للتشكيلي فرانشيسكو غويا. في لوحته المعنونة بـ»زحل يلتهم ابنه» وهي لوحة تشكيلية تجسد أسطورة كرونوس اليونانية الذي أكل أبناءه عند ولادتهم خوفا من الإطاحة به.
الحوارية التي يكشفها العمل الشعري تشيّد أفقها المفتوح في أكثر من قصيدة على نحو ما نجد في قصيدةّ «أقصص رؤياي على الجب» بما يحيل على المقدس الديني في سورة يوسف عليه السلام، وقصيدة «خارج الروح» التي تجعلنا نتذكر تحفة غسان الكنفاني «رجال في الشمس» والسؤال الحارق: «لماذا لم تدقوا جدران الخزان». لا أحد في انتظار الشاعرة في القصائد، حيث تصل، وهي المرأة الحافية القلب بما يكشف عن وضعيات الذات، حيث يخضع التاريخ لانتقاء ليضمن فاعلية شعرية في وسط اجتماعي يتسم بقدر كبير من التحول، تساوقا مع المجازات اللغوية، وصلابة الوعي الشعري، الذي يكشف طبيعة الحياة المحسوسة. ويتوسط عالم الشعر بين الشاعرة ووجودها، وتتحول تجربتها إلى لغة ومجازات بما يسمح بإعادة اكتشاف تاريخ الذات، وفق متخيلها الشعري وتوتراته الدلالية، والعمل الشعري يرتبط في «غيم في يدي» بتجربة الذات الشاعرة، والرغبة في العودة على تاريخ هذه الذات، لا كما تشكل في الماضي، ولكن كما يتشكل في الأثر النفسي والمنطوق الذهني، وكما يتجسد في جغرافية القصيدة، والمسافة الملتبسة في السفر بين الخارج والداخل، هي ما يصنع للعمل الشعري هويته كفعل إبداعي خلاق يكشف الكائن الشعري في حرجة الزمان الدائرية.

التجربة الشعرية في قصائد تتسم بقدر كبير من التكثيف في ما يشبه المحكي الشعري المقتضب، على نحو ما نجد في «جريمة» و»حنان» و»وجع الضوء» تكشف طبيعة العلاقة بين الشاعرة، وعوالم الشعر، وتستبدل الحياة في شقها المادي إلى حياة محسوسة رؤيوية، عبر قدر كبير من الفاعلية، وهكذا تساهم اللغة بطاقاتها الاستعارية والتركيبية والدلالية في كشف هذه الرؤية الشعرية، وليس ثمة نقطة بداية، لأن الأمر يرتبط بدوائر لا تتوقف عن الحركة، فالواقع في القصيدة ليس ساكنا بل دائم الحركة. والشاعرة في السياق نفسه منخرطة في كشف مشهدية الحياة، والتأكيد في أكثر من مناسبة على الوفاء للشجرة الأصل، السرجان أحماد الأب، والشجرة العظيمة، في ما يشبه بيانا ممزوجا بالتوصيف المؤلم لمسارات الوطن. الشاعرة تنصت لمجاهل كينونتها، مراهنة على اللغة وسياقات تشكل المعنى، وبهذا فقط تتحول مهمة الشاعرة من تشكيل المجازات إلى التفكير في الحياة وفق هذه المجازات، والحالة هذه، فإن الشاعرة تتخذ من اللغة في طابعها الإشاري قصيدة «أحاسيس المزهرية» على سبيل الذكر إمكانية لتعيين الوجود بما يضمن تحرير الذات من سلطة الواقع، والماضي في الآن نفسه وتحقيق التمثل الشعري لهذه الحياة، مادام الشعر نشاطا تخييليا رفيعا يبرر الدعوة إلى الإنصات للشعراء والتعلم منهم. والشعر غير قابل للبرهنة على النحو المنطقي، وإن كانت الشاعرة تقدم اعترافا بهويتها في قصيدة «فاكهة الصحراء»، بما يقدم إحراجا لكيفية تأويل الدلالة الشعرية، لكونه فعل مقامة واستعادة لذاكرة النضال على نحو ما نجد في قصيدة «الوعد الأخير» المهداة إلى الشهيدة سعيدة المنبهي: «إليك الصعود،/لا تأسرني قيود/والخطو واثق يسير/عاشقا،/ صوب وعدك،/يسير في صمود».

الشاعرة تعلن أنها لاتزال في الركن القصي من خيالها، تصوب طلاقتها نحو القمر، لأنها تعول على رصد تحولات الرؤية وتعالقات الذات بالعالم. فالكتابة الشعرية في هذا العمل الإبداعي تطمح إلى إظهار البناءات الحسية لمحكي متخيل الذات في محاولة لفهم الكائن والعالم معا. الذات هنا بما هي تحريض على هذه الحركة شكلت مرتكزا يستند إلى اللغة، كمعبر عن قوة الحدس والإدراك الجمالي. فالانبثاق مرتبط بالامتلاء النفسي لهذه الذات وهي ترتدي ثيابا من المشاعر والإيحاءات، في شكل صور وانزياحات جمالية. تتخذ شكل الوعي بالمعيش والراهن، كلما انفتحت على قضايا إنسانية. ومرآوية هذه الصورة تسمح برصد مختلف حالات الذات الواعية، بشرطها الوجودي وحدسها الجوهري، الذي يقطع مع الإحالات الجاهزة والثابتة، لصالح صور تتسم بالتشابك والتباين والاختلاف في محاولة للحصول على الآخر، كجوهر لذات الكائن الشعري. ورحلة العبور من الذاتية نحو الغيرية غير المكتملة، تبدو محفوفة بالمخاطر لدى الشاعرة، لأنها تسعى نحو جماليات تقطع مع التصورات المغلقة لصور الحياة، لصالح قصائد حاملة للحياة نفسها بكل حيويتها وعنفوانها. وبموجب هذه الرؤية ستصبح القصيدة في هذا العمل الشعري تعبيرا عن حركة التأمل الفكري، في قضايا إنسانية مختلفة، لتحقيق تناغم مثمر لفاعلية الذات المعنية بتدمير الصور الجامدة، والراغبة في استعادة الحياة تزامنا مع حدسها الشعري.


المصدر: جريدة القدس