محمد زروال 

يرتبط اسم "مرابو" الذي كان يطلق على الأب ألبير بيريكير، وبعده على الراهب ميشيل لافون، بالقباب بحجم الأعمال الاجتماعية التي كانا يقومان بها، وبالخصوص الأب ألبير بيريكير، الذي ترسخ أكثر في ذاكرة إشقيرن، وقد وظف علاقاته، و معارفه، ومكانته، وسط المسيحيين في المغرب، وفي فرنسا ليتحمل مسؤوليات كثيرة في الجانب الاجتماعي، كما كانت له مهام أخرى، إذ كان منشغلا بما يهم الجانب الديني للمسيحيين المتواجدين بالقباب ونواحيها، ووفر جزءا من وقته وجهده للاشتغال العلمي، والفكري، كما عبر عن الكثير من الآراء السياسية، و يعنينا في هذا المقال الوقوف عند هذه المهام الطبية لهذا الأب الذي عاش ما بين 1928 و 1959 بقرية القباب بالأطلس المتوسط، وذلك من خلال بعض الكتابات التاريخية، وكذا ما علق بالذاكرة الجماعية للمنطقة.
 
يستطيع الإنسان أن يقتصد، وينجو بنفسه نحو شظف العيش في مآكله وملبسه، أو تجهيزاته، لكن حين يتعلق الأمر بمواجهة الألم، يجد نفسه في أمس الحاجة إلى البحث عن الخلاص، ولو كلفه ذلك التنقل لمسافة طويلة، والتعامل مع الغرباء، أو بيع جزء من ثروته من أجل الحصول على العلاج، فالمرض محنة إنسانية يلخصها المثل القائل" الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى". كان بيريكير في قرية القباب منذ أن حل بها قد حول إقامته إلى مستوصف صغير، يستقبل فيه المصابين، والمرضى، ويقدم لهم العلاج، ولكن من أين له بهذه الخبرة في المجال الطبي ؟
 
إن العودة إلى مسار حياة الأب ألبير بيريكير، تكشف لنا عن اهتمامه بهذه الجوانب الاجتماعية، وحضوره الدائم من الفضاءات التي تحضر فيها المراقبة الصحية، فقد كان أستاذا في مدرسة Gratry ببوردو، ومشرفا على مدرسة داخلية بسيلون-فيل بتونس، إضافة إلى مشاركته في مهمة طبية بتارودانت سنة 1927 لمحاربة وباء التيفوس، الذي كاد أن يودي بحياته، والأهم أنه شارك في الحرب العالمية الأولى كمسعف، ولهذا كان قريبا من تدخلات الممرضين، والأطباء، ووقف بأم عينيه على الطرق التي تستعمل في تضميد الجروح، وغيرها من المهام ذات العلاقة بما هو طبي. ونضيف أنه كان يعتمد على اجتهاداته من خلال دراسة العديد من الكتب مسترشدا بنصائح طبيب عسكري، وقد يكون هذا الطبيب المعني هو المقصود في ما أشار إليه الأستاذ محمد جمالي في مقابلة له معنا، حين قال أن بيريكير كان قد قضى وقتا غير قصير بخنيفرة إلى جانب الطبيب Serre ، لكن هذا الأخير لم يلتحق بالمغرب إلا سنة 1931، كما أن تتبعنا لكرنولوجية تحركات بيريكير جعلتنا نستبعد هذا الرأي، لأن تاريخ مغادرة بيريكير لتارودانت، وفترة النقاهة بفرنسا، والوصول إلى القباب لا تفصلها مدة زمنية طويلة. وقد يكون الأصح أنه كان إلى جانبه لأيام، أو أسابيع في المستشفى بخنيفرة بعد 1931، وربما كان يتلقى منه بعض الملاحظات حين يزروه في القباب.
 
لقد صادف تواجد ألبير بيريكير بالقباب، انتشار وباء الكوليرا Paludisme، والجدري La variole في صفوف السكان، وهما مرضان خطيران يقتلان بالعشرات والمئات، وفي جولاته في الدواوير، اكتشف بيريكير الانتشار الواسع لهذين المرضين، وعاش مع إشقيرن تحت الخيام طيلة الصيف لعلاجهم، بعدما اتصل بأصدقائه في فرنسا لتزويده بعقاقير خاصة، وبلغت الكمية التي استقبلها 50 ألف قطعة من دواء la quinine، وهو دواء فعال أعطى نتائج إيجابية في علاج السكان. ورغم ذلك لامسنا نوعا من التشكيك في قدرته وخبرته الطبية، من طرف البعض، فالسيد حماد أعلي زهيري، أشار أن وظيفة مرابو الرئيسية دينية، وبالتالي لم يكن طبيبا، إلا إن أصدقاءه، والجمعيات الفرنسية كانت تزوده بالأدوية، وحين يقصده أحد المرضى يصف له دواء، ويقول له عد يوم الاثنين المقبل،( يوم السوق)، وحين يعود إذا شفي، أو بدأ بالتعافي يضيفه جرعة أخرى، وإذا لم تتحسن حالته يصف له دواء أخر، وهذا يعني أنه كان يجرب الأدوية دون معرفة كافية في ذلك.
 
كانت إقامة مرابو عبارة عن مزار يحج إليه المئات من السكان يوميا من الصباح إلى المساء، ويزداد عددهم يومي السوق الأسبوعي، وقد يصل إلى 300 شخص، وبسبب هذه الكثرة يجد صعوبة في تناول وجبة الغذاء أحيانا، فهو يشتغل في الحالات القصوى من الساعة العاشرة صباحا إلى الساعة السابعة مساء، وكان يواجه إشكالا في تنظيم استقبالهم، وهكذا كان يدخل 25 من الإناث، ثم يدخل 25 من الذكور، ولتنظيم الولوج إلى المستوصف، وأمام جهلهم بالأرقام، كان يوزع عليهم أوراقا ملونة بالأخضر، والأحمر، والأصفر، ليعرفوا ترتيبهم، من زواره من يقطع مسافة عشرات الكلمترات للحصول على " أسافار ن أكرام"، أو دواء مرابو، وحسب محمد بامو( أحد المقربين من مرابو)، فقد كان يقصده المرضى من بني ملال، وتادلة، وتونفيت، أما محيط القباب بخمسين كلمترا فقد كان محورا دائما للوفود إليه، ككروشن وسيدي يحيى أساعد، وتيغسالين، وأيت إسحاق وخنيفرة... ، وأمام تزايد عدد الزوار، وعدم قدرته على تلبية حاجياتهم بشكل مستمر، خاصة بعدما انتشر الخبر بين القبائل، وبدأت الوفود تصل من مناطق بعيدة، اضطر إلى فتح المستوصف ثلاثة أيام في الأسبوع فقط، وهي الاثنين والخميس ( يومي سوق، وسيتم إلغاء يوم الخميس كيوم سوق في ما بعد )، و السبت.
 
وأحيانا كان مرابو يقوم ببعض الجولات في المناطق التابعة لقبيلة إشقيرن، وتحتفظ الذاكرة الجماعية بزيارة قام بها رفقة محيجان بالحسن، مساعده الذي تعلم الكثير من مهاراته في تقديم العلاج للمرضى، إلى قرية مولاي يعقوب نواحي سيدي يحيى أساعد، حيث يستقر أيت حماد أعيسى، الذين طلبوا نجدة مرابو من مرض أصابهم، لدرجة أنهم توقفوا عن القيام بأشغالهم، وعند وصوله إليهم، كلما فتح باب منزل أحدهم، إلا وانبعثت منه رائحة كريهة، وقال لهم بطريقة ساخرة بالأمازيغية" إرشان أيد إنغان وي": أي أن سبب مرضهم هي الأوساخ، فطلب من مرافقيه تسليمهم مواد النظافة كالصابون، وأوصاهم بضرورة الاعتناء بنظافة أجسامهم، ومنازلهم وأوانيهم، وبعد مرور أسبوع كرر الزيارة لأيت مولاي يعقوب، فوجدهم في حقولهم، ومراعيهم، وقد غادرهم السقم، وفي هذا الصدد، يذكر بيريكير في رسالة له حالة خاصة " الظروف هنا رهيبة، أمطار وثلوج، كنت في زيارة لسيدة فقيرة، لديها شلل في رجليها، توجهت إليها في الصباح الباكر بعد ليلة عرفت تساقط الثلوج، كانت السيدة تحت الخيمة، بدون مدفئة، وبدون غطاء، نائمة على قطعة من الحصير، غير قادرة على الحركة، وقد اقشعر بدني بعد رؤية ذلك المشهد ". إن التوقف عند حجم الزيارات التي كانت تفد على مرابو في القباب لتلقي العلاج، تجعلنا نطرح السؤال عن كيفية توفيقه بين الاشتغال الإثنوغرافي على قبيلة إشقيرن، أو الاشتغال على مشاريعه الفكرية الأخرى، حيث كان قد بدأ تأليف العديد من الكتب، ولم يسعفه الموت لإنهائها خاصة كتاب حول شارل دوفوكو، أو التكفل بواجباته الدينية في علاقته مع المسيحيين في القباب، أو خنيفرة، أو زواره المسيحيين، بمعنى أن الرجل كان كثير العمل، ولا يمل من تقديم العون للسكان، وهي من صفات الرهبان الذين يثابرون في عملهم ويتفانون فيه. ويشير بيريكير في رسالة أخرى أنه" خصصت كل وقت فراغي لعلاج المرضى،كان من اللازم الابتعاد عن أعمالي الفكرية مرحليا، وهذا ما كلفني الكثير، إنها فرصة لكي أعتني أكثر بهؤلاء الأمازيغ، وهو أمر أفضل بالنسبة لي من كتابة صفحات العباقرة في مواضيع هامة، ومثيرة".
 
وعن هذا الاعتناء بالمرضى تحكي إحدى السيدات، أنها حين كانت صغيرة سقطت من الفرس، فوقع تمزق كبير في لسانها، وذهبت بها والدتها إلى مرابو، هذا الأخير رفض في البداية علاجها، على اعتبار أن إصابتها خطيرة، وتحتاج تدخلا طبيا لا يتوفر عليه مستوصفه، وطلب منها أن تقصد المستشفى، لكن بعد إلحاح الأم قبل بمحاولة علاجها، وتسرد هذه السيدة، كيف كان يضع على لسانها مرهما بلون أزرق بواسطة مقص صغير، وتتذكر كيف كان يرافقها في البستان، ويأخذ بيدها، وأعطاها الحلويات، و كمية من العنب الذي كان يحصل عليه من بستانه، واقترح على الأم طريقة خاصة لأكل العنب من خلال إزالة البذور والقشرة، ومحاولة وضعها عند نهاية اللسان لطفلتها، أي وراء الجرح لكي لا يؤذيها، كما وصف لها علاجا طبيعيا، بطهي كمية من الشاي في الإبريق، واستعماله للمضمضة.
 
وهنا تجدر الإشارة أن بيريكير لم تكن لديه تجهيزات طبية كثيرة، كافية للتدخل الطبي في الجراحة مثلا. لقد اقتصر دور "مرابو" على بعض الحقن والعقاقير، وقد حدث أن استغل البعض طيبوبته، مثل إحدى الفتيات بالقباب، كانت قد تزوجت في سن مبكرة، من رجل لا تحبه، ويكبرها سنا، وحين شعرت بأنها حامل، وارتفعت حرارتها، قصدت مرابو ليحقنها وتتخلص من الجنين، لكن بعد ترددها أكثر من مرتين، فطن مساعده محيجان لحملها، فأخبر بيريكير بالأمر، وكان رد فعله قويا، حيث استشاط غضبا تجاهها، داعيا إياها التزام الصدق.
 
من الجوانب الأخرى المثيرة في تجربة بيريكير في تقديم العلاجات، أنه كان صارما في استقبال مرضاه، حيث لم يكن يفاضل بين زوراه، وكان ديمقراطيا، إذ لم يكن من الذين يميزون بين السكان بسبب الانتماء لفئة معينة، أو وجود علاقة قرابة مع أحد المسؤولين في السلطة، وقد حدث أن جاءت سيدة من نواحي القباب رغبة في علاجها، وحاولت أن تدخل قبل من سبقها إلى باب مرابو، فأخبر بالأمر، ولما خرج إليها، ونظر في حالتها، وسألها عن مكان سكنها، وأخبرته، وقال لها هل قطعت واد سرو؟، هل مررت بجانب منبع الصفصاف؟، ألم تقف بجانب منبع لابروال؟، فقالت له لماذا هذه الأسئلة؟ وقال لها لكي تغسلي يديك جيدا، لأنه رأى بقايا دقيق العجينة في مرفقها. وقد قيلت هذه الرواية في سياقين، الأول أنها جاءت للحصول على نصيبها من الحساء في الصباح الباكر، وكان الرد بالطريقة التي ذكرناها، و يعني أنه يشير لها، بكونها غير محتاجة لذلك الحساء ما دام أنها تملك الدقيق في منزلها، والسياق الثاني أنها جاءت تطلب علاجا، وحاولت التقدم وأخبرته أنها أم الخليفة( مسؤول إداري)، وقال لها الخليفة ليس إلها (إد الخليفة أغان مولانا). وعموما فإن قدوم أم الخليفة للحصول على الحساء مستبعد، خاصة وأن الساكنة كانت تنظر بنوع من الاحتقار لمن يحصل على الطعام من منزل مرابو، وبالتالي فإن رواية الحصول على العلاج أقرب إلى الصواب . وهنا نشير أن السيد جمالي أكد بدوره حضور الصرامة في تعامل بيريكير مع من يرغب في الحصول على بعض الامتيازات، ونفس الفكرة أوردها أحمد بوتاوت " كان استقبال المرضى جيدا، بالرغم من وجود من يريد توظيف قربه من سلطة ما، للحصول على بعض الامتيازات." ، ومن بين النقط التي برزت فيها ديمقراطية بيريكير هي عدم التمييز بين السود والبيض، ففي ثقافة المجتمع المغربي عامة، كان هناك نوع من الاحتقار للسود بسبب مهنهم( حدادة، خماسة ...)، وحين يصطف المرضى أو الجوعى أمام باب مرابو، كانت هناك محاولات لإعطاء الأولوية للبيض، وتأخير السود، إلا أن مرابو كان ضد ذلك، ويرفضه بشدة.
 
كان الاعتقاد السائد في القباب وغيرها من المناطق التي يفد منها المرضى، أن الأدوية التي يقدمها بيريكير ذات فاعلية سحرية، وهناك من تعب من العلاج في أماكن أخرى، وقرر في النهاية أن يقصد القباب للعلاج على يد "مرابو"، ومن بين هذه الأمثلة أن أحد الأشخاص من أبناء القباب يدعى عقا، اشتغل مع مرابو في الخياطة، حين أصبح يافعا، وفي سن العاشرة كان قد أصيب بالشلل في رجليه معا، وتدخل بيريكير لعلاجه لمدة سنتين، ولمساعدته على تحريك أرجله، كان يضع له قطعا من الحلوى في الغرفة التي كان يعالج بها المرضى، ويطلب منه التوجه إليها لتكون من نصيبه، وكان يكرر ذلك في كل حصة للعلاج إلى شفي عقا، ومن خلال هذه الوضعية، يظهر أن بيريكير كان بمثابة، ولي صالح يقصده المرضى، مثله مثل باقي الصلحاء في المنطقة الذين كانوا وجهة المحتاجين إلى علاج في ظل ظروف الأزمة التي كان يعيشها المغرب، مع العلم أنه يتميز على باقي الصلحاء بالطابع المجاني للعلاج، حيث يقدم لهم أدوية، أو يقترح لهم علاجات طبيعية، دون مقابل، عكس الآخرين يحتاجون واجب"الزيارة"، ولا يوفرون شيئا ملموسا للعلاج، إذ غالبا ما يكتفى بالدعاء، أو إعطاء بعض التمائم، وقد يطلب من الزوار حضور بعض الطقوس، أو المبيت لأكثر من ليلة في الضريح، طمعا في المزيد من الإنفاق، ومن الأمثلة التي تكشف عن هذا التباين بشكل صريح، ما قاله شيخ أمازيغي لبيريكير، جاء بزوجته في وضعية صحية حرجة، بسبب مرض الكوليرا : "(لقد زرنا من قبل أربعة أولياء، وفي كل زيارة كنت مضطرا لذبح شاة أو خروف، بينما أنت قدمت لزوجتي العلاج مجانا،) وأكثر من ذلك أدى لهما ثمن المبيت في المقهى الذي كان بمثابة فندق أنذاك".
 
لم نصادف من خلال ما استقيناه من الذاكرة الجماعية إلا آراء قليلة تستحضر شخصية " مرابو" سلبيا ، وكمثال على ذلك، سيدة كانت قد ترددت كثيرا عليه للعلاج، لكنها لم تشف، وقالت له " لم ينفع علاجك يا أكرام"، وقيل أنه حقنها سما، إذ لم تنهض بعد ذلك إلى أن وافتها المنية، وهي فكرة مستبعدة جدا من رجل يقدم كل تلك المساعدات، وكل ما في الأمر أن الدواء الذي اقترحه في الزيارة الأولى والثانية لم يلائمها. وعلى ذكر النساء وعلاقة بيريكير بعلاجهن، فقد كان يقوم بتشخيص حالتهن، بما في ذلك الأمراض التناسلية، وحفاظا على نوع من الخصوصية، لهؤلاء النسوة، و بسبب طبيعة المجتمع المحافظ، كان يتجنب النظر مباشرة إلى الجهاز التناسلي للمرأة، إذ كان يعتمد على مرآة، يعكس من خلالها ذلك الجزء من الجسم، لتشخيص المرض، أما الذكور، فكان يعالج أمراضهم الجنسية دون تحفظ. والمثال السلبي الثاني، يخص والدة السيد موحى بوزيد، حيث كانت تعارض توجهه إلى منزل مرابو، فهي كانت تكره النصارى، حتى ولو كانت طريقة تعاملهم جيدة، لقد كان الابن يحصل كل يوم اثنين على عشرة دراهم، بعدما قام بجني عناقيد عنب كانت معلقة في شجرة يصعب تسلقها، إضافة إلى علم مرابو، بوضعه الاجتماعي، ولهذا طلب من والدي موحى بوزيد التكفل به ليتابع دراسته، إلا أنهما رفضا ذلك لكون مرابو نصرانيا، ومن المؤكد أن هذا الاخير، لم يكن على علم بموقف الأم التي تكره النصارى، وإلا لما ألح على متابعة الابن للدراسة.
 
لقد اختلفت نظرة السكان إلى العمل الذي كان يقوم به "مرابو" عن نظرته لعمله، في ما يشبه نوعا من التواطؤ، بين الطرفين، فمعظم السكان يعلمون أن من يقدم لهم تلك الخدمة، "نصراني"، وإن كان البعض منهم يشك أنه مسلم، وقد تردد في المقابلات الشفوية التي أجريناها أن "مرابو " كان مسلما وأخفى إسلامه، أما "مرابو" فكان ينظر إلى ما يقوم به في صميم اشتغاله في التبشير الصامت، أو ما سماه ب" ما قبل التبشير"، فبالنسبة له كل" مريض يناديني، وكل مصاب يطرق بابي، فالمسيح هو من يناديني، وهو من يطرق بابي، ولهذا لا يزعجني الأمر، فلا يمكن أن نقول أن المسيح يزعجنا، هكذا نغادر المسيح، لكي نجد المسيح، لنترك له الفرصة، ويختار الطريقة التي يأتي بها إلينا، نحن لا نريد إلا أن يأتي إلينا، إنه أمر جميل ألف مرة...".
 
استطاع مرابو أن يثير اهتمام ساكنة مناطق عديدة في الأطلس المتوسط والأطلس الكبير الشرقي، ونجح في استقطابهم إلى القباب لتلقي العلاج، ويعود السبب إلى انعدام المستوصفات في تلك المناطق، أو ضعف الخدمات التي كانت تقدم في المتواجد منها، وفي المقابل تميزت خدمات بيريكير بالجودة، والفعالية، إضافة إلى أنه كان يستحضر عادات، وتقاليد المجتمع سواء على المستوى الثقافي ، وذلك بتجنب الاختلاط بين الجنسين، وانفراده بالمريض أو المحتاج، لكي لا يسمع الآخرون آهاته، وأزماته، وتصبح فرصة للنيل منه وسط المجتمع والنيل من مكانته. سبب أخر ضمن له التواصل الناجح مع مرضاه أنه لم يقطع مع أساليب العلاج الشعبية التي كانت سائدة لدى القبائل خلال تلك الفترة، دون أن ننسى أنه كان يتحدث بالأمازيغية مع مرضاه، و بعض الذين يترددون على زيارته بين الفينة والأخرى في ما يشبه زيارات الوقاية، وبالتالي كان مرابو مصدر ثقة بالنسبة للزوار، رغم علمهم أنه ليس مسلما، وليس مغربيا على الأقل.
 
* باحث في التاريخ والسينما