د. خالد التوزاني
ثواني معدودة بعد توزيع أوراق أسئلة امتحانات الباكالوريا صبيحة العاشر من يونيو 2014، بدأت صور تلك الأوراق تظهر على صفحات الفيسبوك، تحت أسماء بارزة مثل : تسريبات، وتسريب.. وغيرها، ثم دقائق يسيرة وتبدأ تلك الصفحات بنشر الأجوبة.. يحدث هذا في ظل تكثيف وزارة التربية الوطنية لكل جهودها في سبيل مرور امتحانات وطنية وجهوية بدون غش هذه السنة، حيث جنَّدت الوزارة حوالي 40 ألف أستاذ وأستاذة للحراسة وقامت بعدة حملات تحسيسية للتلاميذ حول آفة الغش ومخاطرها والقوانين الزجرية لكل مترشح للباكالوريا يتم ضبطه متلبسا بالغش، تبدأ بحرمانه من الامتحان وتنتهي بمنعه من اجتياز الباكالوريا مدة ثلاث سنوات، كما قام الأساتذة بإعطاء التلاميذ دروسا للدعم استمرت أكثر من أسبوعين، وتجنَّدت عدة جمعيات من المجتمع المدني لتقديم دروس للدعم للتلاميذ مجانا..كما أن وسائل الإعلام الوطنية على اختلاف مستوياتها أنجزت برامج حول موضوع الامتحانات وكيفية الاستعداد الأمثل له.. إلى غير ذلك من جهود الدولة والمجتمع المدني في سبيل امتحانات وطنية وجهوية موضوعية وخالية من الغش.. لكن يبدو أنه على الرغم من كل هذه الجهود إلا أن ظاهرة الغش تمانع وتقاوم وتصمد بقوة، فمن يقف وراء تسريبات الامتحان وتسريب الأجوبة؟ هل هي عصابة منظمة كما صرّح بذلك السيد وزير التربية الوطنية؟ من المسؤول عن منع تلك التسريبات؟ هل هي وزراة التربية الوطنية؟ أم وزراة الداخلية كما قال وزير التربية الوطنية محملا المسؤولية لوزير الداخلية في ضرورة استعمال أجهزة للتشويش على شبكة الانترنيت بمراكز الامتحان؟ .
في الواقع، هناك أسئلة كثيرة، وأطراف متعددة يمكن أن تدخل في هذا الاستحقاق الوطني الهام، بل إن بعض التساؤلات تبدو مقلقة ومخيفة، مثل: هل هناك من يقف وراء إفشال التعليم العمومي بالمغرب؟ أم هل هناك جهات ما في صالحها استمرار الغش في الامتحانات؟ .
ليس سهلا تقديم اقتراحات أو أجوبة محتملة بشأن هذه الإشكالية التي تجاوزت ما هو تربوي وتعليمي إلى ما هو أمني وسياسي واجتماعي.. خاصة وأن أي اقتراح ينبغي أن يعزز بالأدلة الملموسة وإلا اعتبر تشويشا واتهاما باطلا بل قد يتابع صاحبه قانونيا.. ومن ثم من
الضروري الإدلاء بالملاحظات الآتية:
- الغش في الامتحانات ظاهرة ليست جديدة على مدارسنا بل هي موجودة فيه منذ القديم.
- وتيرة الغش وأشكاله تغيرت، حيث استفاد الغشاشون من إمكانات العصر التكنولوجية.
- تزايد الوعي المجتمعي بضرورة محاربة ظاهرة الغش في الامتحانات، وهذه نقطة إيجابية ينبغي أن تحتسب لكل الفاعلين الذين أسهموا في هذا الوعي.
- وزارة التربية الوطنية تقوم بمجهودات جبارة في سبيل محاربة ظاهرة الغش في الامتحانات سواء بتقليص عدد التلاميذ في الأقسام أو زيادة عدد الأساتذة المكلفون بالحراسة أو سن قوانين زجرية..
ومع كل هذه الجهود، صفحات عديدة على موقع الفيسبوك تجاهر بعولمة الغش وتجاوز حدود الأقسام إلى العالم الافتراضي اللامحدود، لتتباهى تلك الصفحات بنشرها للأسئلة وللأجوبة.. في استفزاز واضح لوزارة التربية الوطنية وإعلان عن انتصار الغش أمام إرادة الاعتماد على الذات وبذل المجهود في التحصيل والمذاكرة والحفظ.. فهل فعلا انتصر الغش؟
يبدو واضحا أن عدد مرتادي تلك الصفحات ومتتبعيها قبيل الامتحان وبعده، يبعث على القلق، فبعض الصفحات يتتبعها أكثر من 62 ألف متصفح، وهناك صفحات خاصة ببعض المدن مثل الدار البيضاء وسلا والراشيدية وغيرها.. وكلها تتضمن تسريبات للامتحانات.. فمن يقف وراءها؟ .
بالعودة إلى أخبار سابقة، تداولت وسائل الإعلام في فترات سابقة نجاح بعض التلاميذ المغاربة في اختراق مواقع إلكترونية رسمية لبعض المؤسسات التابعة لدول أجنبية، وخاصة في أمريكا وإسرائيل.. والقيام بتخريب هذه المواقع أو كتابة رسائل في صفحاتها الرئيسية.. مما أكد تفوق هؤلاء التلاميذ في التعامل مع الحاسوب والتمكن من أسرار العالم الافتراضي.. وهنا لابد من السؤال: هل يعجز مثل هؤلاء التلاميذ عن تسريب الامتحانات؟ بالطبع من السهولة تصوير ورقة الامتحان وإرسالها واستقبال الجواب.. وعلى الرغم من منع إحضار الهواتف داخل الأقسام ومراكز الامتحان إلا أن التصوير يفترض أن يكون بأدوات أخرى قد يصل حجمها إلى زر القميص ونقطة صغيرة في النظارات الطبية.. فلا توجد مشكلة في الإرسال.. لكن الاستقبال يحتاج للوحة إلكترونية.. وهنا دور الحراسة: هل عدد الأساتذة لا يكفي؟ هل 20 أو 25 تلميذ في القسم عدد كبير لا يمكن ضبطه؟
حقيقة إن المشكلة في تكمن في العقلية التي تريد الغش، وليس في منع الغش، لكن ينبغي أن يتم إغلاق كل منافذ الغش المحتملة، وأول شيء هو التشويش على شبكة الانترنيت بمراكز الامتحان، لقد صرفت الدولة أموالا طائلة في برامج معلوماتية مثل مسار وغيره.. وتحتاج لبرامج أخرى وتجهيزات جديدة مسايرة لآخر صيحات القرنصة والتجسس.. ويبدو واضحا أن التلاميذ المغاربة أكثر تفوقا في هذا المجال من وزارتهم وأساتذتهم.. وهذه نقطة وإن تم استخدامها في اتجاه سلبي إلا أنها تعكس إصرار التلميذ المغربي وكفاحه المستميت لينجح بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة المشروعة والمحرمة... ونعتقد أن هذا الظاهرة، ظاهرة النجاح بأي طريقة ولو كانت غير مشروعة، قد استمدها التلاميذ من المجتمع الذي يمجد صاحب المال ويبخس صاحب العلم، المجتمع الذي يعطي قيمة عالية لصاحب السلطة ولا يهتم برد الاعتبار وتكريم أصحاب العقول..
ينبغي إعادة النظر في منظومة التفكير ورؤية الحياة والكون، ليس عند تلامذتنا وأبنائنا وإنما عند كل المغاربة أينما كانوا في مواقع المسؤولية أو المشاركة أو المواطنة الفاعلة.. ومهما حاول البعض التشويش على قيم الاجتهاد والتفوق والعلم.. يبقى "العقل" في القمة ويظل ال"النقل" في الحضيض، فطوبى لمن اجتهد وأصاب، ومن اجتهد وأخطأ فله نصيب عند الله من الأجر وإن أبخس الناس اجتهاده، فقد ربح نفسه وكرامته وخرج من الامتحان مرفوع الرأس. الامتحان محطة من محطات الحياة الطويلة على هذه الأرض، فلنجعلها محطة حق لا باطل.
المصدر: تاونات نيوز