محمد حمداني*
أصدرت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي يومه 17 فبراير 2021 مقررا وزاريا تحت رقم: 13 / 21 في شأن المصادقة على مسطرة التوجيه المدرسي والمهني برسم الموسم الدراسي: 2020 - 2021.
مسطرة التوجيه هاته تضم، بالإضافة إلى الديباجة، 25 مادة ممتدة على ثلاثة أبواب؛ تطرق واضعوها في الديباجة لأسباب النزول التي حصروها في خمسة دوافع مرتبطة بتفعيل أحكام القانون الإطار 51 / 17 وخاصة ما ارتبط منها بضمان حركية المتعلم في المسالك الدراسية والمسارات المهنية، وتحقيقا لمبادئ الإنصاف وتكافئ الفرص ومركزية المشروع الشخصي للمتعلم، بالإضافة للوظيفة التربوية والإدارية للمسطرة الجديدة للتوجيه باعتبارها استجابة لحاجات التبسيط والتأطير والتوحيد لعمليات التوجيه المختلفة.
على سبيل الفهم :
عُرّفت مسطرة التوجيه، في المادة الأولى من الباب الأول، بأنها: كل العمليات التربوية والإدارية التي تنخرط فيها مختلف المؤسسات والفاعلين التربويين (من أكاديميات جهوية ومديريات إقليمية ومصالح لا ممركزة للقطاعات المكونة والمؤسسات التعليمية والتكوينية)، بهدف تمكين المتعلمين من التعبير عن اختياراتهم الدراسية والتكوينية، ومساعدتهم على تدقيقها ثم التقرير بشأنها، بما يضمن لهم أقصى الفرص الممكنة لتحقيق وبلورة مشاريعهم الشخصية.
هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها - حسب المسطرة - إلا بإعداد المتعلمين للاختيار والتعرف على الذات والعروض التربوية والتكوينية وآفاقها المهنية، عن طريق تفعيل خدمات المواكبة في أبعادها المختلفة (تربوية بيداغوجية، تخصصية وإدارية تقنية). وقد أنيطت هذه المهمة (المواكبة) بالفاعلين التربويين كلٌّ في دائرة اختصاصه؛ حيث يبرز دور الأستاذ الرئيس في مواكبة المتعلمين، وخاصة أولئك الذين رُصد لديهم غياب للانسجام في اختياراتهم وجانبياتهم الشخصية والدراسية بعد أن عبروا عن اختياراتهم الدراسية والتكوينية، وعبأوا الاستمارات الخاصة بجانبياتهم عبر "فضاء المتمدرس" بمنظومة "مسار". تدخل الأستاذ الرئيس هذا قصرته "المسطرة" حصرا على التواصل مع المتعلمين وأسرهم وباقي أساتذتهم لمعالجة عناصر الخلل على مستوى جانبية المتعلمين الدراسية.
أما المواكبة التخصصية فقد أناطتها "المسطرة" بالمستشار في التوجيه التربوي، الذي يعمل على تقديم كل الاستشارات والمعلومات الميسِّرة للاختيار لدى المتعلمين، والمرتبطة بالاختيارات الدراسية والتكوينية وأفاقها المهنية، ويدقق مع المتعثرين منهم خاصة في اختياراتهم الدراسية والتكوينية، ويبدي رأيه بشأن انسجام جانبياتهم جميعا مع الاختيارات والأهداف المهنية التي عبروا عنها سالفا.
وقد أناطت "المسطرة" بالإدارة التربوية للمؤسسات التعليمية مهمة المواكبة الإدارية / التقنية للمتعلمين عبر السهر على تهيئة وتفعيل حسابات المتعلمين على منظومة "مسار"، وتسخير كل الوسائل والفضاءات الممكنة لمساعدتهم على ولوجها، بالإضافة إلى السهر على المصادقة على اختيارات المتعلمين عبر "مسار"، وبمسك المعطيات المتعلقة باختياراتهم وجانبياتهم انطلاقا من الحامل الورقي في حال ما إذا لم يتمكنوا، لظرف قاهر، من القيام بذلك بأنفسهم على المنظومة الإلكترونية ذاتها.
تمر المسطرة الجديدة للتوجيه عبر أربع محطات؛ تهدف أُولاها تمكين تلاميذ السنة الثالثة ثانوي إعدادي من التعبير عن اختياراتهم الدراسية والتكوينية الأولية ومساعدتهم على تدقيقها، وملء استمارتي الميولات الدراسية والمهنية بتأطير ومواكبة من مختلف الفاعلين التربويين المتدخلين. فيما يعبر جميع المتعلمين المستهدفين من عمليات التوجيه في المرحلة الثانية عن اختياراتهم النهائية عبر "فضاء المتمدرس"، ويستخرجون نسخا ورقية تودع لدى إدارات المؤسسات الأصلية بعد توقيعها من طرف أولياء أمورهم.
أما المحطة الثالثة من المسطرة فتتحمل مسؤولياتها المؤسسات التعليمية ومؤسسات التكوين المهني؛ إذ تسهر الأولى على تحضير لوائح الانتقاء الأولي ومسك القرارات المدرسية وقرارات التوجيه عبر "مسار"، وذلك بعد أن تبث فيها لجن الانتقاء الأولي (تراجع مكوناتها في المادة 15 من المسطرة) ومجالس الأقسام الخاصة بالتوجيه (نصت المادة 18 على سبل تفعيل أدوارها وتجويد قراراتها). أما الثانية (مؤسسات التكوين المهني) فتعمل على استخراج لوائح طلبات التوجيه لمسلكي التخصص والتأهيل عبر "مسار" وإعداد وإجراء المباريات الخاصة بذلك، وتحميل نتائج المتعلمين واستخراج لوائح الموجَّهين إليها ولوائح الذين أكدوا تسجيلهم بها على ذات المنظومة.
تتيح المحطة الرابعة من هذه المسطرة الفرصة للمتعلمين لمراجعة قرارات توجيههم، وذلك بالتعبير عن رغباتهم في إعادة التوجيه معلَّلةً ابتداء من اليوم الموالي للإعلان عن القرارات المدرسية وقرارات التوجيه. وقد حصرت المادة 21 من المسطرة محددات إمكانات إعادة التوجيه في إمكانية اختيار كل المسارات المتاحة في نهاية كل مستوى دراسي كإمكانات لإعادة التوجيه في المستوى اللاحق، وجعلت باقي المسارات الأخرى كإمكانات استثنائية لإعادة التوجيه، في وجه المكررين على وجه الخصوص، شريطة ثبوت عدم قدرتهم على المسايرة وتطابق مواد الامتحان الجهوي بالنسبة للاختيارات التي تهم متعلمي السنة الختامية من سلك البكالوريا.
على سبيل البيان
يشكل إصدار هذه المسطرة تزامنا مع ما تعيشه البلاد من تداعيات الأزمة الصحية العالمية المرتبطة بانتشار وباء كورونا، والتي فرضت على المدرسة المغربية، كغيرها من المؤسسات الاجتماعية، الانخراط في سيرورة الرقمنة والاستفادة إلى أقصى حد ممكن مما يتيحه العالم الرقمي من فرص وامتيازات، خطوة مهمة في هذا الإطار، بالنظر لاعتمادها في مختلف المحطات المذكورة آنفا على المنظومة الرقمية "مسار"، والتي تجعل المتعلم في قلب سيرورة الاختيار التي وسمتها المسطرة الجديدة بطابع الدينامية والبناء المتدرج، وأشركت مختلف الفاعلين التربويين في مواكبة المتعلمين، باعتبارها شأنا جماعيا للمنظومة التربوية لا تقتصر على أطر التوجيه لوحدهم، وتدليل مختلف أنواع الصعوبات التي يصادفونها في طريق بلورة وتجسيد مشاريعهم الشخصية الدراسية والتكوينية والمهنية.
كما أن المسطرة تسعى - وبطموح كبير- إلى جسر الهوة بين المتدخلين المؤسَّسيِّين؛ من مؤسسات تعليمية ومؤسسات للتكوين المهني والمؤسسات الجامعية، سواء بتسهيل التواصل فيما بينها بخصوص مسارات المتعلمين، أو بتمكين هؤلاء من التحرك جيئة وذهابا من وإلى تلك المؤسسات، مع ما يضمنه ذلك من فرص في تحقيق طموحاتهم وأهدافهم الدراسية والمهنية عاجلا وآجلا. بالإضافة إلى أن هذه المنظومة تسمح للمتعلم، كما لباقي المتدخلين الآخرين، بتتبع ورصد تطور مساره الدراسي والتكويني عبر الزمن وترصيد نجاحاته وإخفاقاته في الاختيار والإنجاز معا، مما يسمح بتشكيل صورة أقرب للوضوح عن واقعه الحالي وآفاق تطوره المستقبلي.
هذه الإيجابيات التي رصدنا بعضا منها، لا تثنينا عن بعض "الهمسات في أذن" كل المتدخلين في وضع تصور وأجرأة وتتبع وتقويم المنظومة الجديدة للتوجيه، والتي نراها ضرورية في هذا المقام حتى يتحقق المأمول ونبلغ من خلالها المرام. ولعل أُولى هذه "الهمسات" تسائل الأدوات العلمية في وضع المسطرة، سواء فيما يخص بناءها النظري الذي يقتضي النظر في النظريات التربوية ذات الصلة، مع مراعاة محدودياتها والوسط الفكري والسوسيو-اقتصادي الذي أنتجت وتبلورت في سياقاته المختلفة، أو على مستوى محدودية ونسبية الأدوات الموظفة وبُعدها عن القطعية والإطلاقية، وهو ما يفرض حذرا منهجيا في التعامل معها وتنسيبا للنتائج المترتبة عنها، وتدرجا في تنزيلها وابتعادا قدر الإمكان عن التعقيد والتضخيم.
أما الهمسة الثانية فمرتبطة بالأولى، لكنها تتوجه بالأساس للفاعلين التربويين "الميدانيين" الذين يقع على عاتقهم مواكبة المتعلم في مختلف محطات ومراحل تنفيذ مسطرة التوجيه؛ وفحواها النظر إلى النتائج المترتبة عن استعمال المتعلم لهذه الوسائل كدعامات مساعدة على الاختيار واتخاذ القرار، بحكم تعاملنا مع إنسان ميزته التعقيد وتداخل جوانبه النفسية والتربوية مع محيطه الحافل بالمتغيرات والمؤثرات. أو بمعنى آخر؛ إن المسطرة والاستمارات المتضمنة فيها لا تعدو أن تكون - في نظرنا - سوى وسائل للدعم وإثارة الأسئلة حول الذات وتفاعلها مع المحيط الدراسي والمهني، وليست وسائل لتقديم الأجوبة القطعية حول المستويات المذكورة.
الهمسة الثالثة أوجهها للمدَبِّرين المؤسَّسِيّين من المحلي إلى المركزي، والذين وإن كان من المفهوم والمتفهّم اعتمادهم على المعطيات الكمية المرقَّمة في تدبير شؤون ومحطات المسطرة الجديدة للتوجيه وتقييم مدى الانخراط فيها، إلا أن ذلك الأمر ليس مدعاةً لحجب حقيقة مخاطبتها للجوانب النوعية لدى المتعلمين، والتي لا يستقيم اختزالها في أرقام ونِسَبَ نتهافت جميعا لإيصالها حد المئة بالمئة أو قريبا منها، بغض النظر عن مدى جودة مدخلاتها ومخرجاتها. كما أن الأمر يقتضي من هؤلاء المدبرين توفير ما يلزم من إمكانات لتسهيل عمل المتدخلين الأساسيين في تنزيل مضامينها.
عموما؛ هذه الهمسات وغيرها لا تخفي حقيقة الدينامية التي ستخلقها المسطرة الجديدة في مجال التوجيه المدرسي والمهني، وخاصة بين المتعلمين والفاعلين التربويين داخل أسوار المؤسسات التعليمية وخارجها، آملا أن يكون لها ما بعدها، وألا يتم اختزالها في الوثائق والأرقام، لما يخدم مصلحة المتعلمين الفضلى ويسهم في مساعدتهم على الاختيار الأمثل والتوافق الأفضل مع الذات، والاندماج الإيجابي مع المحيط وما يوفره لهم من فرص وما يفرضه عليهم من تحديات في الحال والمآل.
* باحث أكاديمي ومستشار في التوجيه التربوي.