سليمان محمود -تنغير
يعاني الفلاحُ مشاقَّ تقليبِ الأرض حرثاً، وزرعَها، وسقيَ ما زرعه على مُدَدٍ مضبوطة، وقد بذل مجهودا في تعلمها. وينتظر عطاءها بشوق العطشان في البيداء للماء. قد تأتي الأمطار خيرا، وقد تكون وبالاً عليه ونقمة. يكابد كل هذا العناء والشقاء، حتى يستقيم الزرع، ويُثمر، فيأتي مراهقٌ متهورٌ، أو راشدٌ صبيانيٌّ، أو مجنونٌ لا يُلامُ، فيطأ حقلَه بقدميْه، معتدياً على الزرع، مدمراً ما بناه الفلاح المسكينُ بكده وصبره، ويأكل المعتدي الثمار، ويملأ جيوبه، ويطلق رجليه للريح، مخلفاً دماراً، ومهيناً لمجتهدٍ.
ولا أعتقد أن شخصاً عاقلاً يقبل هذا العدوان، أو يتضامن معه، بل إن كفة التضامن تميل للفلاح، كما مالت كفتي للفنان التنغيري "محمد الزياني" في إقحام لوحته الفنية المشهورة في يافطة سياحية علقها المجلسين الجماعي والسياحي لتنغير، لتدل على "زنقة تِيوْتْمِين"، أو "زنقة العيالات" كما ترجمها صاحبي مشروع التشوير السياحي للمدينة ترجمة غريبة بالعربية والفرنسية، مجردين الاسم من كل حمولته الثقافية المحلية.
تظهر في اليافطة لوحة مشهورة لامرأة تودغية أبدعتها ريشة متميزة، ترتدي لباس "رّْدِي"، أبيض اللون، وتضع "تسبنيتْ" بألونها المزركشة الخالبة للقلب والعقل لجمالها. وقد أثارني بشدة وضع اللوحة في اليافطة. تبدو الفكرة، للوهلة الأولى، مبدعةً، أن توضع صور للأشكال الثقافية المميزة لواحة تودغى وأهاليها، لكن ما تبادر لذهني هو التساؤل عما إذا كان وضع اللوحة في اليافطة تم بتشاور مع مبدعها، وتعاقدٍ، أم أن العشوائية كانت هي الحاضرة بهيبتها الممسوخة؟ هل وضعُها شرعيٌّ من الناحية القانونية؟ هل احتُرمت الملكية الفكرية والإبداعية للأستاذ الزياني، أم لم يتم احترام القانون رقم 00-2 المتعلق بحقوق المؤلف والحقوق المجاورة؟ أليس الفنان في هذه الحالة مثل الحداد، واللحام، وكل المتدخلين في صناعة اليافطة؟ أليس له حقوق؟
أسئلة حملتها إلى الفنان، وأخبرني بتفاجئه برؤية اليافطة التي أثارت نقاشا في ترجمة اسم المكان، فلم يكن بعلم بالأمر حتى رآها في مركز المدينة. الصورة المستعمَلة دون أي احترام لحقوقه الملكية لا تحمل ولو توقيعه على الأقل، أو إشارة إليه. وقد تأسف على عدم الوعي بأهمية الفن في المنطقة، وعدم إدراك قيمة الفنانين.
وقد علمت أن الأستاذين بوشتة ذكي، ومحمد المسعودي، لما أرادا إصدار كتابهما المشترك "مختارات من الغزل الأمازيغي"، حاملا ذات اللوحة في يافطة المجلسيْن الموقريْن، طلبت منهما المؤسسة المكلفة بالطبع الإدلاء بعقد يصادق عليه صاحب اللوحة، رغم أن الزياني وافق، دونما تردد للكاتبين باستعمالها غلافا لكتابهما. لكن المطبعة أصرت على وجود عقد مكتوب، وكذلك أصر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لما أراد كل من الكاتبين طبع كتابهما "الغزل في الأغنية الأمازيغية" الصادر عنه. وهي القصة نفسها مع كاتبة أمريكية، أذن لها الفنان التنغيري باستعمال إحدى لوحاتها التجريدية لكتابها شفوياً، فاضطرر لتوقيع إذن مكتوب، وإرساله إلى أمريكا. وحصل أمر مشابه في كتاب "أوراق من تودغى"، للأستاذ زايد جرو الذي استأذن الفنان في لوحته، وأذن له، وأشار الكاتب إلى مصدرها في صفحة مؤلفه الأولى بعد الغلاف، احتراماً لجهد الرسام، وتقديراً للفن، وللأمانة الفنية، والضرورة الأخلاقية.
وأتساءل: ألا يعي مسؤولونا بكل هذا؟
إن العمل الفني مِلكٌ للجميع، وما نعرفه عن محمد الزياني هو تواضعه، وعشقه للفن، وسعيه لنشر قيم الجمال، فهو الفنان الوحيد في المنطقة الذي انتشرت لوحاته الرائعة في وسائط التواصل الاجتماعي، لكن الثقافة الفنية، والتربية السليمة، تقتضي استئذانه إذا ما أردنا نشرها في واجهة كتاب، أو مرفقات مقالة تحليلية، أو مؤسسة رسمية. وأنا متأكد أن المسؤولين عن مشروع اليافطة موضوعنا لو طلبوا من فناننا لوحته، لفعل دون أدنى تحفظ، لكنهم فضلوا عدم الالتفات إليه، وكأن لوحته "مقطوعة من شجرة"، يتيمة لا مصدر لها.
وودت سماع رأي المسؤولين عن اليافطة، لكنهم لم يجيبوا عن أسئلتي، وقد توجهت بها إليهم.
