بقلم ذ : إدريس كثير * / جديد أنفو
استهلال:
"... كما أن الحضورالمكثف للجسد – جسده الخاص [أ. أرطو] داخل كتاباته بشكل عام، قادنا إلى التوقف عند هذه النقطة، حيث أبرزنا تمظهرات هذا الحضور وتجلياته، إيمانا منا بأن المسرح هو فنُّ الجسد بامتياز، إن لم يكن هو الجسد نفسه ". سعيد كريمي، ص10.
*******************
الكاطّارسيس عند أرسطـو هو تطهير للنفس قبل الجسـد، أو الأصح هو تطهير لنفس الجسد. (أرسطوpoétique 6.). أما الكطّارسيس لدى أرطـو فهو تطهير للجسد أو الأصح هو الارتفـاع من جسد تحكمه الأعضـاء إلى جسد بدون أعضاء (CSO دولوز/كاطاري). إنـه إثارة كل الحواس وتحريـك كل القوى الواعية واللاواعية لاستيعـاب الدوافع الثاوية طي الكتمان.
لتحقيق هذه القطيعة مع الدراما الأرسطية القائمة لا فقط على المحاكاة (Memisis) والكاطارسيس (catharsis)، وإنّما أيضا على الفعل أو الحركة والشخصية الدرامية وتجسيد القيم النبيلة والمثل العليا.. كان لزاما تحقيق تجربة فريدة من نوعها. تجربة "قاسية" بكل معاني القسوة. هي تجربة أنطونان أرطو.
في مفترق الطرق بين الدراما الأرسطية التي أضحت تقليدية والدراما الحداثية "ملحمية" كانت أو "فقيرة" أو "قاسية" وبين "التجريب" المسرحي خاصة العربي منه.. يقف الدكتور سعيد كريمي وقفة رجل واحد متعدد الاهتمامات، متسائلا: ما هي حقيقة "مسرح القسوة" ؟ على جميع المستويات الفكرية والتقنية لخشبة المسرح ؟ وما دور هذا النوع من المسرح وأثره على خريطة التجريب الدرامي في الغرب ثم على مستوى العالم العربي ؟ .
رهان هذا الكتاب هو الشعور المفزع بأن "البيت المسرحي العربي يكاد يكون خاليا من الأبحاث الأكاديمية المتخصصة " في تجربة أرطو" وهو في حاجة ماسة إلى هذه التجربة لا لغرابتها وخصوصيتها وإنما لشعريتها ورؤاها وقدرتها على "الخروج من دائرة الاتباع إلى الأفق المفتوح للإبداع" المسرحي.
لم يكن المسرح الأرسطي تحكمه رؤية فلسفية خاصة به، بقدر ما كان جزءا من معالم فلسفة تبحث في الطبيعة وما بعد الطبيعة، في الكون والفساد، في الشعرية والسياسة في البلاغة والجدل عامة، وفلسفية ترتبط بالبلاغة والشعرية والفن وهي المجالات الأقل فلسفية لكونها ترتبط بالباطوس والإيتوس أكثر مما هي مرتبطة باللوغوس.
في مؤلفه " فن الشعر" يتطرق أرسطو للملحمة والمحاكاة والتراجيديا. وهذه الأخيرة هي " تقليد ومحاكاة لأفعال نبيلة لها خاتمة تعتمد على الإيقاع والغناء". "إنها محاكاة أشخاص يتحركون ويمثلون ولا يتوقفون في تمثيلهم على السرد والرواية. يثيرون إحساسات وعواطف تتراوح بين الشفقة والخوف مفعولها هو تطهير المتفرج من مثل هذه الإحساسات".
ويتم هذا التطهير وفق الطريقة التالية : يشعر المتفرج إما بالشفقة أو الخوف أمام مشهد ما. وفي نفس الوقت يحس بلذة جراء ذلك. إن الحكاية المسرحية الدرامية المتقنة هي ما يحقق هذا الابتعاد، بمحاكاة انفعالات سيئة مرفوضة كالقتل، والمحارم، والكذب.. الخوف والامتعاض.. في مثل هذه الأفعال يطهر الجسد والروح.
كل مأساة تتميز بالعناصر الستة التالية : الحكاية، المزاج (الإيدوس) الفكرة الغناء التعبير والإخراج.(أرسطو).
أما مسرح القسوة فتُسنده فلسفة حياتية تجريبية. بلورها أرطو من لحمه ودمه ، من عقله وانفعالاته.. عتبة العتبات في هذه الفلسفة هي جسده. بعد أن جرب السّريالية في ثوريتها وتمردها على العقلانية والنمطية، لاحظ أن تمردها ليس هو نفس تمرده. فانفصل عنها ومارس سُرياليته الخاصة به. لم يكُن الدين بالنسبة إليه أقانيم ولا شعائر بقدر ما كانت آلام المسيح هي آلامه، " واعتبره الثوري الحقيقي الوحيد كما اعتبر أن خلف كاثوليكيته يتموضع مبدأ هو الهدم، وهو ما [كان] يهمه". (ص 36). ينضاف إلى هذه السريالية الهدامة مُعاناة العقلات العاطفية الحميمة: فشل أرطو فشلا دراميا في كل علاقاته العاطفية (جينكا انتانسيو، سيسيل شرام، جاكلين بروتون، بول تيفنان، وأناييس نين) تقول هذه الأخيرة " أحمل في نفسي لأرطو شفقة عظيمة، لأنه دائم المعاناة جسديا، لم أستطع الاقتراب منه، لكنني أحببت فيه التوهج، والعبقرية [...] نظرت إلى فمه ذي الحواف المسودة بسبب تعاطي اللودانوم، فما رغبتُ أبدا في تقبيله. أن يقبّل أحد أرطو، فذلك يعني أن يجره نحو الموت والجنون" (ص 39).
- إنَّ سبب هذا الفشل العاطفي يعود إلى اعتبار الجنس دنس وخطيئة في تصور أرطو: ذلك أن "الجسد الذي يريد إعادة بنائه ينتمي إلى بعض الأجساد الماقبل آدمية والأجساد الباتولية ما قبل الخطيئة. عندما كانت الوظائف المختلفة للجسد، وخاصة وظائف الولادة والتبرّز غير موجودة" (ص 45). إنها فلسفة الجسد بدون أعضاء. (C.S.o).
لا يمكن فهم واستيعاب "فلسفة الجسد" هذه إلا بالوقوف مليا عند حالة أرطو اسكيزوفرينية والتي وسمها سعيد كريمي بـ"المنعطف التراجيدي". فهي مرض تراجيدي وعبقرية في آن واحد.
السكيزوفرينيا لست انفصالا في الشخصية بقدر ما هي انفصال بين الشخص والواقع. ... مثلما حذث لنيتشه ،هولدرلين، موبسان، كافكا، جيروم بوش، فان كوغ....
- ينتمي أرطو إلى هذه الزمرة من المرضى العباقرة، وهي ليست عبقرية مرضية بقدر ما هي عبقرية صوفية.
تأسست هذه العبقرية على جسد مهشم نخره المرض في مستويَيْه. في أعضائه (سرطان، ...) وفي نفسيته (فصام)" : إن كل عملي لم يؤسس إلا على العدم" (ص 45)، على الموت في الحياة، على الانتحار على الجنون، على المعاناة على الآلام.. على إفناء الجسد والنفس وتطهيرهما في جسد بدون أعضاء. كما تأسست على العودة إلى الأصول الأولى والعتيقة للثقافة كما جسدتها ثقافة وطقوس "التراهوماراس" المكسيكية. أنتربولوجيا ثقافية تبحث عن الحقيقي والأصلي في الطقوس الدرامية لهذا الشعب الهندي الأمريكي وهي طقوس عتيقة مرتبطة بتطهير الجسد من كل نفس خبيثة. حيث "وجد أرطو مسرحا في حالته الأصلية"(*) (ص 52).
وتأسست ذات العبقرية على تعاطي المخدرات. لا باعتبارها سُمّاً إنما ترياقا. فيها يقول : "إن هذا الخطر (يقصد المخدرات) غير صحيح، لقد ولدنا متعفنين روحا وجسدا. ولم نتأقلم فطريا مع ذلك. امنعوا الأفيون فلن تمنعوا الجريمة ولا سرطان الروح ولا الميل إلى اليأس [...] لن تحولوا دون أن تكون هناك أرواح موجهة نحو السم كيفما كان نوعه سواء كان سم المورفين أو سم العزلة أو سم الاستمناء [...] أو سم الكحول أو سم التبغ أو سم النُّفور المجتمعي" (ص 54).
بهذا التّرياق أو العُشب الليلي اكتملت عبقرية أرطو بعد أن تطهرت.
بكل هذا العتاد يعدُّ أرطو امتدادا مُفارقاً للدراما الغربية. فهو من جهة قد حقق قطيعة إبستمولوجية مع الدراما الأرسطية ومن جهة أخرى مَدَّ ظلال السريالية من الشعر إلى المسرح ليقطع معها في تجربة مسرح ألفريد جاري ثم ليُؤسس مسرحا جديدا وبديلا سماه "مسرح القسوة". عتبات هذه التجربة (القطيعة والامتداد) يقدمها لنا سعيد كريمي أحسن تقديم في المبحث الثالث من الفصل الأول .
من الحكاية إلى ما وراء الحكاية (الجذبة) ومن التطهير الروحي إلى التطهير الجسدي، ومن المحاكاة إلى قسوة الأحداث، ومن الحوار إلى المونولوغ، ... هذه هي معالم القطيعة بين مسرح أرسطو ومسرح أرطو. بعدها ستبدأ شعرية أرطو الدرامية في الانبثاق, انطلقت في التمرد كقاسم مشترك مع السريالية لكن سرعان ما سيتقيأها لأنها عشبة ضارة ويستبْدلها بالمسرح الطالئعي الموسوم بميسم الشاعر "ألفريد جاري" وسيبلور بمعية صديقيه روجي. فيتراك (R. Vitrac) وروبيرهارون (R. Aron)، فلسفة درامية ترتكز على كون المسرح "لا يقلّد الحياة، ولا يوضّحها إنما يهدف إلى جعلها تستمر كعمليات سحرية تنضُح بما هو روحاني صوفي". (ص 69). فالمسرح ترياق سحري إكسير للحياة، كالذي مارسه وتعاطاه التفكير السحري الماقبل منطقي في المكسيك مثلا مع شعوب "التراهوماراس". ...إلى أن تستقر هذه الشعرية الدرامية على مفهوم "القسوة". المفهوم الذي سيرقى به أرطو إلى مستويات عليا أخلاقية وشعرية. فهو لا يقصد به أفعال العُنف اليومية المجانية بقدر ما يرى فيه أخلاق صراع بين الخير والشر، وصراع بين قوى الحياة المختلفة.. إن المفهوم يُلخص أخلاق التراجيديا التي تمزق وجود الإنسان ومعناه الأنطولوجي. وفي هذا البُعد من أبعاد مفهوم القسوة، يعدُّ أرطو امتدادا للتقليد الدرامي منذ إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس.. كما يُلخص أخلاق التصوف التي تبشر "بالقوانين الخفية للجسد والقوانين الكونية للكائن" (ص 75). مُتجاوزة "المركزية الأوربية" ذات الصبغة العُنصرية، والعقلانية الأوربية النمطية وثقافة الكتب البيبلوقراطية.. وفي هذا البُعد الثاني لمفهوم القسوة يرتبط أرطو بالدلاي لاما واليوغا وزرادشت الفارسي والشامان المكسيكي..
أما شعرية "القسوة" فهي شعرية سحرية، تنطلق من الشعائر الدينية والمعتقدات القدسية، كما مورست لدى اليونان والهندوستان باعتبارها أساطير كبرى تعالج "القسوة الكونية" وتصور "الإنسان في صراعه الأزلي، مع قدره ومع الآلهة وقوى الغيب المتحكمة في مصيره" (ص 81). شعرية تتجاوز البعد السيكولوجي (تطهير النفس) للوقوف على البُعد السحري الغرائبي (القسوة الجسد).
وإمعانا في منح "القسوة" قوتها المفاهيمية سيربطها أرطو بالعديد من المفاهيم الفلسفية نذكر منها : القرين، الميتافيزقيا، الخيمياء، الفُرجة الشاملة...
يجمع ألان فيرمو (Alain Virmaux) هذه المفاهيم في قوله: "لكي نعرف معنى القرين (double) يمكنُ أن نبدأ بما لا يمثل القرين. فهو ليس شكلا ولا انعكاسا. فالطاعون مثلا ليس صورة للمسرح إنما هو المسرح نفسه. والمسرح كذلك ميتافيزيقا. كما أنه خيمياء. ولا تقام بين المسرح وقرينه علاقة استعارية شفوية، ولكن علاقة تطابق لازمة [...] فالقرناء متعددون ويتقابلون بلانهاية" (ص 112/113).
بهذا المعنى لا يجب فهم المسرح كمرآة، أو انعكاس لشيء ما، وإلا مكثنا في "مفهوم المحاكاة". للمسرح قُرنائه وهم تضعيفاته وتكراراته (ses doubles). فالميتافيزيقا تكرر المسرح وتضاعفه، وكذلك الخيمياء والطاعون الحجر والمرض إلخ.
عادة ما يفهم الفلاسفة بالميتافيزيقا ما وراء الطبيعة، وهم يقصدون بها الأسباب والعلل الثانوية والمتجاوزة لما هو طبيعي. أرطو لا يميز بين الطبيعة وما وراء الطبيعة. مثلما لا يميز بين الجسد بأعضائه والجسد بدون أعضاءه ؛ وبين المسرح والسحر، وبين الواقع والاستيهام. الميتافيزيقيا لديه هي قسوة هذا المزج بين الأطراف؛ وعدم تعارضها. كما أنه لا يبحث عن أسباب بعيدة عن الطبيعة أي بعيدة عن المسرح. "الميتافيزقيا تؤسس فلسفته الدرامية " (ص 88) لأنها تضاعف المسرح وتُغنيه، تمنحه تصوره الفكري الشامل. سحر الخيمياء يكمن في قوتها على تحويل التراب إلى تبر، وتحويل الجسد العُضوي إلى جسد هُلامي، و"من ثم تبرز القوة التوليدية الخارقة لعلم الخيمياء في استنبات مواد جديدة لم تقدمها الطبيعة بشكل مباشر" (ص 91). كذلك هو شأن المسرح وتضعيفاته وشأن الجسد وتلويناته ". عليه أن يكون عـارفا بأسرار الانفعالات النفسية والكتابة الجسدية والتغييرات الصوتية حتى يتسنى له تطويع ذاته لتقمّص كل الأدوار "(ص 91). هذا البُعد السحري هو تضعيف المسـرح وتقرينه وهو ما يجعل من المسرح فضاء للخلق والتحويل. قصد تحقيق الفرجة الشاملة، التي تحافظ للمسرح على كل مظاهره الفرجوية الأصلية.
لا يكتفي أرطو بالتنظير "للقسوة" وإبرازها في خلفياتها الفكرية والفلسفية والجمالية والدرامية بل يُنظّر ويُمظهر تمظهراتها التقنية والإخراجية والسينوغرافية بنفس الحماس والإلحاح المسرحي الطليعي. لقد كان مُنظرا وممثلا ومخرجا. لم ترُقه اللغة الكلامية والحوار المسرحي أبدا. وإن كان لابد من كلام فليكن في شكل صراخ وهذيان واستيهام لأن الكلام بدون هذه الانفعالات القاسية لا معنى له ولا طعم. وإذا باتت اللغة هيروغليقية فمرحى بالتباسها وبلاغة استغلاقها. الحركة، التركيز، البانتوميم، لغة الجسد هي لغة الدراما في اعتقاد أرطو. لأن هذه الأخيرة تخرج المسرح من "قذارة" الكتابة والنص إلى العرض والاستعراض. وقد يكونُ العرض في أبلغ تعابيره إذا كان صامتا: "الخشبة هي أول فضاء يجب ملؤه، ومكان يحدث فيه شيء ما. فإن لغة الكلمات يجب أن تترك مكانتها للغة الإشارات التي تصدمنا مباشرة أحسن في مظهرها الموضوعي" (ص 127). هذا الاستعمال للغة يمتح تداوليته من لهاثُ السكيزوفريني، ومن صُراح الشاماني، ومن تعويذات الساحر... لذا يُفضّل أرطو صفة المخرج على صفة المؤلف. وصفة المشهد على صفة المقطع. لغة الديكور والملابس والإضاءة والأكسيسوارات على لغة القول والحوار والحديث والكتابة. لا يكتب المخرج ولا يتحاور إلا استعارة، إنما يُخرج (كالساحر) ويعرض (كالراقص) جسده، في أجساد الآخرين بمن فيهم جمهور المتفرجين. "الإخراج المسرحي سلسلة من الضربات بالمطرقة في قلب المخرج المسرحي التي يتتبعها الممثلون الآخرون عن طريق الحب والاختيار بضرب أنفسهم بمطارق أخرى وسكاكين واقعية للتمكن عن حب من سماع صوت منغم إلى جانب صوتهم، إذا كان يروق لهم" (ص 141). هذا الانسجام بين المخرج والممثل يذكرنا بطريقة نيتشه في التفلسف وهي طريقة أقرب إلى الإخراج المسرحي أو بلغة أرطو "الميتافيزيقيا المتحركة" منها إلى التأليف الفلسفي.
سينوغرافياً، لا يستقيم الإخراج الأرطي مع الأدوات السينوغرافية المابعد إغريقية، فالعُلب الإيطالية والمسارح الكنسية المغْلقة لا تسمح للمدى الحركي والجسدي أن يمتدّ بحرية. على الأقل كانت أغوارا مكانا منفتحا لدى الإغريق وكانت تسمح بحرية كبيرة للحركة لا تحدها إلا الدائرة. وحتى دعوة بريخت لتكسير الجدار الرابع وإشراك الجمهور في المسرحية لم تكن هي مبتغى أرطو. لقد كان يحلم بخشبة خائلية وهمية يمكنُ رسمها في أي مكان وزمان بالطباشير حتى، وتكون قابلة للتحرك والتحول في أي وقت وحسب مزاج وحيوية كل أعضاء الفرقة ومع أعضاء افتراضيين من الجمهور.. بنفس الشكل الذي كانت تتم فيه طقوس البيوتل (المكسيك). ومن الجهة الأخرى للتحليل، يمكن للخشبة أن تمُلَّ في جسد الممثل، وأن تختزل في حركته وصوته، خشبة قابلة للطي في ثنايا الجسد معلولا كان أم صحيحا. جسدٌ بدون أعضاء هلامٌ، أثر، سحابة في لا مكان بدون أبعاد أفقية ولا عمودية.
خشبة خائلية بهذا النوع الميتافيزيقي لا تتوقف على الديكور أو الأصح لا تهتم بالديكور الاصطناعي الوظيفي.. الممثل هو الديكور الحقيقي والموسيقي (الصاخبة) هي تأثيث الفضاء والإنارة هي تسليط الضوء على ما يتحرك. "لن يكون ثمة ديكور، وإنما سيعوضه أشخاص هيروغليفيون وأزياء شعائرية وآلات موسيقية.."؟ (ص 160).
الهدف، من الإنارة هو خلق أعلـى درجات التوتر، والهدف من الموسيقى هو إدامة وإسماع هذا التوتر في أعلى مسويـاته ونقله للجمهور لأجل كاطارسيس جسدي تام. وبناء عليه " يطلب أرطـو من المتفرج أن يقبل بالسيـر خارج حدود اليومي، والدخول في المناطق السديميـة اللامحدودة. لأنه يقترح عليه مسرحـا مخالفا للمسـارح السيكولوجية المبنية على الحـوار والكلمة. مسرح يعالج هموم الفرد الأكثـر حدة والأكثر عمقا "(ص 171).
لا مجال للمحاكاة في الفن الدرامي الأرطي، ولا مجال للمتعة والفرح والنّهاية السعيدة، كما لا مجال للتطهير النفسي من براثن الشّر والانفعالات السيئة. الفن الدرامي لدى أرطو تمرد واحتجاج. الهدف منه الإحساس بالألم والقلق من قسوتهما، وتطهير الجسم – لا النفس – من مفهومي الخوف والشفقة. التطهير لدى أرسطو سيكولوجي أما لدى أرطو فميتافيزيقي.
لكن السؤال الإشكالي والمحير بعد هذا التحليل كله هو : هل نحجب نظرية أرطو الدرامية في أن تتحول إلى دراما ؟ وهي نفس الحيرة وذات الإشكال اللذان خص لهما د. سعيد كريمي مبحثان يتساءل فيهما تارة عن وضع "مسرح القسوة" بين النظرية والتطبيق، وتارة أخرى : عن علاقة "مسرح القسوة" بالتجريب.
لا نُطبق النظرية المسرحية مهما بلغت دقتها على الأشكال المسرحية إلا بتأليف مسرحية وإخراجها. العرض الوحيد واليتيم الذي قدمه أرطو في إطار مسرح القسوة هو آل سينسي (Les Cenci). موضوعه يدور حول "زنا المحارم". وهو ليس بالموضوع الجديد.. فأساطير الأولين تطرقت إليه، وسوفوكليس ألفه وأخرجه وأعاد صياغته ستاندل، وكوكتو، وتوفيق الحكيم وجون أنوي.. إلا أنه من المواضيع التي تثير التمرد، وتخرق العادة، وتبرز الصراع الميتافيزيقي والاغتياض من القدر.. والجريمة، وإشكالية الطبيعة والثقافة..." إن مسرحية "أل سنسي " هي احتجاج مفتوح وعنف موجه ضد الدين والعائلة والعدالة " (ص 189). كل العناصر التراجيدية والدرامية متوفرة في النص وتتمحور حول مفهوم "القسوة".
وفّر أرطو لعرضه وتداريبه كل العُدّة التقنية من موسيقى وإنارة وديكور عجائبي مفرط في غرائبيته، وأقنع ألمع الممثلين آنذاك بتجسيد المسرحية وحصل حتى على المنتج والممول (الجميلة – أية عبدي) (ص 198).
ومع ذلك فشلت المسرحية.
فصّل د. سعيد كريمي الحديث حول الأسباب الموضوعية (وعي وذوق الجمهور) والذاتية (تطرف أرطو) في الفشل. إلا أن نجاح الدراما ومعيار تفوقها لا يكمن في الجانب النظري وإنما يكمن في الجانب العملي التطبيقي. لقد نجح أرطو في التأليف الدرامي وفشل في الإخراج المسرحي. لربما أن الشكل المسرحي الضامن لنجاحه هو المسرح الفردي، المعتمد على الأتوبيوغرافيا. لذا فإن "أرطو قد حقق تمسرحه خارج المسرح " (ص 207).
أما من جهة التجريب ؛ فرغم صعوبة تحديد هذا المفهوم حصريا، فهو يشير إلى التجديد والتمرد والثورة وبناء رؤية مغايرة. يقول بريخت : " كل دراماتورجية لا أرسطية هي بالضرورة تجريبية ". من هذه الزاوية يمكن اعتبار "مسرح القسوة" مسرحا يقف في مقدمة المسارح التجريبية الطليعية التي دعت ووعت معنى التمرد على الأشكال التقليدية في المسرح. وبهذا نجح أرطو في التأثير على الأدب والفن بصفة عامة. وكان وراء ميلاد العديد من الاختيارات والاتجاهات الدرامية الحداثية.
إن كان المسرح الملحمي (بريخت) والمسرح الفقير (غروتوفسكي) من التجارب التي عايشت "مسرح القسوة" وخاضت التجريب كما خاضه هذا الأخير؛ وجددت فيه.. فإن التيارات المسرحية التي تأثرت مباشرة بمسرح القسوة واعتبرت امتدادا له عديدة نذكر منها : "مسرح العبث" و" المسرح الحي" ومن الشخصيات التي تنتسب إلى أرطو يمكن الإشارة إلى بثيير بروك (P. Broock) وجون لوي بارو (JL : Barrautt).
فامتداد القسوة في "مسرح العبث" يبدو في عبث الأقدار ولا معنى الحياة... وامتدادها في "مسرح الحي" يبدو في انهيار القيم وهيمنة الرأسمال (الأمريكي) واللامبالاة...
أما ج. ل. بارو فقد كان تلميذا لأرطو عايشه وعاشره، وأخذ منه عصارته.
وب. بروك تأثر به من خلال أنجيله " المسرح وقرينه "، وبات قرينا له في المسرح. واعتبر هذان العلمان "تجريبا" حقيقيا لنجاح أطاريح أرطو النظرية منها والتطبيقية.
وفي الأخير؛ لقد استطاع د. سعيد كريمي، أن يُلفت انتباهنا إلى هذا الهرم المسرحي المشاكس، وأن يقدم لنا تجربته التراجيدية والدرامية بتفاصيل الإخراج المتقن أكاديميا وأدبيا؛ وأن يتابع انتشار رقعة "القسوة" عبر الجغرافيا البشرية؛ والمسرحية؛ وكان هاجسه وحرسه في كل هذا في تقديرنا هو البيت المسرحي العربي. فما هي حدود وحظُوظ حضور "مسرح القسوة" في حضرة وحظوة المسرح العربي ؟.
(*)يعد هذا البحث قراءة في كتاب الدكتور سعيد كريمي: "مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة". منشورات دائرة الثقافة والاعلام، الشارقة، الامارات العربية المتحدة، 2014.
* إدريس كثير : فيلسوف ومترجم/المغرب.
