سليمان محمود /جديد انفو
يُعتبر الفساد والريع من أبرز التحديات التي تواجه التنمية والتقدم في المغرب، حيث يؤثران سلباً على مختلف القطاعات والمجالات، ويعيقانها إعاقة حقيقيةً. وفقًا لتقرير الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، حصل المغرب على 38 نقطة من 100 في مؤشر مدركات الفساد لعام 2023، مما يعكس تراجعًا بخمس نقاط خلال السنوات الخمس الأخيرة، وانتقاله من المركز 73 إلى المركز 97 عالميًا. وهذا التراجع إنما يعكس واقعاً مؤسفاً، بل مريراً، يخبر بوضوح عن تفشي الفساد في كافة الأصعدة والمستويات، بدءاً بالأفراد المتمثلين في المواطنين الذين لا يفوتون فرصة للإستفادة من الريع دون استغلالها، وينتقدون الفساد إذا ما لم يستفيدوا منه فقط، وصولًا إلى المسؤولين في شتى المسؤوليات، مروراً بالمؤسسات الرسمية والمدنية؛ فالفساد أصبح، أو يكاد يصبح، ثقافة متجذرة تؤثر على جميع جوانب الحياة المغربية، مما يعرقل جهود التنمية والإصلاح، والتغيير والتقدم في البلاد.
وفي هذا السياق، تُعدُّ جمعيات المجتمع المدني، وخاصة جمعيات آباء وأمهات وأولياء التلاميذ، جزءاً من هذه المنظومة المنخورة بنصيبها من الفساد. وهي مؤسسات مدنية، المفروض أنها قائمةٌ على التطوع، لخدمة الصالح العام، دوننا رغبة في تحقيق مكاسب مادية. هكذا يجب أن تكون مبدئياً، كما أنها حلقة وصل بين الأسر والمؤسسات التعليمية، وتهدف إلى تحسين جودة التعليم، وتوفير بيئة مناسبة للتعلم. ومع ذلك، تكشف الوقائع عن وجود اختلالات مالية وإدارية في كثير من تلك الجمعيات، مما يثير تساؤلات حول مدى نزاهتها، وشفافيتها.
وسأعطي مثالاً لبسط الفكرة، وتحليلها ومناقشتها، من إحدى المؤسسات التعليمية التي تضم سلكين تعليميين، والتي تضم 3200 تلميذ(ة)، وتُحصِّل جمعية الأمهات والآباء من تلاميذها 75 درهماً، كواجب سنوي لانخراط كل واحد منهم. مما يعني أنها تجمع 240 ألف درهمٍ سنوياً من واجب الانخراط. ومع ذلك، لا يتجاوز ما تُنفِقه الجمعية فعلياً 60 الف درهم، حسب ما تصرح به في تقاريرها المالية، مما يطرح تساؤلات حول مصير المبلغ المتبقي،المقدر بـ 180 ألفَ درهمٍ!
وهذه الممارسات التي تكشف عن اختلالات جوهرية في أداء هذه الجمعيات، والتي تعكس تفشي مظاهر الفساد والريع في بعض مؤسسات المجتمع المدني، ليست حالات معزولة، بل تعكس نمطاً متكرراً في عدة مؤسسات، بسبب الغياب شبه التام لآليات المراقبة والمحاسبة، مما يعكس فقدان الثقة في هذه الجمعيات بسبب الشفافية المحدودة في تسييرها؛ فنقرأ أخباراً في هذه المدينة، وعن تلك، تخبر بحالات الفساد التي تعتري هذه الأجساد الجمعوية؛ كخبر نشرته جريدة "العرايش نيوز"، عن إحدى المؤسسات التعليمية بمدينة القصر الكبير التي تم رصد اختلالات مالية بجمعية آباء وأولياء تلاميذها، حيث لا تتوفر الجمعية على حساب بنكي، ويتم التصرف في مالية الجمعية بصفة غير قانونية. بالإضافة إلى ذلك، يقوم أستاذ بالمؤسسة بعملية استخلاص الانخراطات (60 درهم لكل تلميذ)، على حساب الزمن المدرسي للتلاميذ، كما نشرت ذات الجريدة في خبرها المتقول من بلاغ لفرع التعاضدية المغربية لحماية المال العام، والدفاع عن حقوق الإنسان، بالمدينة.
وفي مدينة أكادير، تم تقديم جمعية للآباء إلى القضاء بسبب اختلالات مالية، حيث اتُهم رئيس الجمعية بسوء تدبير مالية الجمعية، وتعريض المؤسسة التعليمية للاستغلال الانتخابي. كما أن بعض المدارس العمومية، خاصة بالسلك الثانوي، تفرض على التلاميذ "ضريبة" 100 درهم لصالح جمعيات الآباء، مما يثير استياء الأولياء والتلاميذ من تغول جمعيات الآباء، وصمت المديرية، كما نشرت جريدتا "مشاهد.أنفو"، و"تيلي ماروك".
وعلاوة على ذلك، كشف تقرير للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي عن محدودية انخراط الأسر في هذه الجمعيات، حيث لا تتعدى نسبة الانخراط 31.3%، وتنخفض نسبة المشاركة في أنشطتها إلى 25.3% من بين المنخرطين. وهذا العزوف يعكس فقدان الثقة في هذه الجمعيات، بسبب الشفافية المحدودة في تسييرها.
ان تفشي مثل هذه الممارسات لا يقتصر على جمعيات الآباء فقط، بل يمتد إلى مؤسسات أخرى في المجتمع المدني، مما يعكس ثقافة الفساد والريع التي تُعيق التنمية والتقدم. فعندما تُستغل الموارد المخصصة للتعليم في مصالح شخصية، يتأثر بذلك مستقبل الأجيال الصاعدة، وتُهدَر فرص تحسين جودة التعليم.
ان تفشي مثل هذه الممارسات في جمعيات المجتمع المدني، يعكس واقعاً مؤلماً، ويرسم مشهداً درامياً يحاكي فيه صغيرُ المجتمع عَلِيَّتَه، ويقلد فيه فقيرُه غنِيَّه، ويسير الضعيف على خطى الفاسد الكبير. وهو ما يتطلب تدخلاً بنيويا، بقرارات سياسية جريئة؛ فلا يمكن الحديث عن تقدم وازدهار، والافتخار بتنظيم كأس العالم، واحتضان التظاهرات العالمية، وبناء بنى تحتية مرتكزة في محاور محدودة قصد الإبهار، دونما الالتفات لأخطبوط الفساد الذي يخنق كل البلاد.
ويجب تعزيز آليات المراقبة والمحاسبة، لضمان الشفافية في تسيير الجمعيات، وتشجيع أولياء الأمور على الانخراط الفعّال فيها، والمشاركة في اتخاذ القرارات، لضمان توجيه الموارد نحو تحقيق الأهداف التعليمية المنشودة، فتضافر الجهود بمسؤولية، سبيل لتكريس قيم النزاهة والشفافية، إن اراد المغرب أن يتجاوز عقبات الفساد والريع، ويخطو نحو مستقبل أكثر إشراقا وتقدما، بدل الاكتفاء بالشعارات، و"العكر على الخنونة".