علي الحسني - الرشيدية

في قرية ملاعب الصغيرة (100 كلم عن الرشيدية) في حجمها لكنها كبيرة بحكايات أهلها البسطاء ..، يرتل ترانيم الحرية والخلود في مرتع صباه شأنه شأن سائر أبناء القرى والكثبان والأودية التي ترقد بإطمئنان بواحات تافيلالت، ولد "صناجة" الامازيغ الشاعر العصامي احماد أوهاشم راعي الغنم الذي فاض وجدانه حكما وقولا منظوما.

على آلة لوتار وهو من أشهر العازفين عليها يحاكي الإيقاعات وألوان الكلمات التي تتوحد فيها جمالية الابداع وبساطته.. في خريف العمر لم تمح آثار الزمان ولا أوجاع الأيام ما تبقى من ذاكرته المتقدة التي تسترجع صدى احتفالية الذات الشاعرة وتسهر مع القصائد الحبلى بالرغبات والاماني والاحلام الكبيرة.. وهبته شمس الصحراء وزمهريرها صلابة وعزيمة الرجال الذين عشقوا التغني بآهات البسطاء في كبرياء وعزة نفس..

"أحتاج فقط لمن يتذوق فني" هي أغلى أماني أوهاشم الذي لا تفارق الابتسامة محياه، يعيش بفنه في انسجام تام داخل أسرته حيث أن زوجته و أبناءه يفتخرون بوضعه الفني في وسط لا يتيح ذلك بسهولة، وهي التجربة الفنية التي سلط عليها الضوء المخرج والناقد السينمائي عامر الشرقي في شريطه الوثائقي (همسات الأعالي) الذي يعتبر مساهمة فعالة في التعريف بثروات الجنوب الشرقي الشعرية، واعترافا بعطاء هذا الفنان تم تكريمه مؤخرا بالمهرجان الوطني للوتار في دورته الثانية إلى جانب مجموعة من الوجوه البارزة في الفن الشعبي من قبيل قشبال وزروال والشيخ عويسة...

البيئة الصحراوية التي نشأ فيها كان لها تأثير كبير على حياته و اختياراته، كما يقول عنه الشرقي، فمنطقة الجنوب الشرقي ارتبطت على الدوام بثقافته المتنوعة التي تختلط فيها الإيقاعات و الألوان و تتوحد في جمالياتها و بساطتها. في هذه البيئة نشأ و ترعرع أوهاشم حيث مشاركة الأطفال منذ الصغر في رقصات احيدوس حرصا من قبائل آيت عطا و آيت مرغاد على تأصيل هذا الشكل الاحتفالي في منطقة عرفت بالعديد من الشعراء (إمديازن) الذين كانوا يؤثثون الجلسات بإبداعاتهم الشعرية.

بعينان شبه مغمضتين وعمامته الصفراء وصدره المفعم بالحكايات والصور وبساطته يكشف أوهاشم، في بوح لوكالة المغرب العربي للأنباء، عن رحلة الشتاء والصيف التي صقلت تجربته في الحياة .." منذ السابعة من عمري بدأت بالعزف ككل أبناء المنطقة البسطاء على آلة الوتار وهي من صنع يدوي ثم عزفت على الناي و بدأت بقرض الشعر تأثرا بمحيطي وببعض أفراد عائلتي".

بنمطه الفريد في العزف والغناء كما في أسلوبه المتميز في الحكي تبرز شخصية أوهاشم الانسان الذي رغم عمر يناهز السبعين ربيعا إلا أنه ما يزال يغرد مثل الكروان.غنى أوهاشم أو الشيخ كما يحلو للبعض من بلدته أن يسميه بتموجات الروح مواضيع اجتماعية مختلفة فاحتفى بالطفولة والمرأة والقبيلة والحب والوطن في حب الزين (تارين الزين)،"عويشة"، الوالدين (الولدين)، المحبة (لمحبة)، أنا الذي ناديتك (نكين إكغران)، سامحني أسامحك (سمحي سمحغاك)، الفتاة (تربات) غلاء الأسعار (الغلا ن الدونية)، أيها الأمازيغي (أيا مازيغ)، لازلت أحبك (سولغ ريغك)، كانت أبرز ابداعات أوهاشم التي وشمت بماء من ذهب مسيرته الفنية الطويلة بمحاكاة الروح بالعزف على آلة لوتار لاختبار قدرتها على احتضان تلوينات موسيقية مغايرة و جديدة بالنسبة للموسيقى الأمازيغية.

لم يكن يدرك أن ركضه في الحياة منذ طفولته التي قضاها في رعي الماعز أزيد من ثلاثة عقود لجني قوت يومه بين جنبات قريته الصغيرة سيقوده يوما الى حمل رسالة القول المنظوم في مهمة إنسانيةٍ رحلتها طويلة.من طينة الشعراء المغنين القلائل الذين التزموا بالقضايا الجوهرية التي تمس وجود الانسان بالواحات وحريته وكرامته ودافعوا عنها.

ويواصل أوهاشم سرد تفاصيل أمنيته بكل أريحية من حياة الراعي مع غنمه، وكأنه يسرد خيوط حلم من عالم أحلامه، فهي تصبح أهله و موضع أنسه، في حين يصبح هو أيضا ملجأ لها مما تخافه، فهي ملهمته التي فجرت طاقاته الفنية والغنائية.
وفي هذا الإطار، قال الباحث في التراث والثقافة الشعبية عمر حمداوي، إن "النشاط الرعوي شكل مدرسة تربوية تخرج منها العديد من الحكماء والشعراء كما هو الحال بالنسبة للشاعر والفنان والعازف الأمازيغي أوهاشم الذي أسرته المراعي منذ الطفولة ومنحته نبوغا فكريا كبديل عن حرمانه من ولوج الكتاب والمدرسة لمحاربة الامية الابجدية على غرار الأقران"، مضيفا ان هذا الشاعر عبر عن ذلك بقوله ( مقار كغ أنشاد أور أغريغ أوضحاح/ تلا المعنى خس ما كن أوت ونى يشوان) ومعناه: "إنه رغم كوني شاعرا لم أتعلم قط / إلا أنني أملك معاني لا يجيدها إلا العقلاء".

وأبرز أن هذا النبوغ تجلى في حنكته المبكرة في نظم الشعر الأمازيغي بمختلف أجناسه وأغراضه مما جعله يحظى بلقب "إتري ن انشادن" (نجم المنشدين) وبتقدير من لدن محيطه الذي يجد في شعره متنفسا للتعبير عما يخالجه من آلام وآمال، فضلا عن براعته في العزف على آلة الناي رفيقة الرعاة في الأبكار والأمساء وآلة "لوتار" التي أبتكرها بأنامله الذهبية، ثم آلة البندير سيدة الآلات في احتفالات جميع المكونات الإثنية بالمنطقة.

إلى جانب مدرسة الرعي شكل الاحتكاك اليومي لمختلف شرائح المجتمع ومعانقة الأسفار بحثا عن لقمة العيش والحرص على الحضور والمشاركة في المناسبات الاجتماعية التي لا تخلو من مساجلات شعرية ورقصات فلكلورية مصحوبة بمرددات وأهازيج شعبية،يضيف حمداوي، أهم الروافد التي غذت الملكة الشعرية لأوهاشم الذي أثث الساحة الفنية الأمازيغية بكم هائل من الأشعار والأغاني التي يستقي موضوعاتها من وحي الواقع المعيش.

وعن البلاغة الشعرية في ابداع أوهاشم يقول الباحث الحو ختار، إن هذا الشاعر يوظف عناصر الذاكرة الثقافية توظيفا رمزيا، خاصة الحكايات والأمثال والرموز والألغاز وغيرها، ومن هنا يكون الشعر خزان متخيل الجماعة البشرية التي ينتمي إليها الشاعر، وضامن انسجام هذا المتخيل واستمراره عبر الزمان والمكان، مضيفا أن شعر الشيخ أحمد أوهاشم لا يشذ عن هذه الخاصيات الابداعية، بل هي من السمات المميزة له، والتي تجعل منه خطابا جماليا بامتياز.

جمالية الشعر وبلاغته عند أوهاشم ترتد إلى كون هذا الشاعر يؤسس في شعره عالما متخيلا تتحاور فيه عوالم متعددة تتبادل عناصرها الأفعال والأدوار والصفات، وتمتد هذه العوالم إلى الذاكرة الثقافية، وإلى الطبيعة الصامتة والصائتة، كما تمتد إلى عالم الاقتصاد المحلي وأدواته إنتاجه. وقد تفاعل الشاعر مع هذه العوالم وأدركها وتمثلها وأعاد ترتيب عناصرها ثم حدد لها وظائف جديدة انطلاقا مما توفره له اللغة من إمكانات كثيرة كالتشبيه والاستعارة والمجاز بصفة عامة.

وتستمر قصة الشيخ أوهاشم الشخصية الفكاهية النشطة التي تنتزع البسمة من الشفاه والضحكة من الأعماق وتروي مغامرات تثير العجب وتبعث الإعجاب، يتمتع بحس فكاهي لطيف حتى داخل بيته المتواضع على سفح جبل حيث توجد رفيقة عمره "مدام شرويط" كما يحلو له أن يسميها والتي انسجمت وعشقت حياته الفنية.

ومن بين طرائفي، يحكي أوهاشم، أن رجلا ذو مكانة اجتماعية مهمة تملكه (بوتابر) أو العشق الجنوني وكاد يهلكه ولم ينفع معه علاج حتى أشرت عليه بالاستماع الى (تامديازت الحب) التي ألفتها وغنيتها فكانت له بلسما شافيا من نار الهيام. زاهد في الدنيا لا يبغي منها الا القليل..مؤمن أشد الايمان بمالك الملك ورازق الخلق وهو ما يردده دوما في دعاء على شكل بيت شعري صوفي (أكزورغ أسيدي ربي ناورا فنون، أوال نك اعزا أوال نك أفلا، كيين أيا اترزاقن غورون تسورا، ما كا يضن أور ايباض أولا غورس أوضحاح) أي "باسمك أبدأ يا من لا يفنى، كلامك عزيز ومقامه عال، أنت الذي ترزق وبيدك المفاتيح، ولا أحد سواك قادر على فعل أي شيء".

المصدر: و. م .ع