تصريحات وزير الداخلية أمام البرلمان، والتي أثارت غضب الحقوقيين المغاربة قاطبة، تطرح إشكالا رئيسيا يتعلق بطبيعة النسق السياسي المغربي وهويته، وباختيارات الدولة وعلاقتها بالمجتمع المدني.
فالسيد وزير الداخلية بعد أن أنهى إلى علم المغاربة أن المغرب يواجه تهديدات إرهابية قادمة من الشرق الأوسط، عمد إلى الغمز واللمز في المجتمع الحقوقي المغربي متهما إياه بالعمالة لجهات خارجية، وبالحصول على تمويلات مشبوهة، وبعرقلة مهمة الدولة في حماية البلد من المخاطر المحذقة به. كلام الوزير واضح، إنه يقول باختصار: لكي تتولى الدولة مواجهة الإرهاب بحزم، على الحقوقيين التخلي عن دورهم في نقد سلوك السلطة التي تختار الطريق السهل دائما، طريق خلط الحابل بالنابل وخرق المساطر القانونية واعتماد أساليب مدانة دوليا ووطنيا، أي أسلوب "المخزن" التقليدي الذي يشبهه المثل الشعبي بالنار وبالسيول والفيضانات التي تأتي على كل شيء.

نحن هنا أمام مفهومين لـ"الوطنية"، مفهوم وزير الداخلية الذي يمثل في الحكومة ما يسمى بـ"الدولة العميقة"، والتي تعلو على القانون ولا تعترف بالشركاء المدنيين ولا السياسيين وتعتبرهم مجرد كومبارس أو أولادا عاقين ينبغي التعامل معهم بالرقابة والزجر، ومفهوم الحقوقيين الذي ينطلق من أن محاسبة الذات وكشف العيوب والحرص على ترصيد المكتسبات وتجاوز كل أنواع الانتهاكات هو السبيل الوحيد لتقوية اللحمة الوطنية وإعادة الثقة في المؤسسات، وأن السلطوية الأبوية والعنجهية والجور والظلم والعنف، كلها أساليب عفى عليها الزمان وأصبحت تبدو غريبة أمام التحديات التي تواجه بلدنا.

من خلال خطاب الوزير يبدو أن "المغرب الأمني" مصرّ على التشبث بهويته القديمة رغم الشعارات الجديدة، والتي على رأسها "المفهوم الجديد للسلطة"، الذي توارى كليا بعد أحداث الدار البيضاء الأليمة عام 2003.

إن ما يريد الحقوقيون قوله هو أنّ المسؤولية التي تتحملها الدولة مرتبطة بالمحاسبة، وليست توقيعا على بياض، فإذا كان واجب السلطات العمل على حماية البلاد والعباد من الإرهاب فإن واجب الحقوقيين المواكبة النقدية لعمل الدولة ومحاسبتها على مدى احترامها للقوانين التي تضعها بنفسها وتتعهد بالسهر على تطبيقها.

إن ما يزعج السلطة في المجتمع المدني هو استقلاليته، حيث تعوّد الحكام على أن يجدوا أغلبية الأحزاب السياسية في علاقتها بالسلطة الفعلية طيعة وعند "حسن الظن"، إذ تعتبر الأحزاب السياسية الكثير من الممارسات الماسة بالكرامة أعمالا مبررة بـ "الظرفية الحالية التي تجتازها البلاد"، فتتعامل بأسلوب التواطؤ والصمت اللامسؤول، بينما يقوم المجتمع المدني بدوره في المراقبة والتقييم والتتبع والنقد والتنديد عند الحاجة، وهي أدوار تدخل ضمن مسؤولياته الأساسية، وتحتاج منه إلى استقلالية كبيرة تبرر سبب عزوفه عن تمويلات الدولة ولجوئه إلى التمويلات الخارجية في إطار القوانين المعمول بها، وهي التمويلات التي أشار إليها وزير الداخلية كما لو أنها تمويلات مشبوهة ، في الوقت الذي تعتبر فيه تعاقدات شراكة تتم في إطار قوانين الدولة المغربية نفسها، بل وتلجأ إليها الدولة نفسها لدى البنوك الدولية والاتحاد الأوروبي وغيره.

وقد ذكرني حديث الوزير عن هذه التمويلات الدولية بسلوك مماثل للوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني الحبيب الشوباني، عندما تحامل على الجمعيات الحقوقية بدوره متهما إياها بالحصول على دعم مالي خارجي، كما لو أن هذا الدعم أمر سري أو خارج القانون، متناسيا التمويلات المشبوهة الحقيقية التي ترد من أموال عرب البترول للتيارات المتطرفة، والتي تتم بأساليب ملتوية وتمثل خطرا حقيقيا بالنظر إلى أهدافها المتمثلة في إشاعة التشدد الديني ومعاكسة حقوق الإنسان، وزرع البغضاء والكراهية بين المواطنين، ونقل منظومات قيمية من مجتمعات عشائرية بدوية إلى بلد مثل المغرب ، يجتاز فترة انتقال نحو ترسيخ الديمقراطية ودولة القانون.

إن الحكمة السياسية تقتضي في الظرف الحالي ليس استعداء المجتمع الحقوقي المغربي وكهربة الأجواء، ونحن مقبلون على تنظيم المنتدى الدولي لحقوق الإنسان بالمغرب، بل المطلوب خلق تكتل وطني وإجماع حول مواجهة الإرهاب والتطرف، وهذا يقتضي العمل في إطار القانون، وبروح التعاون والتشارك، لا الوصاية والزجر والعنف.