توفقت جمعية إعادة بناء قصر أولاد علي وتنميته، بجماعة واد النعام، بحوض گير من إخراج النسخة الثالثة من مهرجان القرية تحت شعار: الثقافة الشعبية تعدد وتسامح، التي جرت ابتداء من يوم 26 من شهر غشت من عام 2014 إلى غاية 28 منه.

ومما يميز سكان حوض گير بأعلاه وفي أسفله أنهم يتحدثون عن الحوض كوحدات سوسيومجالية وسوسيوثقافية موحدة، تشمل واد الساورة أيضا. وقد لمست ذلك في أكثر من سبع مناسبات شاركت فيها متدخلا، بمركز بوذنيب، أو في إحدى قراه أولاد علي، على سبيل الحصر. ولا غرو، فلا يفصل قصر (دوار) السهلي عن القنادسة سوى 30 كيلومترا فقط. ومما أبهرني في وقت متقدم من صباح يوم 29 من شهر غشت 2014 أن دخل علي رجل طاعن في السن، وأنا أتناول وجبة العشاء، بعد الانتهاء من أشغال المهرجان وقال: «مرحبا بك يا ابني، لقد كبرتُ في القنادسة، وقضيت فيها أربعين سنة»، وانصرف. ويعنينا من هذا الكلام أن للطرقية وقعا قائما، وإن كان مغلفا بثقافة الجوع، لقد كبر في زاوية القنادسة، وكان سعيدا لما وجدني أتناول الطعام في بيته. وما أكثر العلاقات التي كادت أن ترقى إلى قرابة دموية كرستها ثقافة الجوع، وضمنها الزوايا التي تعتبر الإطعام واحدا من أركانها. وفي ساحة الفرجة جلس بجانبي مواطن ينحدر من زاوية السهلي، وتناولنا الحديث عن امتداد الزاوية في الصحراء الشرقية، وفي الجزائر، وامتدادها في الأطلس الكبير الشرقي. وكنت قد تناولت ذلك في مداخلتي التي عرضتها في خيمة الندوات، قبل البدء في الفرجة بقليل تحت عنوان «التعدد بحوض گير: مقومات التوتر والتسامح والاستيعاب»، وهي المداخلة التي عقبت المداخلة التحسيسية حول المشاركة في المنتدى العالمي لحقوق الإنسان، وهي ذات الصلة باللجنة الجهوية لحقوق الإنسان، وسنعود إلى موضوعها.
لم تكن الدولة وحدها هي التي مارست سياسة الاستيعاب (Assimilation)، في النصف الثاني من القرن الماضي، ابتغاء ضمان وحدة الموقف ووحدة الرؤية والفلسفة، فهناك أساليب الاستيعاب التقليدية مارستها الزوايا والعصبيات القبلية. ولقد تعرض واد گير لأسوأ محاولة استيعاب في النصف الأول من القرن التاسع عشر على يد فرسان أيت يزدك الذين أخرجوا سكان تولال من ديارهم ليبحثوا عن مستقر لهم بجوار مكناس، ونزلوا قرى، إملاحن، وتيوزاكين، وأولاد علي، وبني وزم، وكادوا يحتلون بوذنيب بعد الواقعة المعروفة بمقتل بوالمعطي في أواخر القرن التاسع عشر، لولا تدخل أيت خباش. وإلى جانب أيت يزدك حصل تدخل أيت عيسى الذين نزلوا قرية أزغو المعروفة أيضا ب (باكنو)، ونزلوا قرية الگرعان، لكنهم أضحوا مكونا من مكونات القريتين.

وبالمقابل لم ينج النهج الاستيعابي اليزدگي بواد گير لطغيان التعدد الإثنوغرافي / الثقافي من جهة، ولضرورة الانخراط في الدفاع الذاتي (Auto- défense) على شاكلة قرى تينجداد. فمن القرى التي حافظت على توازنها بواسطة المكونات الإثنوغرافية والعصبية نلفى تولال التي احتلتها عشائر أيت يزدك في النصف الأول من التاسع عشر، أي قبل إعدام الشيخ إبراهيم يسمور سنة 1854 بقليل. وكانت تولال تتكون وقتها من قريتين: سعد الله، وتواصل. جرى تدمير تواصلت آخرها، وكسها تماما، وحملت سعد الله اسم «ايت مومو»، وأما تولال كتجمع قروي فقد طلت تحمل نفس الاسم. وجريا عى نمط التجمعات القروية بالجنوب الشرقي التي تقام على القاعدة سبعة، حدث إحداث ست قرى، إلى جانب أيت مومو (سعد الله)، وهي ايت فرگان، و«ايت أوسال»، و«أومشتاق»، و«أيت يحيى أوخليفة»، وهي قرى يزدگية محضة، ثم «تامزيلت»، و«السهب»، وهي قريتا الأقليات العرقية. وبعد مجيء الأمرانيين من أوفوس جنوب شرق واحة مدغرة، بنيت قرية «إحنضار»، وهي قرية غير ذات شأن في الدفاع الذاتي الذي تقوم على القاعدة 07 لدى المستقرين، ولإرضاء عشيرة أيت الثلث التي تتكون من «أيت موسى وعلي»، و«أيت وليل»، و«أيت يحيى وخليفة»، جرى إحداث قرية «أيت موسى وعلي» بالقوة وسط التجمع القروي «إملاحن»، لتشكل، أيضا، مكونا في الدفاع الذاتي الثلاثي، إلى جانب قرية «بولزاز» وبقايا قرية «أقربوس». وفي واحة بوذنيب جرى إرضاء عشيرة إخرمجون من أيت فرگان، وعشيرة «أيت موسى وعلي» ببني وزيم، و«أولاد علي».

وباختصار، لم تمارس أيت يزك، وإن كانت احتلت الأرض بالقوة، الاستيعاب كما تفعل أيت حديدو التي تفرض على الأقليات حمل زي القبيلة الغالبة، ذلك أن قبيلة أيت يزدك فقدت زيها ووشم نسائها. لذلك حافظت على وضعها كمكون في الدفاع الذاتي ضمن الأنسجة القروية. وعلى نهجها سارت أيت عيسى التي نزلت الجرعان، ونزلت أزغو (باكنو) وهي مكون ثلاثي في إطار الدفاع الذاتي.

وفي غاية كل وحدة سوسيومجالية متجانسة وحدودها نلفى دروعا بشرية تضمن الأمن . ففي أعلى الواد نجد قرية «تيوزاگين»، وهي جمع «تاوزاگت»، أي: صاحبة العرف، أو القمة، وترمز إلى المحاربين، وهي قرية أحدثها أيت يزدك لتمارس الدفاع عن المجال بأعلى گير، وغير بعيد عن تولال الكائنة بالفج الذي يعد مدخلا لگير الأوسط، توجد قرية «تافنداست»، وهي مؤنث «أفندوس» وهو المحارب المتمرد. تقع «تافنداست»، في موقع إستراتيجي بأعلى گير، في ملتقى الطريقين، الأولى موافقة لجريان واد گير، والثانية تربط واد أيت عيسى بواحة تيعلالين الباردة. ولقد أقدم أحد سكان تافنداست على قتل اليهودي الرابي إسحاق في القرن التاسع عشر، وتحول قبره بشمال تولال إلى مزار بشري، يقام فيه الموسم كل سنة، في أواخر شهر يناير، أو بداية فبراير حسب التقويم العبري. وغير بعيد عن الانكسار الأطلسي الجنوبي، تقع قرية تازگارت وهي في الأصل «تازوارت»، أي: القرية الأولى، القرية القائدية. تسهر القرية على حماية فم العمشان، أي: ملتقى الطريق الموافقة لجريان واد گير في اتجاه الساورة والطريق القادمة من مدغرة في اتجاه إفجيج (فجيج). وفي جنوب السهلي توجد إگلي (تقع الآن في التراب الجزائري) وهي درع بشري، إن لم نقل السهلي نفسها درع بشري عازل.

الملاحظ في الدروع البشرية بحوض گير أنها ليست دروعا عنصرية محضة كما هو الحال في مجال أيت حديدو حيث نلفى «تامزازارت»، بالزاي الأمازيغي، وإنما هي دروع صوفية طرقية في أحسن الأحوال مثل «السهلي»، و«القنادسة نفسها، و«تيط نعلي» قرب «تيوزاگين»، أو دروع حربية مثل «تازگارت» و«تافنداست»، و«تيوزاگين». والملاحظ أيضا أن الدروع البشرية المحافظة على الأمن لا تفتأ تتموضع أمام الفجاج بما هي مدخل لكانيونات، والكانيون هو (الوادي على شكل خانق) (La vallée en gorge)، التي تعرف بالأمازيغية ب(تاغيت)، أو (توغاش)، أو (تاغيا). وتتموضع الدروع البشرية، فوق ذلك، قرب مفترق الطرق (تافنداست، تازگارت). وأخيرا ليس لواد گير، رغم محاولة الاستيعاب اليزدگية هوية إثنوغرافية محضة.

وخلافا لما حصل بمجال أيت حديدو، ومجال فركلا (أفركلا) بتنجداد، لم تكن بحوض گير مدينة عاصمة، عاصمة إقليمية، أو على الأقل، حاضنة لمقر الدائرة. ذلك أن مركز گرامة تابع إداريا لدائرة الريش، ومركز بوذنيب تابع لإقليم الرشيدية، والقنادسة بواد الساورة، وهو امتداد، لواد گير تابعة لولاية بشار بالجزائر.

وإلى جانب العصبيتين أيت عيسى وأيت يزدك نجحت الطرقيىة في ممارسة سياسة الاستيعاب الجزئي. وكما سلفت إليه الإشارة تحتل القنادسة مكان الصدارة بحوض گير، وهي زاوية أسسها الحاج محمد (فتحا) بن بوزيا في القرن الثامن عشر، وحسب المستشرق كنفاي يمتد نفوذها من بني تجيت إلى أيت ياطي قرب بوعنان، ولاتزال تملك أرضا زراعية في باصية جنوب شرق بني تجيت، وبإيرارة بجماعة گير، وهي ذات حضور في بوذنيب. وللسهلي حضورها بالتراب التابع لإدارة الجزائر، ويمتد تأثيرها إلى منطقة الريش. ولا تزال ثلة من أيت يزدك بمنطقة الريش تتردد على زاوية السهلي. زاوية السهلي هي زاوية سيدي بن عبد الرحمان السهلي التي تشتمل على قصرين على الضفة اليمنى لواد گير ويقطنها أولاد مول سهول نسبة إلى محمد بن عبد الرحمان مول سهول.تأسست هذه الزاوية في القرن السادس عشر على طريقة الشاذلية. وأما زاوية باكنو (أزغو) فحاضرة بواد گير.

لئن كانت الطرقية تقضي على كل مصادر التوتر في الوحدات السوسيوثقافية بواد گير، وكانت مارست الاستيعاب من حيث الجانب المسلكي، فإنها لم تؤثر على الأعراف، حيث لا تزال عادات أمازيغية قديمة، وأنساق ثقافية، وطقوس. ولم يهاجم النهج الطرقي القيم والخصوصيات الثقافية للعشائر كما هو حال الفكر الديني المتطرف في الوقت الحالي. وحسبنا أنه حضر بساحة الفُرجة التابعة لقصر (دوار) أولاد علي حوالي 4000 متفرج، ولم يحضر من رجال الأمن سوى دركي واحد ورجل واحد من القوات المساعدة.

إن ما يحدث على المستوى المحلي حدث، بشكل آخر، على المستوى الدولي، والمستوى الوطني، ولا غرو، فقد تناولت المداخلة محورا سمته «السياق الدولي بين طغيان الاستيعاب والخصوصيات الثقافية المحلية». فالاتفاقية رقم 107 لمنظمة العمل الدولية سنة 1957 كرست السياسة الاستيعابية تجاه الحقوق الجماعية، وبعد ذلك جرى صياغة المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بالصغة الفردية لهذه الحقوق، أي: إن هذه الحقوق حقوقٌ فرديةٌ. لكن الوضع طفق يتغير مع سنة 1989 حيث بدأت تجري مراجعة السياسة الاستيعابية، وكادت سمة مؤتمر فيينا لسنة 1993 أن تكون مضمنة التعدد الثقافي. وحسبنا أنه صدرت إعلانات حول التعدد الثقافي (الإعلان العالمي للحقوق اللغوية برشلونا سنة 1996، إعلان فريبورسنة 2007). ولقد تأثر المغرب بالسياق الدولي إلى حد بعيد. فكل يعلم أن تصدير الدساتير المغربية من 1962 إلى 1996 كان كالتالي: «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي العربية»، وفي دستور 2011 حوى التصدر: « المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة التلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية، والعبرية والمتوسطية». فالدستور الحالي يحترف بالتعدد الثقافي، وكلنا على بينة بأن گير مجتمع متعدد لغويا وثقافيا، وإثنيا.

فالعربية، أو على الأقل كما هي ممثلة في اللسان الدارج، الذي هو خليط من العربية والأمازيغية، حاضرة لدى الأقليات الباقية من بني أحسن، والدخيسة بالسهلي وبوذنيب والأمرانيون، وذوي منيع. والأمازيغية لدى أيت عيسى، وأيت سغروشن الذين بدأوا يستوطنون في وقت متأخر بأولاد علي، وتازكارت، وقدوسة، والكرعان، وأيرارن، وإملاحن، وتولال. وهناك قرى بكاملها تتحدث الأمازيغية، تافنداست، الحروش، أيت سعيد أوعمرو، تاكريرت، لهري، تالهريت، أموكر، قاصبة، تيط نعلي، تاخليفات، تاوسارت، طار أويازد، إسكنى، تيجام، تلالون، الطاوس….والثقافة كامنة في الطرقية، والأنساق الثقافية الأمازيغية القديمة.

فالمجتمع بحوض گير يتضمن عناصر استقرار فائقة لكنه بالمقابل يتضمن بؤر التوتر، يمكن أن تشكل مصدر تناحر عنصري. ففي قرية باكنو أجبرت الأقليات العرقية على تدشين بساط الدفن لها، وسلفت الإشارة إلى ذلك في كتاب «الرموز الدفينة بين القبورية والمزارات الطبيعية»، وهو توتر يعكس «تمزازارت» الأمازيغية. وتشكو قبيلة أيت موسى من مشكل الانتماء الإداري، ولا يزال من أفرادها من يشكو من الحصول على الشواهد الإدارية، وهذا الإشكال سبق أن فصلنا فيه القول في إحدى المقالات السابقة.

والسؤال المفتوح للنقاش كيف نتجاوز التوترات الناتجة عن الإثنوغرافيا والثقافة من أجل إرساء مجتمع متعدد مناسب لإعمال حقوق الإنسان؟

- التكثيف من التحسيس حول الديموقراطية وحقوق الإنسان.

- فتح المجال أمام الأقليات الثقافية والإثنية بالتعبير الثقافي في إطار، المهرجانات كمهرجان أولاد علي.

- الاعتناء بتاريخ المنطقة وذاكرتها بالحفظ والتدوين.

- تعبئة أبناء المنطقة المهاجرين للاهتمام بالمنطقة.

- تشجيع الطلاب لإنجاز البحوث حول حوض گير.

- انفتاح المجتمع على الهيئات الحقوقية (المجلس الوطني لحقوق الإنسان).