جميل أن يطالب الوفا جمعيات حماية المستهلك بالتوقف عن الاكتفاء بإصدار بلاغات تهاجم رفع الحكومة للأسعار، والتركيز على مراقبة الغش في المواد الغذائية لمساعدة الحكومة على محاربة هذه الآفة.
فقد أصبحت بعض الجمعيات التي تدعي حماية المستهلك متخصصة في إصدار البيانات والبلاغات، وأصبح بعض رؤسائها الذين يحملون معهم جمعياتهم في محافظهم ويتنقلون بها بين الوزارات والشركات، يمارسون الابتزاز لحماية مصالحهم عوض مراقبة سوق الاستهلاك وحماية الصالح العام.
لكن المصيبة هي أن الوفا نفسه اعترف بوجود غش خطير وكبير في صناعة الخبز وأن هذا الغش يهدد صحة المغاربة بمرض السكري. والجميع يتذكر التصريحات التي صدرت عنه عندما كان وزيرا للشؤون العامة والحكامة حين كشف صراحة، أمام نواب الأمة، أن الخبز، الذي يباع بدرهم و20 سنتيما والذي تستهلكه في الغالب الطبقات المعوزة والفقيرة، مضر بالصحة بسبب السكر الذي يضاف إليه والذي يؤدي إلى الإصابة بأمراض السكري والكوليسترول.
فماذا فعلت حكومته الموقرة في التصدي لهذا الغش العظيم الذي يمس مادة حيوية يصل استهلاك المغاربة منها 105 ملايين خبزة كل يوم؟
هل توقف هذا الغش؟
كم صاحب مخبرة أو مطحنة تم تقديمه أمام العدالة؟
المصيبة مع هذه الحكومة ذات اللسان الطويل والذراع القصيرة أن فضح الخروقات والمخالفات وحالات الغش أصبح هدفا في حد ذاته لا وسيلة تفتح بعدها التحقيقات والمتابعات.
فأصبح يكفي لإصلاح قطاع النقل الكشف عن لوائح المستفيدين من الكريمات، وأصبح يكفي لإصلاح الإعلام الكشف عن ميزانيات الدعم التي تصرفها الدولة للصحف، وأصبح يكفي لإصلاح القضاء عقد الندوات الفخمة حوله.
إن الشعب مل من قراءة التقارير الإعلامية حول حالات الفساد دون أن يرى جلسات للعلاج بالكي لاقتلاع جذور هذا الفساد.
ولعل ما يجعل الشعب يفقد الثقة بكل هذه السرعة في الحكومة الحالية هو شجاعتها في وصف الأمراض التي تنخر جسد البلد وعجزها المزمن في إشهار مبضع الجراح لاقتلاع الأورام الخبيثة.
ولذلك فمصطفى الخلفي واهم جدا عندما يقول إن الثقة مربوحة بين الحكومة والشعب، فالشعب يفقد الثقة بسهولة في من يخذله ولا يقف في خندقه للدفاع عن مصالحه.
وقد كانت حكومة عبد الرحمان اليوسفي تقول الشيء ذاته، وفازت بالانتخابات في دورتين، ومع ذلك غاصت أقدام وزراء وممثلي الاتحاد الاشتراكي في وحل التسيير وتحولوا من مدافعين عن القوات الشعبية إلى مدافعين عن كراسيهم وامتيازاتهم وفيلاتهم وضيعاتهم، ففقدوا السند الشعبي وقنعوا في النهاية بمؤسسات وسفارات يختفون فيها كالأشباح.
والواقع أن موضوع الغش، خصوصا في الخبر يستحق تعاملا جديا من لدن الحكومة يبتعد عن التناول التهريجي الذي أظهره وزير الشؤون العامة والحكامة آنذاك.
وإذا كان كليمونصو قد قال بأن الحرب مسألة جدية ولذلك لا يجب تركها بيد العسكر، فيمكن أن نقول نحن في المغرب أن الخبز شيء جدي ولذلك لا يجب تركه بيد أرباب المطاحن.
والوفا ليس أول من دق ناقوس الخطر بسبب الغش في الخبز، فقبله أصدرت وزارة الصحة على عهد بادو تقريرا كشف فيه المسؤول عن البرنامج الوطني لمحاربة النقص في العناصر الغذائية الدقيقة في وزارة الصحة، أن ثلث الأمهات والأطفال دون خمس سنوات يعانون فقر الدم بسبب نقص الحديد في الطحين.
وربما لهذا السبب نفهم اليوم لماذا يمكن لمغربي أن يتعرف على أخيه المغربي وسط مئات المواطنين في أية بلاد أجنبية، فقط من خلال مشيته. فنحن المغاربة لدينا مشية مميزة عن سائر الأقوام، والسبب في هذا «الاستثناء» العجيب هو كوننا «تعرضنا» في طفولتنا لتغذية تفتقر إلى المواد الضرورية لنمو الإنسان بشكل طبيعي. أي أن أغلبنا كبر بالخبز والشاي والقدرة الإلهية. ولذلك عندما كبرنا اكتشفنا أن أغلبنا لا يستطيع المشي باستقامة، أو يمشي كما لو أن شخصا يدفعه من الخلف. وربما بسبب هذه التغذية السيئة أصبح لدينا ثلاثة ملايين معاق. فحسب دراسة وزارة الصحة فإن النقص في مادة الحديد لدى الأمهات يؤدي إلى تشوهات خلقية تصيب الجنين في بطن أمه. أي أننا في المغرب ينطبق علينا المثل القائل «من الخيمة خارج مايل».
بما أن الدولة والحكومة فشلتا في التقليص من نسب الفقر والأمية والتضخم وعجز الميزان التجاري، فإننا نتمنى أن تفكرا معا في تقليص نسبة استهلاك المغاربة لملح الطعام عبر مراقبة مقادير الملح التي يصنع بها أرباب المخابز خبز المغاربة اليومي.
ربما تبدو هذه الدعوى للبعض سخيفة أو مثيرة للسخرية، لكنني أستطيع أن أؤكد لكم أن حياة الملايين من المغاربة تتوقف على هذا التحدي. إن الخطر الحقيقي الذي يستنزف جيوب وأعمار المغاربة اليوم هو الإفراط في استهلاك ملح الطعام. فالملح الذي نأكله يوميا يتحمل مسؤولية مباشرة في وصول أعداد المصابين بأمراض ارتفاع الضغط الدموي إلى حوالي ثلاثين في المائة من المغاربة. بمعنى أن عشرة ملايين مغربي مصابون بارتفاع الضغط الدموي ومهددون بالإصابة بأمراض القلب والشرايين. ولهذا السبب بالضبط، فالسبب الأول للوفاة في المغرب هي أمراض القلب والشرايين التي يتسبب فيها الإفراط في استهلاك الملح.
ورغم أن منظمة الصحة العالمية حددت نسبة استهلاك الملح في خمسة غرامات في اليوم، فإن وزارة الصحة المغربية ليست لديها أدنى فكرة عن نسب الملح المرتفعة التي تستعملها شركات إنتاج المواد الغذائية الاستهلاكية، والتي تتجاوز نسبة خمسة غرامات التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية. وفي السابق، كان استهلاك المغاربة للصوديوم، المسؤول عن رفع ضغط الدم، في الملح لا يتعدى 2 غرامات، أما اليوم فنسبة استهلاكه تتجاوز 10 غرامات، أي خمس مرات أكثر من المسموح به. وبالنسبة إلى المغاربة الذين يكتشفون إصابتهم بمرض ارتفاع ضغط الدم ويتبعون حمية غذائية خالية من الملح، فإن الأغلبية الساحقة من هؤلاء المرضى يكتشفون أن حالتهم تزداد سوءا رغم توقفهم عن استعمال ملح الطعام في وجباتهم. والسر وراء تفاقم مرضهم هو أن 75 في المائة من الطعام الذي يستهلكونه معد بمواد استهلاكية تحتوي على نسب عالية من الملح. بمعنى أن الملح الذي يوفرونه على شرايينهم والموجود في 25 في المائة من الأكل الطبيعي الذي يعدونه في بيوتهم، يسترجعون أضعافه في 75 في المائة من المواد الغذائية التي يشترونها من الأسواق. بمعنى «اللي حرثو الجمل دكو».
إن التفسير الحقيقي للإحصائيات المخيفة التي تطالعنا كل يوم حول عشرة ملايين مغربي مصاب بالضغط الدموي وأمراض القلب والشرايين، وحول ملايين المصابين بأمراض الكلى والجهاز الهضمي والسمنة والضعف الجنسي المرتبط بارتفاع الضغط وغيرها من الأمراض العضوية والنفسية المزمنة والقاتلة، يوجد داخل علبة الملح الذي لا يخلو منه بيت مغربي. فثقافتنا الغذائية مبنية على «التملاح»، وليس هناك طبق يخلو من الملح. والمصيبة أن الملح الذي يستهلكه المغاربة يحتوي على نسبة عالية من الصوديوم الذي يعتبره الأطباء بمثابة المسدس كاتم الصوت الذي يغتال القلوب غدرا. وهي المادة القاتلة التي يفرض الاتحاد الأوربي ووزارة الصحة الأمريكية على صانعي المواد الغذائية احترام نسبها بدقة تحت طائلة سحب تلك المواد من السوق. وبالفعل، فقد أدى التحكم في نسبة الصوديوم في ملح طعام الأوربيين إلى خفض نسبة إصابتهم بالضغط الدموي المؤدي إلى الإصابة بأمراض القلب والشرايين. وبالتالي انخفضت كلفة العلاج ووفرت حكومات هذه الدول ميزانيات كانت تصرفها فيما قبل بسبب الإفراط في تناول الملح.
عندنا في المغرب، ليس هناك للأسف وعي بخطورة هذه المادة على الصحة العامة ولا على الموازنة العامة. ولذلك فمنتجو المواد الغذائية المعلبة والمعدة للاستهلاك، يأخذون راحتهم في «تملاح» منتوجاتهم الاستهلاكية. والثمن في الأخير يؤديه المستهلكون الذين يهلكونهم وينتهي الملايين منهم مصابين بالضغط الدموي وأمراض القلب وتصلب الشرايين والذبحة الصدرية. وبما أن الصحة في المغرب قطاع عمومي، فإن ثمن هذا الإفراط في استهلاك الملح تؤديه خزينة الدولة التي تتحمل مصاريف الإنفاق على المستشفيات العمومية. هذا، طبعا، دون أن نتحدث عن التأثير السيئ للإفراط في تناول الملح على السلوك اليومي للمغاربة في البيت وأماكن العمل والأماكن العمومية، وخصوصا على الطرقات.