تقديم

يوما بعد آخر, تزداد الأصوات المنادية بضرورة إحداث جامعة بمدينة تنغير على غرار باقي المدن التي استفادت من الخدمات و الامتيازات المهمة التي توفرها هذه المؤسسة نظرا لكونها مدخلا أساسيا لتحقيق تنمية شاملة و متكاملة و مستدامة. إنشاء جامعة بإقليم شاسع و بعيد عن المراكز الجامعية الأخرى كتنغير ضرورة تنموية إستراتيجية و شاملة من شانها أن تُنسي سكان الإقليم عقودا طويلة من "التهميش المُفرط" في شتى المجالات )ثقافية و اقتصادية واجتماعية( و من شانها كذلك أن تُخلص طلبة الإقليم من "ماراثونات التنقل" إلى المدن الجامعية البعيدة و التيه في أحياءها المتناثرة. فكيف إذن سَيُسْهم إحداث جامعة في تنمية شاملة و مستدامة لإقليم تنغير؟ و كيف سَتُغَذي تلك المؤسسة المُهمة حاجيات المنطقة المتزايدة و المستقبلية في "الأمن" المعرفي-الأخلاقي و الاجتماعي و الاقتصادي و الرمزي؟

1) التنمية الثقافية و المعرفية:
تعتبر "صناعة المعرفة" و نشر آلياتها و بذورها مدخلا أساسيا لتحقيق التنمية الذاتية و المجتمعية للإفراد و الجماعات. فالمجتمع المُؤَسس على حُب المعرفة و البحث الدائم عنها مجتمع ديناميكي ايجابي ومنتج لأصناف متجددة من المعرفة أكثر فعالية و تلاؤما مع المحيط السوسيو-ثقافي-اقتصادي. في هذا الصدد, تتجلى الضرورة المُلِحة لإنشاء جامعة بإقليم تنغير للقطع مع الركود الفكري و العلمي و الثقافي الذي ترزح تحت وطئته المنطقة. فالإقليم في أمس الحاجة إلى استفاقة ونهضة و حركية ثقافية و معرفية تنموية مُسْتدامة و مُوَاطِنة. و الحال أن من بين أبرز العوامل المحورية المتحكمة و المنتجة لحالة الركود كهذه هو خلو الفضاء رغم شَسَاعَتِه و إيوائه لكثافة سكانية كبيرة من مراكز النهضة و التربية و الإشعاع ذات الصبغة الثقافية و المعرفية و الجَامِعَة بلا اشك هي "أُم و عماد" هذه المراكز و سَبَبُ وُجُودِهَا و ضَامِنة استمرارها و انتشارها و حيويتها. فباستثناء بعض دور الشباب التي لا تزال تسابق جحافل كبيرة من "السبات المعرفي و الثقافي" المحيطة بها إلى جانب المدارس و الثانويات التابعة لوزارة التعليم التي خَفَتَ دَوْرُها التثقيفي و التوعوي بشكل مُهْوِل نظرا لانفصالها المُوَجه مع بيئتها و اقتصارها على عملية تلقين المناهج بطرق لا-تحليلية-نقدية ينتفي فيها عنصر التفاعل مع المحيط مما يؤدي إلى عدم التناغم مع الشروط الاجتماعية و الثقافية المحيطة بها يظل إقليم تنغير تحت حِصَار "هُزَال ثقافي" مُدْقِع و المَخْرَج الآمن و الفعال هو إحداث جامعة بالمنطقة.

2) التنمية الاقتصادية و الربط المجالي (إقليميا و جهويا) :
إلى جانب المساهمة الثقافية و المعرفية التي سيقدمها إحداث جامعة بإقليم تنغير لفائدة المنطقة, فان مؤسسة حيوية من هذا النوع سَتقود دون شك إلى "فتح اقتصادي" كاسح للإقليم بعدما صارت العزلة المجالية و الخدماتية مرادفا لصيقا بإقليم غني و فقير في نفس الوقت و شاسع اسمه تنغير. القول بان إحداث جامعة بتنغير من شانه تحقيق الفتح الاقتصادي للمدينة مرده إلى الواقع و الحركية و الايجابية و الآفاق الاقتصادية الذي تشهدها كل المدن الجامعية. فلا مراء في أن إنشاء جامعة بالإقليم سَيُرْغِم المسؤولين على تشييد البنيات التحتية من طرق و قناطر و من تم تأهيل و مَد المدينة بكل امتداداتها المجالية و السوسيو-اقتصادية و الثقافية و الطبيعية سواء على مستوى الإقليم (أسول, النيف, القلعة) أو على مستوى الجهة ككل (ورزازات ,امتغرن , زاكورة, ازيلال ...). قس على ذلك أن المؤسسة الجامعية تستلزم إحداث مرافق مُوازية و مُلازمة لها كَدُورِ إقامة و المستوصفات الجامعية و محطات نقل و المستشفى. هذا الأخير يَبْقى شَبَحًا يُطِل من نافذة كوابيس و آلام و معانات و أسقام ساكنة الإقليم ولعل مطلبا شاملا و مركبا كإنشاء جَامِعَة يَكُونُ مَرْفوقا بمستشفى لِيُحَول 'حُلما كبيرا' لساكنة اَكْبَرْ إلى حقيقة. إحداث جامعة بإقليم تنغير سَيَخْلُقُ كذلك دينامكية كبيرة في مجال البناء و الاوراش الخدماتية المباشرة بالمنطقة و سيمكن اليد العاملة المحلية من فرص مُضَاعَفة للشغل و التخفيف من الهشاشة المادية و الاجتماعية الناتجتين عن الركود الاقتصادي و البطالة دون أن نَنْسَى الرواج و الحركية الاقتصادية اللذين سيتمخضان عن الاحتفاظ بطلبة المنطقة و نواحيها على صعيد إيجار و اكتراء شقق الإقامة, التنقل من و إلى المؤسسة الجامعية , الخدمات الاستهلاكية و التغذية, المطابع و نسخ الكتب ...

3) البعد الاجتماعي و المادي و الإنساني:
يُعتبر البعد الاجتماعي عنصرا أساسيا في عملية إحداث جامعة بإقليم تنغير. فإنشاء مؤسسة حيوية مثل الجامعة في هذا المجال الجغرافي البعيد و المعزول سَيُحَرر مئات من طلبة المنطقة و نواحيها من مصاريف التنقل و الكراء و الدراسة الباهظة في المدن الجامعية الوطنية كمراكش و اكادير و الرباط و مكناس الخ. كما سَيُحَرر عائلات هؤلاء الطلبة من الهواجس النفسية المتعددة الناتجة عن إرسال أبناءهم و بناتهم لمئات الكيلومترات إلى مدن ذات نمط عيش و ثقافة مختلفين الأمر الذي قد يؤثر سلبا على عملية الاندماج و على عملية المُواكبة المباشرة و التأطير الإيجابي لِتفادي كل أصناف الانحراف الأخلاقي و التطرف الفكري الناتج عن إملاءات المُعْطى السوسيو-ثقافي-اقتصادي الجديد. يُضاف إلى ذلك كله كَوْن معظم العائلات و الأسر بالإقليم فقيرة قلما تساير الاحتياجات المادية التي تفرضها عملية التدريس الجيد لأبنائها أخذا بعين الاعتبار الحصار غير المبرر الذي لا يزالون يعانون منه فيما يَخُص الاستفادة من المنح الدراسية الهزيلة وخطوط النقل الجامعي المنعدم. فلا عجب أن نجد أن المئات منهم حرموا من الدراسة الجامعية نظرا لحرمانهم من المنحة من جهة و عدم قدرة أسرهم تغطية مصاريف التكوين الجامعي من جهة أخرى بينما يجد مئات آخرين من هؤلاء الطلبة أنفسهم مُضْطرين للمزاوجة بين العمل و الدراسة و آخرين اكتشفوا في بداية أو وسط أو قبيل متم مشوارهم الجامعي انه لا مناص من مغادرة قاعات محاضراتها نظرا للبعد و الفقر و اليأس المُتولد عنهما.

4) البعد الأكاديمي الاستراتيجي:
لا يَقِل "البُعْد الأكاديمي الاستراتيجي" أهمية عن باقي الأبعاد التي سبق ذكرها إذ انه سيأخذ مَنْحًا صِحيا و تَصَالُحِيا و تصحيحيا بإحداث جامعة بإقليم تنغير. فإنشاء هذه المؤسسة سَيَفْتَحُ المجال أمام طلبة الإقليم للقيام بأبحاث و دراسات تهم مُحِيطهم و مناطق انتمائهم بعدما كانوا مُلزمين في غالب الأحيان على الاشتغال و البحث حول جوانب و ظواهر تتعلق بالمدن الجامعية المُسْتقبلة. ما أحوج إقليم تنغير و كل امتداداته الجغرافية الجنوب شرقية إلى مؤسسات و معاهد بحثية و توثيقية أولا لحفظ ما تبقى من التراث غير المادي المحلي من الاندثار الرهيب و المتواصل جراء ذهاب جهود أبناءها مُكْرَهين لا مُخَيرين أدْراج خِدمة مناطق أخرى و ثانيا لتأسيس و إعداد قاعدة معرفية و ثقافية و بحثية موثقة بطرق علمية و أكاديمية تأهباً للاندماج السوسيو-ثقافي التام و المتكامل ولخلق أرضية خِصْبة و إستباقية تعمل عل خلق ظروف 'التحول المَرِن' و الانسجام مع الاوراش و المرتكزات الكبرى التي اختارها المغرب كالجهوية الموسعة ونداء الحفاظ و الارتقاء بالثروات اللامادية.

خلاصة
تتعدد العوامل و الدوافع التي تُشَرْعِن مَطْلب إحداث جامعة بإقليم تنغير و يَظل مَكْسَب تحقيق التنمية الشاملة والمتكاملة و المُسْتدامة قاسِمًا ايجابيا مُشْترَكًا بينها. فإنشاء مؤسسة جامعية سَيُؤَسس لعدالة مجالية فيما يخص توزيع المعرفة و وسائل إنتاجها كما انه سيشجع البحث و التوثيق الأكاديميين للحفاظ على الثروة الرمزية المحلية بعدما قضت عقود من التعتيم و التجاهل و الهذر و التركيد المُمَنْهج على جزء غير يسير منها. كما أن إنشاء مؤسسة جامعية بالإقليم سيخلق "فتحا اقتصاديا" لفائدة ساكنة المنطقة أولا للتخفيف من حدة الهشاشة و الفقر و ثانيا للحد من الآثار السلبية للهجرة بأصنافها الثلاث : داخلية, خارجية و نفسية/أنطولوجية جَراء اليأس و التهميش. بمعنى آخر، فإحداث مؤسسة جامعية بإقليم تنغير سَيُمَكن المنطقة من "آلية تأهيل" شاملة و فعالة للظفر بعصفورين في آن واحد:

.1 تأهيل العقل و السلوك (عن طريق نشر المعرفة و العلم و البحث الأكاديمي لإعادة الاعتبار للذات الجنوب شرقية بقِيَمِها و أخلاقها النبيلة و لحفظ التراث المحلي الرمزي و سبر أغواره).

2 .تأهيل المجال و الاقتصاد (عن طريق إنشاء البنيات التحتية الحيوية كالطرق و المستشفيات و تطوير و تَجْويد و تَنْجيع و حَوْكَمَة الخدمات المؤسساتية : النقل، الصحة الخ).

من يملك الجامعة يملك و يساير المستقبل: مستقبل معرفي, اقتصادي ,اجتماعي , لامادي...