قرأت بتمعن كبير نتائج البحث الميداني الذي أنجزه أطر المندوبية السامية للتخطيط حول استخدام المغاربة للوقت. وما يهمني كصحافي في هذا البحث هو الوقت الذي يخصصه المغاربة للقراءة، لأن وظيفتي هي أن يقرأ الناس ما أكتب، وإذا عزفوا عن ذلك فإنني سأنتهي عاطلا عن العمل.
وإذا كان بائعو «السدادر» والأفرشة ومواد العناية بالجسد سيفرحون بنتائج هذه الدراسة، التي كشفت أن المغاربة يقضون 10 ساعات ونصف يوميا من وقتهم في النوم والعناية بأجسادهم، وإذا كان أصحاب «السناكات» والوجبات السريعة سيصفقون لنتائج هذه الدراسة التي كشفت أن 13 في المائة من المغاربة يتناولون وجباتهم خارج البيت، فإن الصحافيين والكتاب وأهل القلم عموما عليهم أن يندبوا حظهم بسبب هذه الدراسة التي كشفت أن المغاربة لا يخصصون سوى دقيقتين من وقتهم اليومي للقراءة.
المدهش أننا دخلنا بداية هذا الأسبوع كتاب «غينيس» للأرقام القياسية بأكبر تجمع بشري للقراءة، لتشكيل كلمة «اقرأ» في ساحة الأمل بأكادير، وها نحن نقفل الأسبوع ذاته بنتائج هذه الدراسة التي تقول إن المغاربة لا يقرؤون سوى دقيقتين في اليوم.
ولو تعمق الباحثون أكثر وبحثت في نوعية القراءة التي تشغل دقيقتين من وقت المغاربة لاكتشفوا أن جل هذه القراءات لا تخرج عن قراءة فواتير الهاتف والماء والكهرباء ووصفات الأطباء وعلب الدواء، دون أن ننسى طبعا قراءة اللطيف قبل مغادرة البيت في الصباح اتقاء للعين والحساد وقطاع الطرق وكل الشرور التي يتخيل المغربي أنها تتربص به عند عتبة البيت.
عندما نقرأ نتائج هذا البحث ونكتشف أن القراءة هي آخر ما يشغل بال المغاربة، نشعر فعلا بخطورة الأمر. خصوصا على مستوى تداول المعلومة والخبر، والتي تبقى غير متاحة أمام ملايين المواطنين بسبب عجزهم أو نفورهم من القراءة. فلكي تتلقى الأخبار والمعلومات والأفكار يجب أن تقرأ، ولذلك فأول أمر أنزله الله تعالى على رسوله هو «اقرأ».
والقراءة في الدول التي تعرف قيمتها ليست مجرد هواية، بل هي إحدى أهم مسؤوليات الدولة، وإذا سألت رئيس الحكومة عندنا مثلا عن برنامجه لدعم القراءة فإنك لن تتلقى منه جوابا، لأن الحكومة ليس لها برنامج لمثل هذه المشاريع التي تنخرط في المستقبل.
وإذا أنت راجعت جميع مداخلات الوزراء واحدا واحدا فلن تعثر على إشارة لكتاب أو مقولة لفيلسوف أو حكمة لنابغة. وكل ما ستعثر عليه هو كلام خشبي سطحي فارغ من أي عمق، يكشف أن أصحابه لا يقرؤون سوى «الحسايف» في بعضهم البعض.
وحتى برامج التعليم التي تسطرها الوزارة لا تضع في اعتبارها تشجيع القراءة وتحبيبها للتلاميذ. في زمننا نحن، وفي أقسام الثانوي كان لقاؤنا الأول مع الشعر العربي، أحد أهم مداخل ترسيخ حب القراءة لدى الجيل الصاعد.
كنا نكتشف شعراء يتغزلون في حبيباتهم غزلا عفيفا عذريا، وآخرون يتغزلون فيهن غزلا صريحا. ومن سوء حظ الشعراء في ذلك الزمان، أن كل من تغزل في امرأة فعليه أن يقول لها وداعا إلى الأبد، لأن الآباء كانوا يرفضون تزويج بناتهم للشعراء الذين يتغزلون فيهن وتتناقل الألسن في القبائل هذا الغزل. فالشعراء كانوا بمثابة الصحافيين وقصائدهم كانت بمثابة الجرائد بالنسبة إلينا اليوم. يتناقلون أخبار القبائل والحروب والأمجاد والأحزان والمسرات بشكل منظوم في الأسواق والمجالس على ألسنة رواة حفظة، مهمتهم الوحيدة هي تلقف ما يصدر من الشاعر وحفظه ونشره على العموم شفويا.
فالكتابة كانت عيبا آنذاك، وكل من يتجرأ على الكتابة يتم تعييره بضعف الذاكرة، وهي تهمة مخجلة توازي في فداحتها ما يسميه المحامون اليوم «السب والقذف». أحب الشعراء إلى قلبي كانوا هم الشعراء الصعاليك. وقد سمتهم قبائلهم بالصعاليك ليس لأنهم شعراء أنذال، ولكن فقط لأنهم رفضوا الخضوع لنظام القبيلة الجاهلية، فتم طردهم منها.
إنهم بالمعنى المعاصر ثوار ربيع عربي قديم رافضون للسلطة المستفردة بالقرار. ولذلك قرروا تشكيل «عصابة» من الشعراء يعيشون على نهب قوافل أثرياء قريش وتجار اليهود الذين كانوا يذرعون صحاري الجزيرة العربية في تلك الجاهلية البعيدة.
كلهم كانوا أصدقائي الذين أدمنت قراءة قصائدهم يوميا، السليك ابن السلكة، وتأبط شرا، والشنفرى، والحارث بن ظالم، وقيس بن الحدادية بن خزاعة، وحاجز بن عوف الأزدي. «غير سمياتهم كايخلعو».
وبين هؤلاء الشعراء الصعاليك فإن عروة ابن الورد يبقى صعلوكي المفضل. وقد تمنيت دائما في مراهقتي البعيدة أن أكون مثله. فقد كنت مفتونا بشعره وشجاعته الحربية وسرقاته الشهيرة التي ينفذها في قوافل الأثرياء لكي يوزعها في ما بعد على فقراء قبيلته. فالرجل كان لصا كريما إلى درجة أن عبد الملك بن مروان قال في حقه «من قال إن حاتما الطائي أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد».
إن أحد أنبل المواقف التي جعلتني أحترم عروة بن الورد وألتهم شعره العذب طيلة السنوات الأخيرة، هو عندما رهن سيفه من أجل أن يشتري الحليب لامرأة استوقفه بكاء طفلها من شدة الجوع. لقد كان السيف في تلك الجاهلية البعيدة بالنسبة للفارس عتادا ضروريا، خصوصا بالنسبة لشاعر صعلوك مطلوب رأسه في أكثر من قبيلة. ومع ذلك خاطر عروة بن الورد بحياته ورهن سيفه من أجل أن يشرب رضيع جرعة حليب.
منذ تلك المراهقة، وأنا أقرأ سيرة الشعراء الصعاليك، والشعراء الفرسان، والشعراء الأمراء الذين كانت رائحة طيبهم تسبقهم إلى المجالس، قررت أن أكون مثلهم. يعني أن أكون لسان حال الشعب كما كانوا هم لسان حال قبائلهم. لقد كنت مقتنعا دائما بأن هؤلاء الشعراء الصعاليك كانوا هم صوت المعارضة الحقيقية في قبائلهم. ولذلك تم طردهم بتهمة الصعلكة. وهذا ما يسمونه في المغرب اليوم بنشر التيئيس والعدمية.
في تلك العصور الجاهلية كانت القبيلة عندما يولد لها شاعر تقيم الأعراس والحفلات لأسابيع طويلة. لأن القبيلة سيكون لها لسان حالها الذي سيدافع عنها عندما يهاجمها شاعر قبيلة أخرى. وكم من حرب نشبت بسبب بيت شعري «مسموم»، أو كلمة غزل في فتاة القبيلة المجاورة مدسوسة بمكر في قصيدة هجاء. ثم ألم يمت المتنبي أعظم الشعراء العرب في كل العصور، بسبب بيت شعري ذم فيه ضبة بن يزيد العتبي عندما قال فيه «ما أنصف القومُ ضبّة وأمـه الطرطـبّـة، فلا بمن مات فخـرٌوا لا بمن عاش رغبة».
وعندما أقارن بين تلك الفترة والفترة الحالية أكتشف أن منسوب القراءة تراجع بشكل مهول، إلى درجة أن الكتاب سيصبح قريبا قطعة نادرة توضع في المتاحف.
الثقافة والإعلام في الدول التي تحترم مواطنيها، يسندان إلى شخصيات لديها مرجعيات فكرية وثقافية وازنة، فضلا عن توفر سيرهم الذاتية على مؤلفات وكتابات في المجال الذي ستسند إليهم مسؤولية إدارته. أما في بلد متخلف كالمغرب، يتبرم مسؤولوه من رائحة الثقافة والمثقفين، فيمكن أن تجد حكماء يجلسون في الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري لم ينشر مقالا واحدا في حياته.
ولعل أكبر مظهر من مظاهر الجهل بدور المعرفة والقراءة في تقدم البلاد وازدهارها، هو تخصيص مليارات الدراهم لدعم صناعة سينمائية وطنية رديئة، تساهم في نشر الجهل والسطحية ومظاهر التغريب والمسخ الثقافي، وإغفال دعم الكتاب ونشر القراءة.
مع العلم أن دعم نشر أمهات الكتب وطبعها على نفقة الدولة يكلف أرخص بكثير من دعم مخرجين سينمائيين بالملايير لإنتاج أفلام لا يساهم بعضها سوى في نشر ثقافة سطحية وحوارات مبتذلة منقولة حرفيا من لغة «السوق» تحت ذريعة الواقعية السينمائية.
ولو أن الدولة وفرت ميزانيات مهرجان سينمائي واحد من تلك المهرجانات التي يمولها المركز السينمائي سنويا في كل مدينة، وحولت ميزانيته لدعم مهرجانات لتشجيع القراءة ونشر الكتب، لكان أفضل. وعوض تقديم دعم بثلاث مائة مليون سنتيم لمخرج واحد لكي يصور فيلما لن يشاهده أحد آخر سواه، سيكون من المفيد تخصيص هذا المبلغ لطبع عشرات الآلاف من النسخ لمجموعة من الكتب وبيعها بثمن رمزي للعموم، وإهداء بعضها للمكتبات ودور الثقافة في الأحياء الشعبية. هكذا ستشجع الدولة الشعب على القراءة.
وكم يشعر المرء بالأسى والحزن عندما يقف في محطة للقطار ويتأمل عشرات المسافرين جالسين يطالعون وجوه بعضهم البعض عوض مطالعة كتاب أو جريدة. حتى أصبح منظر مسافر أو مسافرة وهو جالس يقرأ كتابا بانتظار رحلته في محطات المغرب أو حدائقه، شيئا نادرا يستحق تخليده بصورة تذكارية. إن خلاص المغرب لا يوجد قطعا في تشجيع السياحة ولا في تشجيع الاستثمار الأجنبي ولا في تشجيع الهجرة للرفع من أعداد جاليتنا المقيمة بالخارج. الخلاص يوجد في المعرفة. والمعرفة تبدأ بالقراءة، ومجتمع لا يقرأ محكوم عليه بالجهل، والجاهل يبقى طيلة حياته عبدا لمن يمتلك المعرفة. إن المهمة الرئيسية للدولة اليوم هي تشجيع القراءة والمعرفة. وهذه عملية لا يمكن أن تنجح بوجود أشخاص يفتقرون إلى هذه الخصال على رأس المؤسسات الثقافية والإعلامية العمومية. ففاقد الشيء لا يعطيه.