ليس المرض أو السن هو ما يقتل، بل الأجل. وجنازة أحمد الزايدي خير دليل على ذلك. فضمن المعزين كان يجلس عبد الرحمان اليوسفي أطال الله عمره وقد تجاوز التسعين، كما كان يحضر إلى جانبه الراضي وقد تجاوز عتبة الثمانين، وكلاهما جاء لكي يقدم العزاء في رفيق دربهما السياسي الذي تجاوز بالكاد عتبة الستين.

فقد شاء القدر أن يلقى أحمد الزايدي أجلا محتوما تراجيديا داخل سيارته وسط بركة من الماء لا يتعدى عمقها المترين، هو الذي ظل يسبح بمهارة عكس التيار داخل حزبه متحديا الموجة العاتية التي جرفت حزب عبد الرحيم بوعبيد نحو القاع.

إيماننا بالقدر وحتمية الأجل لا يمنع من أن نطرح سؤالا كبيرا وجوهريا هو من قتل أحمد الزايدي؟
هناك متهمون كثيرون يقفون وراء هذا الاختفاء المفاجئ لقائد تيار الرفض داخل الاتحاد الاشتراكي. ولو كنت فردا من عائلة المرحوم أحمد الزايدي، لكان أول شيء قمت به مباشرة بعد دفن الفقيد هو وضع شكاية ضد وزارة التجهيز والنقل والمكتب الوطني للسكك الحديدية بتهمة التسبب في القتل. 

فأحمد الزايدي لم يقتله واد الشراط بل قتله إهمال المكتب الوطني للسكك الحديدية الذي شيد قنطرة فوق حفرة بدون تجهيزات لإزالة المياه أثناء موسم الأمطار.

فالممر الذي غرقت فيه سيارة الزايدي ممر تحت السكك الحديدية مخصص للسيارات، والطريق نحوه معبدة، وبالتالي فهي طريق صالحة للاستعمال ولم يكن هناك أي حاجز يمنع المرور. وعليه فتلك الطريق كانت معبدة مباشرة نحو الموت.

القنطرة التي شيدها المكتب الوطني للسكك الحديدية كانت قد بنيت للحيلولة دون صدم القطارات لقاطعي السكة، غير أن المكتب لم يقم بواجبه في توفير الصيانة الضرورية للممر، بحيث كلما هطلت الأمطار تحول الممر إلى فخ قاتل. والمصيبة هي أن هاته القنطرة  كثيرا ما كانت مثار سخط واحتجاج ساكني المنطقة كل موسم أمطار. لكن «لمن تعاود زابورك أداود».

وليست هذه هي قنطرة القطار الوحيدة التي يغرق فيها المواطنون، بل هناك «فخاخ» أخرى كثيرة مبثوثة في مناطق متفرقة. منها واحدة توجد في فاس أطلق عليها المواطنون «قنطرة حضي راسك».

وعليه فوزارة التجهيز والمكتب الوطني للسكك الحديدية مسؤولان عن الموت التراجيدي لأحمد الزايدي، لأنهما لم يوفرا شروط السلامة لمستعملي طريق مفتوحة تقع تحت مرفق تابع لهما.

مثلما وزارة التجهيز والنقل مسؤولة عن أرواح مستعملي الطرق الذين يموتون بسبب الأحجار التي يرميها قطاع الطرق فوق سياراتهم فيتسببون لهم في حوادث سير مميتة.

ولو أن وزارة التجهيز والنقل بنت قناطر وجسورا مشبكة تستجيب لمعايير السلامة الدولية، لما كان بوسع هؤلاء المجرمين أن يستغلوا تلك القناطر في إزهاق أرواح الأبرياء من أجل سلبهم أموالهم وأغراضهم.

أحمد الزايدي قتلته السياسة أيضا. فقد ظل طيلة السنوات الأخيرة يصارع إدريس لشكر من أجل فرض رجاله في المكتب السياسي للحزب، وقد كان الاتفاق الذي توصل إليه لشكر والزايدي لحظات قليلة قبل التصويت في مؤتمر الحزب يقضي بمنح تيار الزايدي مقاعد في المكتب السياسي، غير أن لشكر تنكر لوعده، مما دفع بالزايدي ورفاقه لإعلان حالة التمرد الحزبي على ما اعتبروه أساليب ستالينية يستعملها لشكر ضد معارضيه.

وحتى قبل موته بلحظات كان أحمد الزايدي يسارع من أجل الوصول إلى نشاط حزبي، بعدما تناهى إلى علمه تنظيم نقابة تابعة لأنصار لشكر للقاء في أحد مناطق الإقليم.

بمعنى ما فالحزب قتل أحمد الزايدي أيضا، مثلما قتل الحزب قبله كثيرين. فهذه الطاحونة الجبارة التي اسمها الاتحاد الاشتراكي طحنت زعماء وقادة ومناضلين وزيتت مفاصلها الفولاذية بدمائهم لكي يستمر أحيانا في قيادتها أناس ليسوا في مستوى تاريخ الحزب وتضحياته الجسام.

ولعل الموت التراجيدي لأحمد الزايدي يطرح على الحزب بخاصة والطبقة السياسية بعامة سؤال الجدوى من العمل السياسي عندما تنعدم فيه الأخلاق.

وهو سؤال لا يعني فقط مناضلي الاتحاد الاشتراكي الذين أحسوا اليوم بأنهم أكثر يتما من الأمس، بل يعني أيضا الأحزاب التي تعتقد نفسها معنية بالحكم.

والواقع أن مآل حزب الاتحاد الاشتراكي يصلح موضوعا لبحث أكاديمي رصين في شعب العلوم السياسية. كما يصلح هذا المآل درسا للتمعن واستخلاص العبر بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الحاكم الآن في المغرب.

كيف وصل الحزب الأكثر شعبية في المغرب إلى حد إعلان محمد الأشعري الذي قضى في الحكومة عشر سنوات، عن خبر وفاته؟

لماذا أصبح أبناء الحزب يجلدونه ويصفونه بالمسخ بعدما نجح أحد قدماء قياديي شبيبته، إدريس لشكر، في الوصول إلى منصب الكاتب الأول للحزب؟

لعل الجميع يتذكر أن الاتحاد الاشتراكي جاء إلى الحكم لإنقاذ المغرب من السكتة القلبية التي تحدث عنها الراحل الحسن الثاني في خطاب وجهه للشعب. وقبل عبد الرحمان اليوسفي المشاركة في «اللعبة السياسية» ووضع رصيده التاريخي والنضالي في خدمة الدولة لتفادي سحب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لثقتهما في النظام السياسي المغربي، ولضمان انتقال العرش بسلاسة.

وخلال الخمس سنوات الأولى لحكم الاتحاد الاشتراكي، كان التبرير السياسي الذي يلوذ به الاتحاديون المشاركون في الحكومة هو التضحية من أجل إنقاذ المغرب من السكتة القلبية. أما عندما تم التخلي عن «المنهجية الديمقراطية» سنة 2002 وتم اختيار الوزير الأول من خارج الحزب الفائز في الانتخابات، فقد لاذ الوزراء الاتحاديون الذين قبلوا بتجريد عبد الرحمان اليوسفي من منصب الوزير الأول، بخطاب سياسي جديد جسدته فاطمة بلمودن عضوة المكتب السياسي للحزب، عندما ظلت تؤكد أن قبول المشاركة في حكومة  التكنوقراطي إدريس جطو تأتي في إطار الوعي بدقة المرحلة. وكان محمد الأشعري آنذاك وزيرا للثقافة عندما برر المشاركة التي يتنكر لها الآن، بالرغبة في المحافظة على الاستقرار.

فهل يمكن أن نفهم من إعلان الأشعري ندمه على المشاركة في حكومة جطو على أنه في واقع الأمر ندم على محافظة الحزب آنذاك على الاستقرار السياسي في البلد؟

لقد أمضى محمد الأشعري أكثر من عشر سنوات في ثلاث حكومات متتالية. ولذلك فالندم المتأخر الذي أعلن عنه كان سيكون مفهوما لو أنه صدر عنه في الخمس أو الست أو السبع سنوات الأولى، لكن أن يقضي ثلاث عشرة سنة في الحكومة، وأن ينتظر أكثر من عشر سنوات بعد خروجه منها لكي يعلن ندمه على المشاركة في حكومة 2002، ويغتنم فشل حركته التصحيحية داخل الحزب لكي يعلن وفاة هذا الأخير، فالأمر يحتاج فعلا إلى فقدان فظيع للذاكرة السياسية من طرف الرأي العام لكي يصدق هذه الحكاية.

وقد دارت الأيام وانتهى عليوة، الناطق الرسمي باسم حكومة التناوب، في السجن بتهم لها علاقة بالفساد المالي، وأصبح محاميه هو إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، ورئيس لجنة تقصي الحقائق التي تكلفت بصياغة التقرير البرلماني حول التجاوزات التي عرفها تدبير البنك العقاري والسياحي الذي دخل بسببه عليوة إلى السجن، قبل أن يخرج وتحصل شركته على صفقة مجزية مع وزارة الصناعة التقليدية بمئات الملايين.

خلال تواجدهم بالحكومات الثلاث المتعاقبة منذ إعطاء انطلاقة التناوب التوافقي، تحمل الوزراء الاتحاديون مسؤولية وزارات حساسة وذات علاقة مباشرة بالمعيشة اليومية للمغاربة. ولعله من باب الإنصاف والعدل أن نقول بأن التركة الثقيلة التي وجدها بنكيران أمامه يتحمل فيها الاتحاد الاشتراكي مسؤولية كبيرة. ولذلك فبنكيران لا يبالغ عندما يقول أنه لا يستطيع في عام واحد حل إشكاليات تراكمت منذ عشرات السنين. فاتحاديو لشكر الذين يريدون المزايدة عليه في البرلمان يذكرهم رئيس الحكومة بالمرموز بهذه التركة التي خلفوها وراءهم في المالية والعدل والتعليم طيلة وجودهم في ثلاث حكومات.

لقد تخلى الاتحاديون عن عبد الرحمان اليوسفي للاستمرار في تذوق حلاوة السلطة التي أدمنوها. واليوم يتخلون عن آخر قلعة اتحادية بعدما حاربوا صعود عمدة أكادير طارق القباج إلى المكتب السياسي للحزب.

وهكذا تحول «الحزب العتيد» الذي قدم مئات الشهداء والمعتقلين والمنفيين ومجهولي المصير قربانا على مذبح النضال على طول البلاد وعرضها، إلى مجرد طوق نجاة سياسي يحيطه حول خصره كل من يرغب في التجديف نحو منصب في مؤسسة عمومية أو كرسي في السلطة. 

الحقيقة أن حزب الاتحاد الاشتراكي لم يمت، إنه حي يرزق، وكل ما في الأمر هو أنه خضع طيلة جلوسه فوق كراسي الوزارات لجلسات علاج كيماوي طويل أعطت في النهاية إطارا حزبيا منهكا مدمر المناعة وغير قادر على العض بسبب فقدانه لأسنانه في عيادة السلطة التي وضعت له مكانها طقم أسنان صناعيا ينفع عند الحاجة لابتسامات مجاملة صفراء.
الحزب حي ولم يمت، عكس ما يعتقد الأشعري. لكنه تغير، تماما مثلما تغير الأشعري ورفاقه. وهذا التغيير عرفته كل الأحزاب التي مرت عبر عيادة طبيب الأسنان إياه. وهي العيادة نفسها التي يجلس فوق مقاعد انتظارها حزب العدالة والتنمية منذ أكثر من ثلاث سنوات.

إن حزب العدالة والتنمية سائر فوق «ممشى الآلام» نفسه الذي سار فوقه حزب الاتحاد الاشتراكي، وفي نهاية هذا الممشى لا يوجد شيء آخر سوى الأعمدة التي ستصلب عليها شعبية الحزب والطيور الكاسرة التي ستأكل من أشلائه، وهي الأعمدة نفسها التي صلبت عليها شعبية الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من قبله.

هذه هي الصورة الحقيقية للاتحاد الاشتراكي اليوم، فم بلا أسنان يهدد بالعض. وربما بعد عشر سنوات من اليوم سيصبح العدالة والتنمية بالصورة نفسها.