كيف يمكن أن نقبل، ليس كمسلمين فحسب وإنما كبشر، سير مجرم حرب كنتانياهو، أحرق ثلاثة آلاف طفل وأم في غزة ودمر بيوتهم قبل أشهر قليلة، واغتال بدم بارد سبعة عشر صحافيا، في مسيرة باريس تضامنا مع قتل رسامي «شارل إيبدو»؟
كيف يقبل الغرب المنافق أن يشارك في مسيرة تندد بالقتل من يداه ملطختان بدماء عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين؟
رئيس الدولة المارقة العنصرية التي اغتالت أروع وأنبغ رسام كاريكاتور أنجبته هذه الأمة، ناجي العلي، وقتلت روائيا فذا كغسان كنفاني، وقصفت شيخا مقعدا يدعى أحمد ياسين بصاروخ، يأتي لكي يتقدم مسيرة تندد بقتل رسامي كاريكاتور.
إنها لمفارقة تبعث على الضحك حد البكاء، خصوصا عندما نرى ملك الأردن وزوجته ومحمود عباس وممثل الجزائر رمطان العمامرة يسيرون جنبا إلى جنب مع من يقتل ويمزق أشلاء إخوانهم الفلسطينيين.
لذلك فموقف الدولة المغربية القاضي بعدم المشاركة في هذه المسيرة، كان أكثر من حكيم. فقد اتضح أن الموقف المعلن للمسيرة هو إدانة العمل الإجرامي الذي حصل في «شارلي إيبدو»، لكن الهدف المضمر كان هو تبييض سيرة مجرم حرب وتقديمه للعالم كحمامة سلام يتقدم مسيرة مليون ونصف محتج تضامنا مع الرسامين المقتولين.
لقد فقدت هذه المسيرة عمقها الإنساني عندما سمحت لمجرم حرب من طينة نتانياهو بالسير جنبا إلى جنب مع قادة الدول. فآخر من يحق له أن يسير دفاعا عن حرية التعبير والحق في الحياة، هو نتانياهو، لأنه ببساطة يوجد على رأس جيش متوحش يلتهم الأطفال يوميا ويشرب دماءهم في جماجم آبائهم أمام أنظار العالم.
نتانياهو لم يأت إلى باريس لكي يذرف الدموع على رسامي الكاريكاتور، الذين بنوا شهرة مجلتهم على حساب المس بمشاعر مليار ونصف مليار مسلم، بل جاء لكي يوصل النداء الذي جندت له حكومته ميزانية كبيرة جدا، والذي يدعو جميع يهود العالم للالتحاق بفلسطين المحتلة التي يسمونها إسرائيل.
هناك اليوم من يشكك في حقيقة ما وقع لمجلة «شارلي إيبدو»، لكن هذا ليس هو السؤال المهم، بل المهم هو التساؤل لمصلحة من وقع ما وقع؟
فمجلة «شارلي إيبدو» كانت إلى حدود الأسبوع الماضي، تحتضر بسبب عدم إقبال الفرنسيين على اقتنائها. فبسبب خطها التحريري المستفز والسطحي قاطعها القراء، وغادرها حتى رساموها الأوائل بعدما ارتمت المجلة في حضن السلطة. وها هي اليوم تتحول من مجلة مفلسة إلى مجلة تتلقى مليون أورو دفعة واحدة من الدولة الفرنسية، وتتلقى الدعم المادي من كل مكان وتستعد لطبع ثلاثة ملايين نسخة.
نحن إذن لسنا أمام مجرد مجلة، وإنما أمام تيار سياسي وإيديولوجي يجعل من مهاجمة الرموز الدينية الإسلامية خطه التحريري.
ما حدث في باريس يصب في مصلحة إسرائيل بالدرجة الأولى، فمنسوب الخوف والرعب ارتفع لدى يهود فرنسا، بحكم أنهم الجالية اليهودية الأكبر في العالم بعد أمريكا. ولذلك سيصبح سهلا على الآلة الجبارة التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية من أجل تهجير يهود العالم نحو إسرائيل، أن تقنع اليهود الخائفين على حياتهم وممتلكاتهم بأن أرض إسرائيل هي الملاذ للشعب اليهودي، وأن البلدان التي يعيشون فيها مشتتين لم تعد آمنة.
إنها تجارة الرعب نفسها التي استثمرت فيها الحركة الصهيونية عندما خططت لطرد اليهود من الدول العربية وشمال إفريقيا والمغرب خصوصا نحو إسرائيل، فكونت مليشيات مدربة على القتل. وبمساعدة وكالة التهجير اليهودية نظمت مذابح داخل ملاحات اليهود، وأشهرها مذبحة ملاح يهود وجدة، وهي المجزرة التي ألصقت بالمغاربة المسلمين وهم منها براء. وبعدها تكفلت الآلة الدعائية بترويج إشاعة مفادها أن المسلمين سيذبحون جميع اليهود بسبب ما يقوم به الجيش الإسرائيلي في فلسطين.
ووزعت مناشير في كل ملاحات اليهود تهددهم وتطالبهم بالهجرة نحو إسرائيل. وقبل اندلاع قضية منع فيلم «إكزوديس» هذه الأيام، اندلعت قبل ستين سنة فضيحة باخرة «إكزوديس» في المياه المغربية، وانكشف أنها كانت تحمل سرا يهودا مغاربة نحو إسرائيل.
إن ما حدث في سوريا والعراق، وما يقوم به «داعش»، وما حدث في مقر مجلة «شارلي إيبدو»، بالتوازي مع ما حدث داخل محل «الكاشير» حيث تم احتجاز رهائن، في تناسق عجيب جعل فكرة اليهودي المضطهد تطفو على السطح بقوة، يجد تفسيره في ما يحدث في إسرائيل.
إن كل هذه الأحداث والحروب والصراعات ليست سوى ستار من الدخان يحجب أصل الصراع الذي ليس شيئا آخر غير فلسطين.
ولذلك فعوض أن ينشغل المسلمون بمركز التعفن والالتهاب، أي إسرائيل، ينشغلون بأعراض المرض من حمى وقشعريرة تصيب الأطراف.
إسرائيل اليوم لديها هدف استراتيجي واحد هو ربح المعركة الديمغرافية مع الفلسطينيين. لذلك فعندما ينشغل المسلمون الأغبياء والغرب المنافق بالحوادث المتفرقة، تسارع إسرائيل إلى بناء المستوطنات بالآلاف من أجل استقبال العدد الذي خططت له في أفق 2030 من اليهود القادمين من كل أنحاء العالم.
والحكومة الإسرائيلية التي تطمح لإنشاء دولة خالصة، تتناسى ما يقوله أحبار التلمود من أن اليهود هم ملح الأرض، ولذلك أرادهم الله متفرقين فيها، وإذا اجتمع هذا الملح كله في مكان واحد فإنه سيحدث ضرار كبيرا.
ومن أجل إقناع يهود العالم بالقدوم من أجل تعمير أرض فلسطين، تمنح الحكومة الإسرائيلية كل عائلة تقبل بالقدوم راتبا شهريا قارا وسكنا مجانيا لمدة ستة أشهر إلى أن تستقر وتندمج.
وفي سنة 2013 استجاب لهذا النداء 3400 يهودي فرنسي، وارتفع العدد سنة 2014 لكي يصل إلى 6600 يهودي جمعوا حقائبهم نحو إسرائيل.
طبعا ليس كل اليهود متفقين مع سياسة حكومة نتانياهو التي تدعو يهود العالم للقدوم إلى إسرائيل، فهناك طائفة من الأحبار ورجال الدين اليهود الذين يعترضون على هذا المشروع الذي يرون فيه زوال إسرائيل، ويتهمون الصهيونية التي عمرها مائة سنة، والتي اخترعها يهود ملاحدة، بأخذ الديانة اليهودية التي عمرها ثلاثة آلاف سنة كرهينة.
وهؤلاء الصهاينة لديهم خطة محكمة لتصوير المسلمين كجلادين مسؤولين عما حصل لليهود من محن، علما أن اليهود طوال تاريخهم المليء بالمحن والتشرد والنفي، لم يعيشوا بسلام إلا في كنف الإسلام. حصل ذلك في الأندلس لثمانية قرون، وعندما طرد المسلمون تبعهم اليهود للعيش في شمال إفريقيا.
أما اليهود الذين اختاروا أوربا الشرقية فقد انتهوا في أفران هيتلر، وحتى أولئك الذين كانوا يعيشون في فرنسا سلمتهم حكومة فيشي للنازية داخل مقصورات القطارات. وإذا كان الفرنسيون يشعرون بذنب تاريخي بسبب ما فعلوه ضد يهودهم، فلسنا نحن المسلمين من يجب أن يتحمل تبعات هذه العقدة التاريخية.
واليوم يعطينا الغرب المنافق الدروس في الإنسانية والرحمة، متهما المسلمين والإسلام بالإرهاب والبربرية. فعندما يقتل مسيحي أو يهودي يسمون ذلك جريمة، وعندما يقتل مسلم يسمونه إرهابا ويجيشون حوله الإعلام والسينما والدعاية، فيتحول الجلاد إلى ضحية والضحية إلى جلاد.