عودة الحديث عن الانتخابات، في الآونة الأخيرة، وأيضا عودة عمليات «الإحماء» لتجييش الأتباع، تطرح أسئلة أو بالأحرى تجدد طرحها، من قبيل ماذا يعرف ساستنا عن هذا الشعب الذي ينوون حكمه؟

فأحد الفوارق الكبيرة بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة المستبدة يتجلى في كون الأولى تدرس الإنسان التي تحكمه لتكيف أساليب حكمها ومؤسساتها ونظم قوانينها وخطاباتها مع وضعه البشري المتعدد والمتحول، بينما الثانية لا تدرس الإنسان الذي تحكمه، لأنها مطمئنة إلى أنه كائن بالمجاز، كائن لا تتعدى آدميته حدود خوفه وتملقه ونفاقه، بينما الحقيقة التي أثبتتها تحولات العالم العربي منذ 2011، هي أن الإنسان هناك هو جوهره الإنسان هنا، وأن عذر الحاكم العربي أقبح من جهله بشعبه، وهذا هو السر الأكبر في تسارع الأحداث من حوله... فالقذافي الذي كان يجزم بكون جميع الليبيين يحبونه لا يعرف شعبه، ومبارك الذي كان يؤمن إلى حدود الأسبوع الثاني من ثورة ميدان التحرير أن الشباب «يتسلون» هو حاكم لا يعرف شعبه أيضا، وبنعلي الذي علق على إحراق البوعزيزي لنفسه بـ«فليمت»، هو حاكم أيضا لا يعرف شعبه، وقس على ذلك.. فإذا كان جهل الحاكم العربي لشعبه مدخلا لفهم ما يقع من تحولات متسارعة، فإن هذا الجهل بالإنسان لا يشكل استثناء، إذ هو نتاج مناخ ثقافي عام يحتقر العلم والمعرفة ويحتقر الإنسان في المحصلة، لأن الأنظمة التي تهتم بدراسة الإنسان هي نفسها الأنظمة التي تحتفي به، بينما الأنظمة التي تحتقر هذا الإنسان فهي لا تدرسه بل تقمعه من أن يعبر ويعيش تعدد وضعه البشري كإنسان.. من هنا كانت الدراسات المتعلقة بالإنسان، والتي تعرف بالعلوم الإنسانية هي تتويج لعصر حديث يولي أولوية للعقلنة على السحر، والعلم على الأسطورة، و الشعب على الحاكم.. فعندما هبت رياح الأنوار على العقول، وانهارت معها كل مقدسات السياسة والكنيسة والماضي، فقد بدأت معها أيضا تباشير الإنسان...

وفي المغرب لا بد وأن نقف عند مفارقتين: الأولى ستسمح لنا بأن نستنتج اليوم الحاجة إلى جعل العلوم الإنسانية ضمن أولى أولويات برامجنا التكوينية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وهذه المفارقة تتمثل في كون الأنظمة العربية تحكم شعوبا لا تعرفها، والمغرب لا يشكل في هذا الباب استثناء. والمفارقة الثانية هي أن الأبحاث التي قام بها المستعمر الفرنسي والإنجليزي عن المنطقة العربية، أهم من الناحية العلمية من الدراسات الفردية التي تمت بعد استقلال هذه الشعوب العربية.

فمنذ إغلاق المعهد المتخصص في الدراسات الاجتماعية، والذي أسسه الراحل بول باسكون، قررت الدولة آنذاك أنها ليست في حاجة لمعرفة شعبها، فهي تريده كما تشتهيه لا كما هو. لذلك فهي ليست مضطرة لدراسته وفهمه مادام تخويفه طريقا سليما لتنميطه. وهذه الخطوة غير المحسوبة من طرف النظام، كانت نتائجها كارثية في ما بعد، أهمها أن الدولة والأحزاب والنقابات والمجتمع المدني يجهلون تماما الإنسان المغربي، ليس لأن له خصوصية متعالية كما يعتقد العامة والجمهور، بل لأن التحولات التي شهدها المغرب في العهد الجديد، أثبتت أن الدولة المغربية تجهل شعبها، بل ولم تواكب هذه المرحلة أي دراسات مؤسساتية حقيقية، عن الإنسان المغربي الذي ستتوجه إليه مختلف المبادرات. فقد أقدمت الدولة على خطوات مهمة في سبيل إشراك المواطن في مبادرات الإصلاح السياسي والحقوقي والثقافي والتنموي، ولكن المواطن أثبت أنه لا يريد المشاركة، ويفضل بالمقابل التفرج على ما يحدث وانتقاده في نفس الوقت بسلبية كبيرة.

إن الدرس المهم هنا هو أن عدم المعرفة بالتحولات الاجتماعية والنفسية والثقافية التي يعرفها المغرب، يعتبر عائقا اليوم في وجه إدارة التنمية وعائقا أيضا في وجه المحاولات الدؤوبة التي تقوم بها الدولة لإشراك المواطن المغربي في الحياة العامة. فمعرفة العلوم الإنسانية تمكن من فهم التحولات الاجتماعية وإدارتها على نحوٍ أفضل، كما تركز على تحسين الرابط بين الأبحاث وصناعة السياسات، بما في ذلك صياغة أعمال التنمية وعملياتها ومراقبتها وتقييمها، ونشر نتائج الأبحاث وتقديم أفضل الممارسات وتعزيز القدرة على البناء، وهذه الرؤيا غائبة عند الدولة المغربية بشكل مطلق.

المصدر : الأخبار