سبحان الذي جعل حب الأوطان من الإيمان، فالمرء يحب الوطن ومنه المدينة والقرية، ومنطلق هذا الحب حب مسقط الرأس، مثل الحجرة الصغيرة تسقط على الماء، يجعل الأمر نقطة في فلك دائري، عبر دوائر من الصغيرة إلى الأكبر. هكذا يولد الإنسان في نقطة من العالم، يطلعه الوالدين على محيطه شيئا فشيئا إلى أن يسعه العالم. لكنه يريد أن يملك شيئا ذا بال، لذلك العقلاء يحبون أن يلبسوا لباسا حسنا وحذاء حسنا، بصحة جيدة وبركة من العلم، تكفي على الأقل في وعي ذاتي ووعي اجتماعي وفي إدارة الذات وإدارة العلاقات، في وطن الله الآمن من ناحيتي الأمن الغذائي والأمن من الخوف.

أ - فــــراغـــــات وســــط الـــمــــديـــنــــــة:

إن من نعم الله على الإنسان، أن جعل له في الأرض الفجاج وذلك لمصلحته، فماذا لو أعطانا الله تعالى كبشر أرض مستوية كل الاستواء، بلا فجاج تذكر، لجعلناها كلها مضايق مبنية ومزدحمة، هذا الأمر غير منطقي بتاتا، كما هو حاصل في البناء العشوائي. لهذا الفراغات الملاحظة هنا وهناك هي مساحات طبيعية، من أجل التوسعة علينا كبشر يحب الفضاء الشاسع، من جانبي مد البصر والترويح عن النفس، في مساحات خضراء مزدانة بأشجار ونبات وخضرة، وبالتالي تعتبر فسح للوجدان المميز.

هذه الفراغات المتواجدة بوسط المدينة مثل الوادي صلة وصل طبيعية، يمكنها أن تجمع بين ساكنة الأحياء، في مظهر حسن لائق بنا كبشر مجتهد في يوم الزينة أو عند الفسحة، ليصنع على عين المدينة رجال ونساء قادرون على صنع الحياة في دائرة كبيرة، هي تلك المدينة التي نسكن، في نظام وانتظام في كل حي حي، وفي كل منشأة منشأة، وفي كل شبر شبر، ليبقى الخلاء الممتد عناصر مفيدة للإبداعات ولأجيالنا القادمة إن شاء الله.

ب - الـــــتــــــحــــلـــــــي:

يرى الإنسان الواقع ويبصر المستقبل في مسقط رأسه الأول أو الذي ينتفع بخيراته، لأن مسقط الرأس ليس دائما مكان الولادة، فقد عرف البشر الرحلة والانتقال من مكان إلى مكان منذ قدم الزمان، ومع النضج يرى أن الوطن كله مسقط رأس وان حمل له أخبار سارة أو ضارة.

يحب الإنسان التراب الذي يمشي على جادته، ويحب أن يتطهر هذا التراب مثل طهارة نفسه، معنى الطهارة هنا أن ينتقل هذا التراب من المرحلة البدائية، إلى مراحل التنظيم والجمال والاكتمال الذي يوافق التصورات والاهتمامات والتطلعات.

يبقى الحديث ذو شجون، مثلا هل تستطيع أن تقول أن أبناء الرشيدية لا يحبون مدينتهم، بل المقال بالعكس أبناء الرشيدية القاطنون فيها والذين يحنون إليها، يحبون مدينتهم مثل بني البشر في مشارق الأرض والمغارب، ولعلهم يتمثلون قول القائل أي الشاعر: " بلادي بلادي ولو جارت علي"، حب البلاد وإلا فلا ونعم الحب هذا الحب.

وللمتأمل سؤال، نعم الجميع يحب هذه المدينة العزيزة، إنما هل مدخل هذا الحب واحد؟ لا جرم أن المداخل متعددة، قد تفرض عناصر التدخل وسعا أو ضيقا، أو مفروضة بسبب من مصلحة أو شغل، مع أنه من المفروض مباشرة هذه المحبة عن طريق الفكر، أو عن طريق التخطيط أو عن طريق التنفيذ، كل بحسب درجة مسؤوليته أو اهتمامه المفيد بدون محاباة الأغراض والمطامع.

لقد توسعت المدينة شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، وهذا يسر الساكن والناظر، حيث ازدانت بأحياء حديثة، ومنشآت رياضية ومؤسسات اجتماعية وإدارات، وطفقت تدخل عليها بعض الأجيال الجديدة من المنشآت، إضافة إلى الأفكار المحتشمة في مخابئها الإبداعية، إلى حين إخراجها في حيز الواقع لتنفع الناس إن شاء الله.

وهكذا المحبين لا يمكن إلا أن ينطلقوا من نقطة المسقط، مسقط الرأس - وسط المدينة- الذي شغل البال بالمشافهة وبالكتابة وبالنضال اليومي، على اعتبار أن هذه المنطقة العزيزة من المدينة، تستحق أن يفرد لها الوقت والفكر والقلم، لتنجوا من البؤس المحيط بعوالمها، فلا يعقل أن يبقى الوسط قلب كل شيء رهن جيوب خاوية، وهو الوجه الجميل أو القبيح للمدينة، ومن هنا تبدأ عاصمة الإقليم والجهة، في الاقتصاد والإدارة والتجارة والتعليم.

لو طرقت باب مكتب أي مهندس بالمدينة، تسأل عن رأيه العلمي في تصميم وسط المدينة، فان الإجابة تكون تصميمه متميز انطلاقا من تقسيم محكم، بأزقة واسعة ومربعات أو مستطيلات معقولة. في مقابل ذلك ترى أنك تمشي على تراب أو بعض الإسفلت أو بالزليج التي تباينت فيه الأهواء والرغبات، مما جعل المشي يختل ومعه المنظر العام، مع طرق معبدة لمدينة قديمة لا لمدينة حديثة، ولأن الأزقة واسعة بما يكفي لتتطلع إلى السماء فتبهت ناظريك الألوان المتضاربة ، وتضغط تفكيرك الدور الحديثة القليلة إلى جانب القديمة لتقول أي عقلية هذه التي نحن عليها اليوم، في عامنا هذا في قرننا هذا في مدينتنا هذه ، في تجزيء المجزأ وفي دور سقطت أو تريد أن تسقط.

ج - الــــتــــمــــنـــــــي:

والآن إلى الأحلام اللذيذة ولما لا الأحلام الطريق إلى الإبداع والابتكار ، هنا يمكن لأي واحد من الساكنة أن يتحدث بدون حرج، لأنه من أبناء المنطقة الذين يتطلعون إلى مدينة نموذجية بلدة طيبة ورب غفور، هذا ممكن بالإرادة وبالحوار الفكري الموسع الجيد، وبالترافع والإقناع، والتطلع إلى غد خير من اليوم، بداية من بنية تحتية كافية من اتصالات ومواصلات وماء وكهرباء وصرف صحي ونظافة.

فيما يخص الاتصالات - الحمد لله رب العالمين- المغرب عرف نهضة في هذا المرفق الحيوي، أما فيما يتعلق بالمواصلات فالمدينة تحتاج إلى تحديث وتنظيم محكم، وأما فيما يرتبط بالماء والكهرباء فبرامج كافية تغني الساكنة، لكن الصرف الصحي المرفق يحتاج إلى تقوية خصوصا لصرف مياه الأمطار أو تدبيرها، وأما النظافة فتحتاج إلى عمل فكري حثيث، من أجل التأسيس لوعي يأخذ بحكمة أن ما يضر غيري يضرني، لا من واقع القيم والشيم والأخلاق فحسب، ولكن كذلك من منطلق العدوى لا قدر الله، ومن أجل المنظر العام الحسن، وحتى لا يعاب على المواطن ما يعيبه على الآخرين حين يكونون مسئولون، فهذا الأمر من مسؤولياته الخاصة والعامة.

والآن ماذا لو أن المتدخلين والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعين وسكان المدينة، انتبهوا إلى أن وسط المدينة هو وجه الجميع وشرف الجميع، وأنه يستحق أن يبدو في حلة قشيبة، تبقى فيه البنايات الكبيرة الحديثة والبنايات المتوسطة الحديثة، وما تبقى يرمى على الأرض، من أجل رفع أعمدته من جديد في طراز حديث واسع، بتصاميم جيدة بتعاون مع الساكنة، فنربح وسط مدينة قائدا جميلا وقادرا، يصبح النموذج المثالي لباقي أطراف المدينة، في جمع شمل صفوفها ومرافقها وبناياتها وأحيائها، لنتوفر على أحياء ببداية أشغال ونهاية أشغال ومدينة مكتملة بقلب نابض.