قضيت بعض الوقت، مساء يوم الأحد الفاتح من شهر مارس من العام 2015، بمقبرة كانت أثارت انتباهي منذ مدة، مقبرة (باليث)، نسبة إلى قبيلة (باليث) المصمودية.

ولقد ساعدتني الزيارات الميدانية التي قمت بها إلى إقليم زاگورة، مؤخرا، على اكتشاف بعض الحقائق، من ذلك مثلا استمرار ثقافة (المنهير) برحاب الدفن الأمازيغي المصمودي.

فكان أن انتقلت مباشرة إلى موضع (باليث) للمرة الثانية. ذلك أنه لما حصل أن تبينت من إحدى الدراسات أن قبيلة باليث كانت تقطن بمنطقة تادلة وهاجرت إلى منطقة سجلماسة اتجهت نحو موضع (باليث)، وتبينت من كثرة عدد القبور، فكان الظن غالبا، أن تكون (باليث) قبيلة استوطنت أعالي زيز، على بعد 18 كيلومترا غرب الريش، ولا بيان عن انتقالها إلى أحواز سجلماسة، وإن كان حوض زيز الأعلى امتدادا لتلك الأحواز. وقد تكون القبيلة تعرضت للإبادة بعد انهيار الدولة الموحدية، وتعرضت لبعض المضايقات بعد عودة العنصر الصنهاجي لاستيطان المنطقة. ولقد تمكنت باليث من مقاومة الضيق لأن التحولات الإثنوغرافية جعلتها تقع بجانب الدرع البشري من الأقليات العرقية العازلة بين نطاق أيت يزدك، ونطاق أيت مرغاد، ونطاق أيت حديدو. ويتكون الدرع البشري العازل المذكور من ثلاث قرى، كفاي (أكفاي)، وزاوية سيدي بوكيل، وتابية، و(باليث). ولقد عدت إلى المقبرة ثانية، وإن كنت لم أقم بمسح دقيق لها، لأن أناسا أعرفهم أقلقوا راحتي بنظراتهم عن بعد، وأنا آخذ صور المقبرة. تتكون مقبرة (باليث) من جزأين: جزء قديم، مجاور لموضع البناء، وجزء حديث، نوعا ما. وفي الجزء القديم، ألفيت دليلا قاطعا على وجود (المنهر)، ويشبه وضع هذه المقبرة، إلى حد بعيد، وضع ثلة من المقابر بإقليم زاكورة. ففي وسط المقبرة الجنوبية، وهي مقبرة قديمة، بيان المنهر (انظر الصورة)، ومعنى ذلك أن مدافن التومولي قائمة، وأن موضع التمولي بزاوية سيدي بوكيل يبين من حيث الطومونيميا انتشار ثقافة تقدير القبور، وتقدير الموتى (الدرودويزم) بالمنطقة، وهي ثقافة تمتد إلى درعة (درا)، وكير، والساورة. ولاحظت أن سكان (باليث) يسافرون لجلب صخر الأردواز (يسمى بالأمازيغية أسول) لمعلمة القبور على شاكلة النمط السجلماسي في الدفن، وهو صخر قليل بجبال الأطلس الكبير الشرقي.

ومعنى ذلك، أن اختيار صخر الأردواز ثقافة تكاد تكون عامة في الأوساط المصمودية، والمتأثرة بمصمودة، وهل لذلك صلة بكون الحضارة الموحدية تنزع نحو التحصين الرمزي الذي تعكسه العبارة (أسوارنا سيوفنا)، أم التحصين المادي لما عادوا إلى الأسوار، والاعتناء بها؟ وفي جميع الأحوال، نحن هنا أمام التجانس بين تاريخ الأرض، وتاريخ الإنسان في علاقته بالصخر، كما استنتج السيد رئيس المجلس الإقليمي للسياحة بزاكورة، في نقاش جرى بيني وبينه، حول أهمية ثقافة الدفن بإقليم زاكورة، يوما ما. ولا ينفي ذلك أن سكان (باليث) يوظفون ألواح صخر الكلس في سقف القبور، مما جعل بساط الدفن محصنا. ولقد قاومت مقبرة (باليث) الدهر وظلت صامدة إلى اليوم.

ومما تمتاز به تلك مقبرة، أنها لم تستورد جثة للتبرك بها في ثقافة الدفن، لذا باتت خالية من أي ضريح، أو تأثير طرقي، أو قبة مميزة، فكانت اللحود متساوية يضاهي بعضها بعضا.