يعد موضوع التطرف/ العنف/ الإرهاب.. من أهم المواضيع التي تثير اهتمام الناس على مختلف مشاربهم الدينية والفكرية والاجتماعية، وذلك بسبب انتشار هذه الظاهرة في العالم، وهناك عدة عوامل مباشرة وغير مباشرة دخيلة وداخلية ساهمت بشكل أو بآخر في بروز هذه الظاهرة المرضية ولعلنا نلمس جوانب منها في ثنايا هذه القراءة النقدية المقتضبة.

قراءة نقدية للفكر والخطاب التغريبي المتطرف:

إنه ومنذ أن أشرق نور الإسلام على وجه البسيطة وخصوصا في الآونة الأخيرة مع بروز مظاهر الصحوة الإسلامية وتأثيرها في المنعطف الجديد لحركة التاريخ تعرض الإسلام والمسلمون لحملة شرسة سببها أنه هو العدو الجديد الذي ينبغي محاربته، واستغل المغرضون بعض التصرفات المتطرفة الشاذة في بعض بقاع العالم الإسلامي وغيره، محاولين تعميمها على الأمة الإسلامية كلها، بل ويعمد بعض المتغربين إلى اتهام النص الديني الإسلامي الإلهي المصدر على أنه محور الظاهرة التطرفية العنفية، ويتجلى ذلك على سبيل المثال في كتابات الأستاذ نبيل عبد الفتاح كـ"المصحف والسيف"، أو "النص والرصاص" وهذا الأخير يفصح فيه كاتبه عن ارتباط وثيق بين المعرفة والأيديولوجيا، عندما يجعل من العنف بنية داخل الخطاب الإسلامي، وعلاقة متعدية من النص إلى الرصاص، ويعبر أحدهم عن ذلك أيضا بقوله: "إذا كان الإسلام دينا بريئا من كل النعوت السلبية وليس فيه مشكل في حد ذاته، فأين يكمن المشكل إذن؟، ما دام المسلمون يبررون كل مشاكلهم مع العالم ومع بعضهم البعض وكل أخطائهم انطلاقا من الدين ومن نصوصه" وذلك في سياق حديثه عن ما يسمونه بالإسلاموفوبيا، أنظر مقال: "أسئلة الإسلام الصعبة، للأستاذ أحمد عصيد".

وهذه الإفتراءات وغيرها هي بمثابة إحالة إلى خطاب إستشراقي سائد يرى أن الدين الإسلامي هو دين التطرف والعنف والسيف، بمعنى أن التطرف والعنف يمثل بنية داخل الخطاب الإسلامي وبشتى فروعه كما سبق أن قلنا، أو أن التطرف والعنف يمثل جرثومة داخل الخطاب الإسلامي، وإنني أدرك يقينا أن الجهل بحقائق الإسلام يقف وراء هذه الإفتراءات، فمن جهل شيئا عاداه، وهذا الذي دفع المفكر الهولندي الكبير المنصف "أدريان رولاند hadrian reland " أن يقول في كتابه "الإسلام": "إن أغلبية الأديان قد وصفها أعداؤها بشكل سيئ. وكل الأديان فهمت بشكل خاطئ، ومن ثم تعامل معها أعداؤها بشكل خاطئ أيضا، ولذلك يجب ألا نندهش إذا حدث الشيء نفسه مع الإسلام".

وممن تصدى أيضا لهذه الإساءات المغرضة المستشرقة الألمانية سيغريد هونكه sigrid hunke والتي قالت في كتابها "فضل العرب على أوروبا": "إن هذه النظرة الأوربية للعرب والمسلمين تدل على ضيق الأفق وعدم الرغبة في الاعتراف بفضلهم عليهم وعلى العالم الذي نعيش فيه".

ويمكننا القول أن هذا التوجه الفكري والخطاب التغريبي الأيديولوجي الإستشراقي المسيء للدين الإسلامي وللأمة الإسلامية عامة يعتبر بدوره مظهرا من مظاهر التطرف بالمعنى العام وتجليا من تجلياته.

الإسلام دين الوسطية والاعتدال بلا منازع

فالله عز وجل يقول: "قل لله المشرق والمغرب، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"، [سورة البقرة].

فالإسلام دين الإله الواحد الأحد وهو الصراط المستقيم ومن خصائصه الوسطية والاعتدال، وهو الذي دعا إليه الرسول محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه إذ أرسله الله رحمة للعالمين، ويعرف من القرآن والسنة الصحيحة الثابتة المعتمدة عند علماء نقد الروايات، وهو بهذا المعنى هداية كاملة للإنسان والناس، فالله عز وجل جعله دينا كاملا وشاملا بحيث لا توجد قضية من قضايا الوجود إلا وقد بين حكمها فيه سواء في ذلك شؤون العقيدة أو العبادة أو السياسة، أو الاجتماع أو الاقتصاد، أو الحرب أو السلم أو التشريع إلى آخر ما يتصوره الإنسان من شؤون الإنسان، وما لا يعرف من القرآن والسنة صراحة يعرف استنباطا يعرفه مجتهدوا الأمة الإسلامية المؤهلون المشهود لهم بالأهلية وليس كل من هب ودب.

وهذا التصور للخطاب الإسلامي ليس تصورا سلبيا يعيش في عالم الضمير، قانعا بوجوده هناك في صورة مثالية نظرية، أو تصوفية روحانية شطحية مخرقية، أو خلاص فردي بالمفهوم الكنسي..إنما هو تصميم لواقع مطلوب إنشاءه وفق هذا التصميم، وهو شامل يفسر الجوانب الأساسية في علاقة الإنسان بالإله الخالق، والإنسان بغيره من البشر في الكون، ويتصدى الخطاب الإسلامي الوسطي المعتدل في الوقت ذاته لتنظيم جميع أوجه النشاط الإنساني في دائرة من التوازن بين المادة والروح، وفي دائرة كلية سيمياؤها الرحمة والتسامح والحب بما هو شريعة ربانية سمحة، وهو طريقة للحياة تسعى للتواصل والاتصال مع الجميع، فجذر كلمة الإسلام هو السلام والطمأنينة والإستسلام، والإسلام بهذا المعنى هو الذي يحقق مفهوم العبودية للإله الحق مع اتزان حقيقي بين الجسم والعقل، والإسلام بهذا المعنى هو دين جميع الأنبياء والرسل. ولذلك فالإسلام بكل هذه المعاني كما قال المؤرخ العالمي "أرلوند توينبي" في الجزء الخامس من قصة (الحضارة): "فاجأ العالم بمبادئ سامية رأى فيها الناس إنقاذا للبشرية المعذبة، ففي الوقت الذي كان فيه الملوك والحكام سادة أو آلهة، وكانت الشعوب عبيدا لهم، في هذا الوقت ظهر النبي محمد على الناس بمبدأ المساواة بين الحاكم والمحكوم، والملك والسوقة، وفي الوقت الذي كانت أقوال الملوك وأفعالهم هي القانون وهي العدالة، إذ بالإسلام يأتي بقانونه السماوي فيخضع له العظيم والحقير".

وهذا هو الإسلام الحضاري الوسطي المعتدل الذي ننشده وندعو إليه وهو كما قال الأستاذ الباحث محمد عيسى ليس بدين جديد أو مذهب أو طائفة أو محاولة لتلميع الإسلام أو ترقيقه، وليس صيغة للاعتذار للغرب عما يسمى بالتهديد الإسلامي، وإنما هو الإسلام المدني الذي مارسه النبي محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضي الله عنهم فهو إحياء وتجديد لمفهوم قديم يستمد ثوابته من تعاليم الإسلام ويسعى لحل مشاكل الأمة بكفاءة وفاعلية، بفتح باب الإجتهاد في وجه العلماء به، والارتباط بآخر ما توصلت له أنماط التنمية الحديثة، مع إعادة النظر فيها وفي منهجها بطريقة نقدية لتصبح أكثر توازنا وشمولا.

وكل ما ذكرناه عن الإسلام دين الله رب العالمين يعتبر من بين حقائقه الناصعة، كالشمس في ضحاها، ومع ذلك فإن هناك من يغمض عينه عنها، ويحاول جاهدا وبكل سفاقة وجه إغماض عيون الآخرين.

رؤية نقدية ة للفكر الإسلامي المتطرف:

مع أن حقائق الدين الإسلامي واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، إلا أننا نقول أن رقراءتنا النقدية للفكر الإسلامي المتطرف أو الغلو الديني داخل المنظومة الفكرية الإسلامية، لا تدخل أبدا من وجهة نظري في جلد الذات ولا تتدرج في خلة الاصطياف مع أعداء الأمة الإسلامية، الذين تفرغوا للتشويه والتحريف والاستعداء، من أجل إفقاد الأمة ثقتها بالذات، وإخراجها من حركة التاريخ، ودفعها بعيدا عن مسار استعادة المبادرة، بل إنها تدخل ضمن ممارسة فضيلة النقد الذاتي بحكم الانتماء لهذه الأمة الإسلامية المباركة، و"محاولة لوضع لبنة في علاج هذا الداء الذي استعصى على الأمة اليوم، بل ويتهددها بمزيد من التوسع والتأزم، إذ تتداخل فيه خيوط ما هو ثقافي وسياسي، بما هو محلي وخارجي، بل وأيضا بما هو قديم وحديث، فمعضلة التطرف من تليد تراثنا السلبي، الذي نكابده كما نكابد السلبي الدخيل، كما قال الدكتور أبو زيد المقرئ الإدريسي". وهذه أيضا كما قلت حقيقة لا ننكرها ولا نحاول أن نخفيها أو نتغاضى عنها بقدر ما نحاول نقدها ومعاجتها.

فتأسيسا على ما تقدم أصبح الإنسان المسلم داخل المجتمع الإسلامي بين ناري المتطرفين المغالين والمتهتكين، وسفينة النجاة هي وسطية دعا إليها الإسلام، واعتدال أمرت به شريعته السمحة كما بينا جانبا منها سابقا، وإذا كانت مستوردات مدنية الغرب قد أنتجت أجيالا لا يرقى تفكيرها إلى ما فوق عالم الأشياء والمادة والشهوة مما عطل التفكير، وأوقع في حالة فساد باتت تهدد بنية المجتمع في حضارته وقيمه، فإن التطرف الديني كذلك ــ وهو عادة يحصل بعد توتر وانفعال ــ يؤدي إلى شلل التفكير عند أصحابه، والمتطرف الذي شل تفكيره الموضوعي في حالة الانفعال هذه تبدر منه تصرفات تسيء إلى جوهر الدين الحنيف.

و بالرجوع إلى تراثنا الإسلامي نجد أن فرقة الخوارج كما هو معلوم ومدون عند مؤرخي الفرق الإسلامية، والملل والنحل، وكتاب التاريخ الإسلامي هي أول الحركات الفكرية الإسلامية المتطرفة، الخارجة عن مفهوم الأمة الإسلامية المتسمة بمنهج الوسطية والاعتدال، وتعود نشأة الخوارج إلى الحرب التي قامت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما فيما يعرف بموقعة صفين، قال الإمام الشهرستاني: "اعلم أن أول من خرج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه جماعة ممن كان معه في حرب صفين".

والباحث في تاريخ هذه الفرقة المتطرفة الغالية يلاحظ عدة صفات إتصف بها أتباع هذه الفرقة منها:

1ــ : الغلو في الدين: فقد تجاوزوا حد الاعتدال إلى درجة الغلو والتشدد، حيث قادهم هذا التشدد إلى مخالفة قواعد الإسلام بما تمليه عليهم عقولهم، كالقول بتكفير صاحب الكبيرة، بل تجاوزوا الحكم بتكفيره إلى استباحة دماء مخالفيهم، ومنهم من استباح قتل النساء والأطفال من مخالفيه كالأزارقة مثلا.

2 ــ : الجهل بالدين: إن من كبرى آفات الخوارج صفة الجهل بالقرآن والسنة، وسوء فهمهم وقلة تدبرهم وتعقلهم، وعدم إنزال النصوص منازلها الصحيحة، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يراهم شرار خلق الله، وقال: "إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين"، وقال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه "منهاج السنة": "هم جهال فارقوا السنة والجماعة عن جهل".

3 ــ : سوء الظن: وقصة ذو الخويصرة وسوء ظنه وأدبه مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم لخير دليل على ذلك، فإذا أساؤوا الظن بخير خلق الله صلى الله عليه وسلم فكيف بمن دونه.

4 ــ: الطعن والتضليل: من أبرز صفات الخوارج الطعن في أئمة الهدى وعلماء الأمة وتضليلهم والحكم عليهم بالخروج عن العدل والصواب.

5 ــ: الشدة على المسلمين: فقد كانوا يعانون من إنغلاق في أفق الفكر، وغلظة في الطبع، وقسوة في معالجة الأمور، وتعصب لما يرون، وقد بلغت شدتهم حدا فظيعا، فاستحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ولقد سجل التاريخ صحائف سوداء للخوارج في هذا السبيل، وما قصة عبد الله بن خباب ومقتله عنا ببعيد.

فهذه بعض الصفات التي اشتهر بها الفكر الخارجي المتطرف، ويمكن للقارئ أن ينظر في كتاب:"فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة" للدكتور محمد علي الصلابي ففيه تفصيلات لهذه الصفات، وهي إجمالا كالتالي: الغلو في الدين والجهل به، وسوء الظن بالناس والطعن والتضليل في أئمة الهدى والعلماء، والشدة على المسلمين، وهذه الصفات هي نفسها التي انتشرت وتنتشر في القليل من بقاع العالم الإسلامي وفي بعض شرائح المجتمعات الإسلامية قديما وإلى اليوم، ويمكن أن نضيف إليها اليوم أسبابا أخرى تساهم في تنامي هذه الظاهرة واتساعها وهي على سبيل المثال لا الحصر: الاستعمار الغربي والأمريكي الثقافي والعسكري، المسئولون والحكومات، الفقر والبطالة، الحق المسلوب، قمع الحريات وتوليد العنف، الإعلام وصناعة التطرف، الأطر الحركية المتعصبة وصناعة الإرهاب، وتشكل كل هذه الأسباب ظواهر تطرف وغلو وغالبا ما تتستر بالدين، وقد يظهر أصحابها على أنهم المدافعون دون سواهم عن شرع الله عز وجل وشرع الله بريء من تلك الممارسات، وقد اعتبر الدكتور سعد السحمراني في كتابه "التطرف والمتطرفون" أن من بين أسباب انتشار الظاهرة أيضا ما انتشر في بلادنا من عدوان على القيم، وضرب للأخلاق واستفحال للفساد والانحلال، مما أوقع آخرين تحت تأثير ردة الفعل لمواجهة هذا الغزو الثقافي الوافد.

على سبيل الختام

وربما المكان لا يتسع لذكر وتفصيل سبل العلاج وهي بحمد الله كثيرة، من أجل المساهمة في الحد من تنامي هذه الظاهرة المرضية والوقوف بمقترحات علمية وعملية أمام استفحالها واستشرائها، إلا أنني أعتقد أن تشخيص الداء نصف الدواء، وسفينة النجاة من ذلك عموما هي وسطية دعا إليها الإسلام، واعتدال أمرت به شريعته السمحة كما قررنا سالفا، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

ويمكن أن أحيل القارئ الكريم إلى المراجع التي ذكرت في ثنايا المقال وغيرها، فقد تحدث فيها كتابها بما فيه الكفاية عن ذلك، ويمكن أن نفرد مقالا ملحقا إن شاء الله تعالى للحديث عن سبل العلاج والمقترحات الممكنة.