لحسن ايت الفقيه - تنغير / جديد انفو
تصادف المناسبة أجواء حلول السنة الأمازيغية، وكان الحدث تنظيم محاضرة اختيرت لها سمة «من أجل مغرب مبادر وفاعل في محيطه الإقليمي والدولي...»، حضر لتنشيطها الأستاذ حسن أوريد، مساء يوم السبت 09 من شهر يناير من العام 2016، بمنبسط تاماسينت، شمال شرق مدينة تنغير، غير بعيد عن الانكسار الأطلسي الجنوبي الذي يحد جبال الأطلس الكبير. دعي الأستاذ حسن أوريد ليغذي أكثر من 400 متعطش قدموا من ورزازات والرشيدية، فضلا عن سكان إقليم تنغير، أيت عطا، وأيت تودغت، وأيت سنان وأيت يزدك، وأيت مرغاد، وايت حمو، وأيت سدرات، وإمكون، وأقليات عرقية. وكان وراء المقام الشبيبة الاشتراكية، فرع تنغير، التي اهتدت إلى تنظيم ما يليق بالمقام، وبذلت جهودا لتوفير الإمكانيات بتنسيق مع جمعية أمور للثقافة الأمازيغية، التي مقرها بمكناس. وحصل أن ناسب المقام مقال فرض ملامسة موضوع كاد أن يحوس جميع الصناعات، بتعبير القدماء، التاريخ، والفلسفة، والقانون، وحقوق الإنسان، والسياسة، والثقافة الأمازيغية، والتقاليد الشفاهية. فمعذرة إلى الشبيبة الاشتراكية فرع تينغير التي تستوجب الثناء الجميل والشكر الجزيل، لأن الإكراه المنهجي يقضي بذل جهد لإعادة إنشاء مضمون المحاضرة، بدون حواشٍ، مقدمات وتعاليق، مع أمل العودة إلى تقييم القاعة بما هي تغني الموضوع ، تقديرا لآراء المشاركين.
والأستاذ حسن أوريد ابن الجنوب الشرقي المغربي، ينحدر من إقليم الرشيدية، ومتشبع بالثقافة الأمازيغية، وأحد العارفين بالتقاليد الشفاهية، وأحد الفقهاء في القيم الثقافية. كان يستحوذ عليه حب المنطقة، وهي جزء من ذاكرته، وتكاد أن تشكل جزءا من وجدانه.
نحاول في هذه التغطية أن ننشيء نصا اعتماد على الأذن، ومعذرة للأستاذ حسن أوريد، وللقراء فقد حصل، في بعض الأحيان ضعف الالتقاط، مما ينقص شيئا من المحاضرة التي رفض الأستاذ حسن أوريد أن يسميها محاضرة: «لم آت إليكم لإلقاء محاضرة جئت، أساسا، لأشارككم الفكر والحوار من أجل – ملامسة – قضايا تهم بلادنا والمنطقة. إننا نؤمن بشيء أساسي، هو التحديث، في ظل الاستقرار: أن يتقدم المغرب في المسار التحديثي الذي حقق فيه تراكمات». ولا غرو، «فإن التجارب ذات الفائدة انتهت بمآسي، لا مجال للحديث عنها. فلا بد، إذن، من التأسيس على التراكمات. جئت للحديث في المآل والآمل التي تحملها الشبيبة، وفعاليات المجتمع المدني، والقوى الحية»، دون إغفال أخطار يمكن أن تنجم. وكما سلف للذين افتتحوا وقائع المحفل [سنعود إليهم وإلى كل المداخلات لاحقا]: «فالقاسم المشترك بيننا، أننا نؤمن بشيء أساسي، التحديث في ظل الاستقرار. فلا خيار بالنسبة للمغرب، في الوقت الراهن إلا أن يتقدم في المسار التحديثي الذي بدأ منذ عقود وحقق فيه تراكمات.. ولقد ثبت في التاريخ أن التجارب الناجحة انبثقت في تراكمات وليس قطائع [جمع قطيعة]. ذلك أن التجارب ذات القطائع –فاشلة- انتهت بمآسي، ولا حاجة إلى الاستشهاد بأمثلة». فالمناسبة كما سبق أن أشير إليه «السنة الأمازيغية، وهي طقس قديم كان أجدادنا يحتفلون به. يجتمعون على وجبة طعام من الكسكس (سكسكو) حاوية سبعة أنواع من الخضر [تسمى بالأمازيغية سبْع خْضر]». وكما كان « آباؤنا يجتمعون على هذا الطقس ، يجب أن نجتمع على قضية تجمعنا، يجب أن نجتمع على عظمة بلادنا، ونجاحها، والاحتفال ليس غاية في ذاته. ولئن كنا نحتفل بمجموعة من الطقوس يجب أن نفهم معناها – معنى هذه الطقوس- يجب أن نجتمع طمعا في ملامسة قضية تحقيق تقدم استقرار بلادنا».
«أستسمحكم سأعود إلى ما سلف ذكره أن الدول الناجحة تقوم على التراكم، واحترام شبابها»، لذلك ود الأستاذ حسن أوريد أن يحييَ، من منبره شخصيتين غادرتا الحياة مؤخرا. حياهما انحناء لهما تعبيرا عن التقدير والتكريم:
- الشخصية الأولى، فاطمة المرنيسي التي توفيت قبل 40 يوما، «وقدمت خدمات جليلة في قضية المرأة، وهي شخصية معروفة على الصعيد العالمي...امرأة متميزة فهمت دور المرأة في تقدم المجتمعات. كانت اشتغلت على وضع النساء، في المدن وفي القرى. اشتغلت في تازناخت [اشتغلت بالأطلس الكبير لدى أيت إكتل وغيرهم] واستفادت من تجربتها، وألفت كتابا مهما للغاية سمته (Ait débrouilles). وأدركت أن هناك قيما مهمة جدا في مجتمعاتنا. وفهمت أن المغرب بلد متعدد، وأن جذور المغرب أمازيغ. ومن الأشياء التي تعترف بها أنها كانت تلميذة لشخصية متميزة والبارزة شخصية السيد محمد شفيق». لذلك « باسمكم أنحني إجلالا لذاكرة فاطمة المرنيسي».
- الشخصية الثانية حسين أيت احمد: «أنحني إجلالا لهذه الشخصية المغاربية، وقد كان له وعي بالمصير المشترك» لبلاد المغارب. وللإشارة فإن «الحسين أيت أحمد شخصية متميزة، فهم أن المنظومة الاستعمارية محتقرة [بكسر الراء لأنه اسم فاعل]، وليس هناك حل آخر للحصول على الكرامة، وصونها، سوى العمل السياسي. لذلك انخرط في حرب التحرير الجزائرية. وكان، فوق ذلك، من الشخصيات التي دافعت عن التعدد في بلاده [وفي بلاد المغارب]. ويعنينا أنه ظل دواما يؤمن بالعلاقات القديمة والراسخة بين الشعوب المغاربية. وكان دائما يقدر المغرب قيادة وشعبا». ولم يغفل الأستاذ حسن أوريد، لما وقف عند خصل الفقيد حسين أيت أحمد، بما هو يعرفه شخصيا، أن يشير إلى أنه «معروف بنزاهته الفكرية». ولم يتردد الأستاذ حسن أوريد في إيراد بعض الاستشهاد في حق الشخصية المذكورة، من ذلك ما جرى في الندوة التي شارك فيها، في أنتين2 (Antenne2)، كان «موضوعها اختطاف الطائرة المغربية التي كانت تنقل القادة التاريخين الجزائريين، وهو منهم [وهو حاضر معهم]. وكما هو معروف كان المرحوم محمد الخامس أعطى الطائرة للقادة الجزائريين لتنقلهم إلى تونس، وجرى تحويلها [تحت وقع الاختطاف] إلى فرنسا. سأله صحافي: ألم يكن المغرب تورط في عملية الاختطاف؟ أجاب الفقيد الحسين أيت أحمد بحدة، بأن شهامة الملك محمد الخامس تتنافى كلية أن يكون متواطئا في هذه المؤامرة، ولقد كان الملك محمد الخامس رجل مبدأ...». وباختصار بات حسين أيت أحمد، في تقدير الأستاذ حسن أوريد، يجسد مواقف إيجابية مما يستلزم «الإقرار بنزاهته ورؤيته، وبإيمانه الراسخ بالوشائج الراسخة بين الشعبين المغربي والجزائري، الوشائج التي تتجاوز كل العراقيل وكل المؤامرات».
عاد الأستاذ حسن أوريد إلى موضوع محاضرته التي خالها حوارا مفتوحا «وليس حوارا أكاديميا. ومادمنا في تنغير بالجنوب الشرقي ذي تاريخ عريق، وخصوصية لزم أن نقرأ صفحات من تاريخ الجنوب الشرقي. وسأقرأ معكم صفحة تحمل دلالة عميقة للغاية.. ولا معنى للتاريخ، إن اقتصر على سرد المعطيات، أي: إذا لم نستخلص منه بعض الدروس فإنه لن يفيدنا. وإنه من الأساسي أن نستخلص التجربة والدروس من التاريخ»، كانت تتعلق بما جرى في القرن التاسع عشر «وكلنا يعرف أنه جرى احتلال الجزائر [سنة 1830]، ومنذ وقتها، نشأت فرنسا تتقدم صوب الصحراء بالجنوب الشرقي المغربي. انطلقت المقاومة بانخراط ايت خباش تافيلالت وبني امحمد، كلهم هرعوا للدفاع عن إخوانهم باسم الجهاد والدفاع عن الإسلام، وباسم العلاقة التي تربطهم... وجرى أن مات بعضهم، واجتمع ايت خباش [أحد أبطن أيت عطا] وبني امحماد واستقر رأيهم على بناء قصر الطاوس، لا أقصد الطاوس الكائن قرب مرزوگة، وإني أقصد الطاوس قرب قصر بوذنيب، وأعملت القبائل آصرة القرابة وجسدوها، منها قبائل تتكلم الأمازيغية وأخرى تتكلم العربية، مادامت تجمع بينها قضية. إذن لا بد من استحضار بعض الصفحات وبعض الدروس».
وبعد الاستشهاد بموقف بناء قصر الطاووس قرب بوذنيب في رواية تاريخية سنعود إليها في مناسبة أخرى، إذ أن بناء قصر الطاوس يعود إلى مقتل بو المعطي من قصر والذي صاحبه تهديدات أيت سغروشن، وقد ورد تعقيب في إحدى المداخلات على ذلك. وفي جميع الأحوال كان الأستاذ حسن أوريد يبتغي تقديم [تفرگانت] الأمازيغية، أي: اجتماع الناس حول قضية (اجتماع أيت خباش الذين يتكلمون الأمازيغية مع بني امحماد الذين يتكلمون الدارجة). وعاد الأستاذ المحاضر ليربط « الاحتفال بالسنة الأمازيغية [اقترانه في الزمان بمناسبة تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال ليشير أنه]، من اللازم استحضار – أيضا- بعض الصفحات من التاريخ، والدروس، التي من الممكن استخلاصها، من بين تلك الصفحات استحضار مناسبة وطنية مهمة في تاريخنا، عريضة المطالبة بالاستقلال، التي وراءها مجموعة من الوطنيين المتأثرين بالشرق، وكانت لهم شجاعة، رغم ظروف الاستعمار، [فأقدموا] على تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال. وإنه لشيء مهم للغاية. إلا أن هذه الوثيقة تدعو إلى الارتباط بالشرق، والاستفادة من الشرق ومن تجربته. ومن حقنا، بل من واجبنا، أن نتساءل، ونحن مستقلون ولدينا قضايا أخرى: هل يجوز أن نرتبط بالشرق؟ يجب أن نطرح هذا السؤال، وقد سلف طرحه، قبل شهرين من الزمان، بمناسبة الذكرى الخمسين لاختطاف الزعيم المهدي بنبركة، ولا شك أنكم تتبعتم ذلك الاحتفال ومجرياته، ووقائعه في الصحافة، وفي مواقع الأنترنيت، وتبينتم من ملابسات الاحتفال الذي فتح المجال أمام مجموعة من الفاعلين ليقفوا من أجل التفكير أمام تصور جديد. لذلك فإننا هنا لنفكر جميعا في تصور جديد لصالح المغرب، ولا بد من الوقوف جميعا للتفكير في تصور جديد لصالح المغرب. فمنذ مدة طويلة ونحن نتأثر، أو إن جزءا مهما من النخبة السياسية تتأثر، بالأفكار القادمة من الشرق. وقد يكون ذلك مفهوما في سياق كما كان أثناء الاستعمار. ولكن من حقنا أن نتساءل: هل يمكن أن نظل مرتبطين بالشرق؟ وهل من مصلحتنا أن نظل مرتبطين بالشرق؟ وكما تعلمون فالسياسة، لكي تكون ذات جدوى، وجب الارتباط بمرجعية، وإلا فهي عمل موسمي. فالأشياء التي يمكن أن نعطيها...... [كلمة غير مسموعة جيدا ربما (مثالا)]، في الارتباط بالشرق الحركة الوطنية المتأثرة بما يجري في الشرق العربي سواء بشكلها المحافظ أو بشكلها التقدمي المرتبط بالقومية. وبدون شك فالنكسة التي منيت بها القومية انعكست كذلك على الاتجاهات التي كانت مرتبطة بالقومية العربية، حيث ظهرت، فيما بعد، اتجاهات أخرى رفعت شعار الإسلام ورايته، أو قراءة الإسلام... [كلمة غير مسموعة جيدا] إن لم يكن توظيف الإسلام من أجل أغراض سياسية. وعقب ذلك، وفي الأوان التي عقبت سنة 1967 تمكّن [من التمكين] الإخوان المسلمون. وتعود حركة الإخوان المسلمين إلى سنة 1927.[أقول] إن هزيمة سنة 1967 أعطت قوة جديدة في اتجاهات الإخوان المسلمين في مصر، ولكن، في الغالب، في دول العالم العربي. ويمكن أن نقف كذلك على شكل من أشكال المنظومة الفكرية والإيديولوجية التي أثرت في المنطقة، وهي الوهابية، كذلك، [نقف عليها] وبالأخص مع ظفرة البترول، حيث توافرت الوسائل المادية التي أصبحت لفائدة الاتجاهات الوهابية التي لم تكتف فقط بتطبيقها في بلدها، بل في نشرها في العالم الإسلامي. وهي نقطة أساسية لأنها أثرت على بيئتنا. ذلك أن مجموعة من الطلبة والأساتذة تأثروا بالوهابية، وجرى استيعابهم بإغراءات مادية. وإن بعضا من هؤلاء حصل تجنيده يوم اجتاحت الاتحاد السوفيتي أفغانستان. ويمكن استحضار كذلك الثورة الإيرانية منذ سنة 1979ولكن بشكل أقل.
إنها مجموعة من الأفكار أثرت في نخبنا المثقفة والسياسية وكلها آتية من الشرق. ورغم اندحار القومية العربية، وانبعاث الحركة الإسلامية، فإن هناك أوجه التلاقي من حيث الأهداف. لذلك نقرأ، في المغرب، مثلا، أن البعض بات ينادي بما يسمى الكتلة التاريخية، أي: الأحزاب المنبثقة من الحركة الوطنية والحركة الإسلامية، والأحزاب المنبثقة من هذه الاتجاهات. سمعنا في الأسابيع المنصرمة من كان يدعو إلى الكتلة التاريخية، وذاك يسائلنا: فمادامت الفكرة ظهرت في إيطاليا، وهي لصاحبها المفكر والفيلسوف كرامشي، الذي نادى بالتفاف الأحزاب ضد المنظومة المعادية الفاشية. ولكن ضمن منظومة الفاشية. والذين ينادون بإنشاء الكتلة التاريخية في بلادنا لم يفصحوا بعد عمن تكون ضدها. فكرامشي واضح في تحديد غاية إنشاء الكتلة التاريخية، فهي ضد الفاشية.
وفي جميع الأحوال، هل يمكن لأمة لها تاريخ أن تظل عالة على الشرق من حيث الفكر؟ قد لا تكون المنظومة المستوردة لا تتطابق ومصالح هذا البلد، هذا سؤال. وهل يمكن أن نظل دوما عالة على ما يأتينا من الشرق، إن في صيغته القومية أو في صيغته الإسلامية؟ أليس هناك بديل الذي هو الانفتاح على الكونية؟. نحن في حياتنا العادية العامة نخضع للمنظومة الكونية، في السياسة، وفي الإدارة، وفي قضايا الإنتاج المادي. ولماذا لا نرتبط بالمنظومة الكونية من حيث القيم؟ إن الفلسفة والأفكار التي تنبث من تربتها ومن أبنائها قابلية للنجاح. ولقد نجحت ألمانيا لأنها استوحت أفكارا نابعة من تربتها ومن أبنائها، وكان أن استفادت من تجارب فرنسا وبريطانيا دون الاقتداء بهما أو على عليهما، واليابان نفس الشيء. وفي تاريخ المغرب يتبين أن العصر الذهبي للمغرب لما كان مستقلا سياسيا وثقافيا، وقد دفعه ذلك، أحيانا بل في الغالب، إلى التضحيات، ومنذ العباسيين وانتهاء بالعثمانيين. ربما سأذكر بأشياء قلتها سابقا في لقاءات، وقد يعتبرها البعض زائدة [زائفة] [كلمة غير مسموعة جيدا]. فقبل سنتين، وفي لقاء بمدينة تادلة -مثل هذا اللقاء- قلت ينبغي أن نجيب على سؤالين، بما هما يحددان مصيرنا: من نحن؟ [شكون حنا] باللسان الدارج، وماذا نريد؟ قد يقول البعض مجيبا أن لسنا في حاجة إلى طرح مثل هذا السؤال، نحن هم نحن [حنا هما حنا] نحن مغاربة. ولا حاجة إلى طرح هذا السؤال. ولكن كيف نحن كمغاربة؟ ذلك أنه في فترة ما يخال بعضنا أننا مغاربة جزء من شخصية العالم العربي. لذلك من واجبنا كمثقفين أن نتساءل: من نحن؟ نحن أمة لها تاريخ خاص، لكنه مميز، ولدينا خصوصية، فكان من الضروري أن نطرح هذا السؤال. والسؤال الثاني: ماذا نريد؟ نريد أن نصبح جزءا من التجربة الإنسانية، ونريد أن نكون حداثيين، وأن نخضع للمعالم الكونية، ليس فقط من حيث الإنتاج المادي ولكن، أيضا، من حيث الإنتاج، والتفكير سواء من حيث الديموقراطية، أو من حيث التربية، أو من حيث أوجه الحياة العامة، ومنه المساواة بين الرجل والمرأة، وعدم التمييز بين الأجناس، وحرية الفكر، وحرية المعتقد. هذه هي القيم الكونية، ولا يمكن أن ندفع بخصوصية ما، وأننا لدينا خصوصيات تتنافى والقيم الكونية. وحصل قبل سنة أن ركزت على شيئين أساسيين: فإذا عرفنا ماذا نريد فيجب أن نحدد الوسيلة. فإذا اتفقنا على أن نخضع للقيم الكونية، فينبغي أن نحدد كذلك ما هي الوسائل التي يمكن أن تساهم لبلوغ هذا الهدف؟ إن أهم هذه الوسائل التربية، ومنظومة التربية هي التي تبلغنا إلى استيعاب القيم الكونية منذ الصغر. يحب أن يعرف الناشئة بأننا مثل جميع الناس، ولسنا أحسن من الغير، ولكي يحترمنا الناس، وجب أن نحترم جميع الناس: جميع الحضارات، وجميع الثقافات، وجميع أشكال الثقافات، وهذه الأشياء ترسخ منذ الصغر. والمسألة الثانية ليس الغاية من التربية أن نمكن أبناءنا من مهارات القراءة والحساب، أو يصبحوا يوما ما أطباء، أو مهندسين. لكن يجب أن يفكروا –أبناؤنا- بالطريقة التي تفكر بها الأمم. إنها أشياء تكتسب منذ الصغر. لما تُقلل [أنت] من قيمة العقل وتغلب النقل لا يمكن أن تنجح في رهان التربية. لما نخال تربيتنا تعترض على العنف، قد لا نخضع للقيم الكونية. ولما نعتمد تربية تقوم على الميز، وقضيتنا تتعارض مع التمييز كيفما كان نوعه عرقي ولغوي وديني.... إنها أشياء أساسية، وجب أن ترسخ منذ الصغر. لازلنا نرى أولادنا يحفظون ويستظهرون على ظهر قلب، كما كان الأمر منذ أربعة قرون. ليست التربية أن نحفظ، إذ المعلومة لم تعد معلومة تحت وقع الحفظ. لذلك يمارس الغش في الامتحان، ونحن نشجع أبناءنا ليمارسوا الغش. فالتربية مهمة على المستوى الرسمي، وعلى المستوى الشعبي، لكنها لا تعطي ثمارها في سنة أو في عشر سنوات. ويجب أن نعي أن التحديث يبدأ من التربية.
المسألة الثانية سلف أن تطرقنا إليها، ولا بد أن نذكرها وتتعلق بأن نعي المحيط الجغرافي. فنحن في أفريقيا، ويجب أن نتذكر ذلك، ونحن على مقربة من أوروبا، ومن حيث الجيولوجيا فالمغرب امتداد لأوروبا، وحصلت تداخلات على المستوى البشري بين المغرب وأوروبا، وهناك حوالي ثمانية ملايين مغربي يعيشون في أوروبا. إن مصلحتنا [قائمة] مع أوروبا، لذا لزم أن تظل تعتمد على ما سميته المحور العمودي، وليس الأفقي. وهناك وعي فيما يخص هذه القضايا. وإني أعتقد أن التربية، بالأساس، والخيار الدبلوماسي، والدولة القوية...والمضي قدما في المسار الديموقراطي، وكلها أدوات من أجل المرور إلى التحديث. وليس في الأمر جديد. ذلك أن هذه الأمور التي تحدثنا عنها ليست اكتشافا فهي أمور موجودة في خطاب الدولة، ونجدها في اليسار، ونجدها في الحركة الأمازيغية، ونجدها كذلك عند عناصر البيروقراطية، ونجدها عند عناصر البورجوازية. فهل من الحكمة أن تظل متفرقة؟ لا أعتقد أن طرفا واحدا من هؤلاء إذا انفصل عن الآخرين يمكن أن ينجح.... أليس من الحكمة التفكير، ومن الذكاء، أن نفكر، في إطار فكري جامع لكل هذه العناصر؟ إنها عناصر يمكن أن تتكامل عوض أن تتعارض. نحن نعلم أن الأمم، لكي تنجح، لا بد أن تضافر جهود. مفكر فرنسي، فكر في عنصر أمة عنصرا جامعا مثل الإسمنت، وهو الأمة. فلا يمكن أن تقوم بأشياء عظيمة، إلا إذا كانت متحدة جامعة (faire de grand-chose ensemble)، فلا يمكن القيام بأشياء عظيمة ونحن مشتتون، كل واحد منا في جهة: عناصر حداثية في اليسار، وعناصر حداثية في الأمازيغية، وعناصر حداثية في البورجوازية، وعناصر حداثية في الدولة. إن هذا التشتت هو الذي يجعل العناصر المحافظة فاعلا رئيسيا. فإذا سادت هناك اتجاهات محافظة، فإن الأطراف الأخرى مشتتة. لذلك ينبغي إيجاد إطار فكري، أو ربما كذلك تنظيم، وهذه في اعتقادي أشياء أساسية. فالتجربة الناجحة، وينبغي إعطاؤها دفعة جديدة لهذه التجربة، وبالأخص في السياق الذي نعرفه. أشرت إلى الأطراف الأخرى، يمكن أن يختلف معها بعضنا من حيث الأسس، ويمكن أن يختلف معها من حيث الأهداف. ولكن يمكن أن نلتقي معها في قضايا آنية. لذلك لزم دواما اعتماد احترام الآخر، حتى في الاختلاف، وحتى في الأسس، وفي المرجعيات. ويجب إعمال الحوار، كذلك، وفي جميع الحالات وجب رفض شيء اسمه الإقصاء، أو الحقد. لا بد من توحيد العناصر التي تشتغل في القيم. ولكن [وجب الإفصاح] ،في ذات الوقت، أن العناصر التي يمكن أن نختلف معها، يجب أن نتعاون معها بكل احترام، في إطار الحوار، وفي إطار أمن وطني جامع، بدون عقد، وبدون حقد، لأنه ما يسيء، وما قد يسيء للكثير من الخطابات، التي يمكن أن تكون نبيلة، لكن الذي قد يسيء لها أحيانا أن تدفع، أو أن تجنح أحيانا إلى الغضب والكراهية والحقد. إني أقول لكم، من خلال تجربتي البسيطة أنه إذا كانت هناك إطارات حداثية فليس من مصلحتها، فقط، أن تتحد، بل من واجبها أن تتحد، فهناك معركة أساسية، لكن يجب أن تتعامل بحكمة مع الأطراف التي تختلف معها. ما هي الغاية؟ الغاية أن نصبح دولة متقدمة على غرار الدول الأخرى في الضفة الأخرى في الضفة الشمالية من البحر المتوسط. لدينا جميع المؤهلات لنصبح دولة متقدمة، نظرا للجغرافي، وطبيعة شعبنا السمحاء، وحضارتنا، وثقافتنا، وثوابتنا، وكلها أشياء تساعدنا على كسب الرهان. وتنقصنا إطارات فكرية، وربما السياسية لبلورة هذه التوجهات. هل يمكن أن نكون أمة متقدمة لها وزن؟ نعم هناك تراكمات، كما قلت في المقدمة، الأمم التي تنجح هي التي تقوم على تراكمات. إن ما قلته ما هو إلا أرضية للحوار والنقاش. ويجب أن نعي أن الظرفية دوليا وإقليميا ووطنيا تستوجب إطارا فكريا جديا، وسياسيا جديا، يقودنا إلى التحديث. اسمحوا لي أن أختم بمقولة كان يرددها ويكررها الزرقطوني، وكلنا يعرفه لأنه شخصية متميزة، وكانت له قدرة فائقة على التنظيم على الصعيد الوطني، في طنجة ومراكش، والدار البيضاء، ومكناس، وكان يدوما يكرر جملة باللسان المغربي الدارج (طاب الماء) ». نكتفي في النقل بهذا الحد، ونعتقد ما سلف ذكره يشكل أرضية للنقاش تفاعلت معها مجموعة من المداخلات سنعود إليها.