إن ظهور أو بروز أي حركة مجتمعية سياسية أو تحررية في العالم وعبر التاريخ البشري لم تكن أبدا تظهر نتيجة الصدفة، وإنما تظهر أو تبرز هذه الحركات نتيجة وجود أزمة ما، حيث تتبلور وتتأسس هذه الحركات المجتمعية لهدف تجاوز تلك الأزمة التي كانت السبب في ظهورها، وبالتالي تعمل هذه الحركات من أجل الوصول إلى هذا الهدف الذي تنشده عبر تجاوز الوضع القائم، من خلال التسلح بالبنية الفوقية التي تتمثل في الخطاب وبالبنية التحتية التي تتمثل في التنظيم، أي وفق أسس مرجعية فكرية وسياسية ووفق آليات تنظيمية محكمة وإستراتيجيات عمل واضحة، ولا يمكن أن نتصور أي حركة سياسية مجتمعية في غياب هاتين البنيتين (الفوقية=الخطاب والتحتية=التنظيم). وإذا ما تساءلنا عن السبب الذي كان وراء ظهور الحركة الأمازيغية في المغرب وشمال إفريقيا عامة سنجد أن بروز هذه الحركة المجتمعية لم يكن نتيجة الصدفةكذلك وإنما ظهرت نتيجة وجود أزمة ثقافية وسياسية وهوياتية، والتي تتمثل بالأخص (هذه الأزمة التي كانت السبب في ظهور الحركة الأمازيغية) في أزمة الاستلاب الفكري والهوياتي الذي يعاني منه الشعب الأمازيغي فوق أرضه من طرف الفكر القومي العروبي الذي تمارسه هذه الدول العروبية التي تحكم في شمال إفريقيا باسم "السلطة العربية" و "الأمة العربية" والانتماء إلى وهم "الوطن العربي من المحيط إلى الخليج" بدل ممارسة السلطة باسم هوية الأرض الأمازيغية والانتماء الجغرافي الإفريقي، ونتيجة هذا التناقض وهذه الأزمة برزت الحركة الأمازيغية من أجل إعادة الاعتبار ثقافيا وتاريخيا وفكريا وسياسيا وحضاريا وهوياتيا للإنسان الأمازيغي الذي يعاني انفصاما في شخصيته وذاته الأمازيغية على حساب الفكر القومي العروبي.
انسجاما مع ما سبق، إذا أخذنا بهذا الهدف الذي برزت من أجله الحركة الأمازيغية نجد أن هذه الأخيرة تستمد روحها ووجودها وخطابها من هذا المبدأ التحرري بفهمه الفكري والسياسي وكذا التنظيمي، وبالتالي أي عمل فكري-سياسي-تنظيمي ستقدم عليه الحركة الأمازيغية اليوم يجب أن يكون هدفه تحرير الإنسان الأمازيغي من التبعية الفكرية والسياسية والتنظيمية من طرف أي إيديولوجية فكرية أو سياسية أو تنظيمية مخزنية عروبية حزبية لاوطنية، حتى نساهم في نقل هذه الحركة من ممارسة ذاك العمل الثقافوي الفولكوري الاستشاري الضيق كما نص على ذلك "خطاب أجدير 17 أكتوبر 2001" إلى حركة ذات مشروع فكري، سياسي، تنظيمي ومجتمعي عبر مبدأ الديمقراطية والمواطنة الكاملة والاستقلالية الفكرية والتنظيمية، هذا المشروع الذي نستطيع من خلالها التأسيس لفكر سياسي تنظيمي أمازيغي يقوم على العقلانية والدينامية والنسبية والاختلاف.
قد لا نختلف على أن الحركة الأمازيغية راكمت طيلة سنوات نضالها إرثا نضاليا وفكريا وتنظيميا محترما وذلك حسب كل مراحل النضال التي مرت منها، حيث اختلفت التصورات السياسية وآليات العمل حسب ظرفية السياسية لكل مرحلة على حدة، وبالتالي تعددت الرؤى واختلفت وجهات النظر حول طريقة وكيفية العمل، لكن بقية القضية الأمازيغية هي الهدف الأسمى وهي القاسم المشترك التي تجمع كل هذه التوجهات رغم اختلافها في الآليات والوسائل، هذا الوضع الذي استمر حتى مرحلة سيظهر من داخل الحركة الأمازيغية تيارين أو خيارين، الأول إصلاحي يريد -أو أريد له- أن يعمل من داخل النسق السياسي القائم و من داخل الدولة ومؤسساتها، حيث يرى هذا التيار أن تحقيق مطالب إمازيغن يستدعي بالضرورة العمل من الداخل المؤسسات، ناسيا (هذا التيار) أو متناسيا أن العمل من الداخل لا يتم إلا وفق فهم مخزني للقضية وليس وفق فهم هؤلاء الفاعلين أنفسهم، والتيار الثاني هو الذي اختار العمل الجذري المستقل من أجل تحقيق مطالب الديمقراطية والعادلة للقضية الأمازيغية الذي كانت تتزعمه الحركة الثقافية الأمازيغية بالجامعة وخريجها في الشارع السياسي، هذا التيار الذي يرى أن العمل من داخل النسق لا يمكن أن يحقق أي شيء للقضية الأمازيغية في ظل الترسانة الدستورية والقانونية المتخلفة القائمة. وحتى نصل إلى الإجابة عن من الأقرب من هذين التيارين إلى الإجابة العلمية للممارسة العمل السياسي الأمازيغي الذي من الممكن أن يوصلنا إلى الدفاع وتحقيق المطالب الديمقراطية للقضية في كل جوانبها بعيدا عن احتواء القضية والفاعلين الأمازيغيين في قالب مخزني؟ للوصول إلى الإجابة عن هذا السؤال حبذ أن نستحضر هنا بعض المواقف والمطالب التي أطرت الحركة الأمازيغية في ممارستها السياسية وحتى نكشف الستار على البعض الفاعلين الذين أرادوا للحركة الأمازيغية أن تلعب دورا لا هو الدور أو الهدف الذي برزت من أجله، فما دامت الحركة الأمازيغية لديها موفقا واضحا من النظام المخزني باعتباره نظاما فاقدا للشرعية والمشروعية والذي أسس نفسه على حساب الأساطير والأكاذيب وتزوير الفاضح للتاريخ وعلى حساب دماء شهداء الحقيقيين للشعب المغربي وعلى عدائه لكل ما هو وطني حقيقي، وإذا كانت الحركة الأمازيغية كذلك تمتلك موقفا واضحا من "الأحزاب السياسية" التي هي مجرد دكاكين سياسية لا تخدم إلى نفسها وشرعيتها أسست على اللاوطنية، وإذا علمنا أن الحركة الأمازيغية لديها موقفا واضحا من جميع "الدساتير" باعتبارها دساتير ممنوحة لا ديمقراطية وليست من صنع الشعب المغربي، وإذا أضفنا إلى هذا المطلب دسترة اللغة الأمازيغية في دستور ديمقراطي شكلا ومضمونا يقر بأمازيغية المغرب الذي تناضل من أجله الحركة الأمازيغية، وإذا ربطنا كل هذا مع المبدأ التحرري الذي برزت من أجله الحركة الأمازيغية سنخلص إلى أن كل من سيخرج عن هذه المواقف وعن هذه الأسس وهذه المبادئ لا يمكن له أن يمثل أو أن ينتمي إلى الروح الحقيقية التي برزت من أجلها الحركة الأمازيغية بالمغرب.
انسجاما مع ما تم التطرق إليه سابقا وبربط هذا بالهدف التحرري الذي برزت من أجله الحركة الأمازيغية ومع المستجدات التي تعيشها الساحة السياسية بالمغرب بشكل عام وما تعيشه القضية الأمازيغية بشكل خاص نجد أنفسنا من الضروري اليوم، في ظل هذا الواقع السياسي القائم وفي ظل ما تعرفه الساحة السياسية الوطنية والإقليمية والدولية من حركية وتحولات، على الحركة الأمازيغية بمختلف مكوناتها الديمقراطية المستقلة وبكل ما تحمله هذه المكونات من مواقف سياسية التي تنسجم مع ذاتها ومطالبها المشروعة أن تقف وقفة تأمل حتى تستدرك ما موقعها؟ وما دورها في هذا النسق الجيوسياسي؟ وهل هي قوة منظمة وفاعلة أو مفعول بها؟ حتى تستكمل من خلال هذه اللحظة وهذه المحطة التأملية الوقوف إلى بناء الذات وتحصينها فكريا وسياسيا وتنظيميا، وذلك من خلال الطرح سؤال النقد الذاتي حتى تصل إلى قراءة التجربة السابقة بسلبياتها وبإخفاقاتها وايجابياتها، وحتى نصل إلى رصد نقط الضعف ومكامن الخلل التي شابت مسار الحركة من أجل العمل على تجاوزها عن طريق إبداع آليات جديدة للعمل تأخذ بعين الاعتبار اختلالات وأخطاء الماضي وضروريات الحاضر واستشراف آفاق المستقبل، وذلك عن طريق تطوير الممارسة النضالية الأمازيغية من خلال تحديد معالم وأهداف القضية عبر خلق تجربة تنظيمية جماهيرية بناءة تكون هي المعبر السياسي الحقيقي الذي سيحمل المشروع المجتمعي الفكري السياسي الأمازيغي الذي سيجد كل أمازيغي ديمقراطي مستقل ومنسجم مع مواقف ومبادئ الحركة الأمازيغية نفسه من داخله.
وهذا لن يتأتى طبعا إلا عبر فتح نقاش فكري سياسي أمازيغي-أمازيغي يأطره الاختلاف والاحترام المتبادل وثقافة الإنصات إلى كل الرؤى ووجهات النظر وكل التصورات السياسية الأمازيغية التي تنسجم ومواقف الحركة الأمازيغية حتى نصل إلى تجاوز الخلافات السياسية والتنظيمية التي لا أعتقد أنها تتعلق بالمرجعية الفكرية أو بالتصورات السياسية لكل طرف على حدة بقدر ما تتعلق باختلاف على مستوى الفهم والتقييم والأجرأة وغياب ثقافة تدبير هذا الاختلاف الإيجابي وهذه التصورات السياسية التي تزخر بها الحركة الأمازيغية. إذن من أجل الوصول إلى هذا الهدف الإستراتيجي لا بد من القطع مع تلك العقلية القديمة-الجديدة التي أطرت وما زالت تأطر للأسف الممارسة السياسية الأمازيغية، تلك العقلية التي تفكر بمنطق "الأنا الإمبريالي" والعقلية الإيديولوجية الضيقة التي تقوم دائما باستحضار الأنانية المرضية النضالية وشخصنة المبادرات الأمازيغية من الاقتراح والتحكم والتوجيه، والعقلية أخرى أكثر مرضية التي عندما تجد نفسها غير فاعلة أو غير قادرة على التحكم والتصرف وإتحاد القرار تقوم بشيطنة الفاعل الأمازيغي وتخوينه وتهجم عليه، ناسين ومتناسين أن استمرار هذه النوع من الممارسات والسلوكيات السيكولوجية أبدا ما ستخدم القضية الأمازيغية التي ندعي كلنا النضال من أجلها، لذلك أن الأوان لنفكر جميعا كأمازيغيين مسؤولين أمام أنفسنا ومبادئنا وأمام التاريخ لوضع حدا لمثل هكذا ممارسات وتصرفات غير مسؤولة التي لا تمت بأي صلة لا من بعيد ولا من قريب بالنضال السياسي الوازن-المعقلن والجاد-المسؤول ولا بقيمنا السياسية والأخلاقية هذه السلوكيات التي نقدم من خلالها خدمات لأعدائنا وخصومنا السياسيين من حيث لا ندري، ومن هذا المنطلق نجد أنفسنا اليوم كفاعلين أمازيغيين مجبرين أكثر من أي وقت مضى للعمل على خلق قفزت نوعية إيجابية في أنماط التفكير التقليدية وتجاوز آليات التحليل القديمة حتى نواكب ونساير التحولات الواقيعة والسياسية في ممارستنا العلمية والعملية، وأن نعمل كذلك على خلخلة العقلية الأمازيغية من أجل تنقيتها من البنيات الفكرية السلبية والهدامة وذلك حتى نستطيع تجاوز كل جوانب التشويه والتجزيء والتمويه في الممارسة السياسية والتنظيمية الأمازيغية.
وعلى سبيل الختم، نقول أن الحركة الأمازيغية بمختلف فعالياتها وتنظيماتها الأمازيغية المستقلة والتي تنسجم ومواقف الحركة السياسية ومطالبها التي لا تقبل التجزيء مدعوة اليوم إلى ضرورة العمل على تحصين ذاتها ومواقفها فكريا وسياسيا وتنظيميا، حتى تقطع الطريق أمام المخزن الذي يحاول تشتيت وتشويه وتجزيء مطالب القضية العادلة والمشروعة، وأذياله من انتهازيين الذين يساومون من أجل مصالحهم الشخصية الضيقة على ظهر الحركة ومواقفها وتضحيات معتقليها، وذلك عن طريق بناء حركة قوية فاعلة ذا وزن سياسي صعب التجاوز من داخل معادلة الصراع القائمة من خلال بناء تنظيم سياسي أمازيغي الذي سيكون المعبر السياسي الحقيقي لإمازيغن والذي سيجد كل صوت أمازيغي حر نفسه من داخل هذا التنظيم الذي سيكون الميثاق المرجعي والتوجيهي للعمل الأمازيغي المشترك وتحمل المسؤولية والمحاسبة، هذا التنظيم الذي سيكون هدفه الرئيسي النضال من أجل الدولة الديمقراطية التي يأطرها دستور ديمقراطي من صنع الشعب التي تمارس السلطة باسم الانتماء إلى هوية الأرض الأمازيغية والحامل لمشروع سياسي مجتمعي متكامل.
المصدر: وكيم الزياني طالب باحث وفاعل أمازيغي