محمد زروال - خنيفرة / جديد انفو

تعتبر دراسة التراث وتوثيقه من المهام التي يجب أن تتكلف بها أجيال اليوم،  خاصة وأننا نواجه زحفا كثيفا لمؤثرات حضارية وثقافية بعيدة،  تقودها ترسانة قوية من العناصر الفاعلة في  العولمة على رأسها وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، هذه الأخيرة تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية وتخترقها من غير مراقبة وتدخل بمؤثراتها إلى عقر ديارنا، مما يجعل إمكانية مواجهتها صعبة،  لأن نظامنا التعليمي والكثير من مبادئ التربية في المنزل والشارع والفضاءات الثقافية لم تتحمل مسؤوليتها في عقلنة انفتاح الشباب على الآخر، وأصبح التقليد الأعمى  أهم ما يميز سلوكات الشباب في عصرنا.  تبقى مهمة توثيق التراث الأمازيغي في يد الشباب الحامل لهم الحفاظ على الثقافة الأمازيغية، ولن يتأتى ذلك إلا بالتسلح بكل المؤهلات العلمية التي ستجعلهم قادرين على أداء مهمتهم والنجاح فيها ، وذلك عن طريق استيعاب المعطيات العلمية الجديدة في العلوم الإنسانية وتقنيات التسجيل والتصوير.

تعاني الكثير من مظاهر الثقافة الأمازيغية من خطر الزوال والتحول إلى معطيات من الماضي، قد لا يتحدث عنها أحد في المستقبل،  ما لم يتم توثيقها بالصوت والصورة، ومن الظواهر التي أصبحت مهدد ة بالنسيان ما يسمى ب" بوغانيم "  هذه الظاهرة الفنية العريقة التي تميزت بها منطقة الأطلس الكبير والتي أثثت المشهد الفني الغنائي والفرجوي والشعري الأمازيغي لمدة طويلة، إلا أنها قد تندثر من ثقافتنا في المستقبل القريب.

يطلق هذا الاسم على مجموعة من الشعراء،  يتجولون في القرى والبلدات الأمازيغية في منطقة الأطلس الكبير والمتوسط وهضبة سايس، وتتكون من أربعة أفراد،  يتميزون بمواهب فنية متنوعة منها : نظم الشعر، العزف على الكمان والدف  والقصبة " أغانيم " ، التمثيل ، التنشيط ، الغناء. تسمى  المجموعة بفرقة "  بوغانيم"  نسبة إلى الشخص الذي يعزف على القصبة الخاصة والتي تتكون من قصبتين يصعب على أي كان أن يعزفهما، فهي تحتاج إلى قوة خارقة في النفخ، كما أن بوغانيم يتميز بملابسه المختلفة عن باقي أعضاء الفرقة وهذا ما جعل الفرقة تحمل اسمه. إلى يومنا هذا لازالت الملابس التي يرتديها تباع في الأسواق لأنها في الأصل عبارة عن إكسسوارت لملابس نسائية تستعمل نواحي إملشيل. لم تتغير هيئة بوغانيم  مقارنة مع ما  سبق حسب ما توفر من معطيات، حيث حافظ على نفس الملابس الحالية، على الأقل في النصف الثاني من القرن العشرين. ويرجح أن تكون هذه الظاهرة حاضرة في الثقافة الأمازيغية قبل الاستعمار في إطار ما يسمى بظاهرة الشعراء الجوالينالشبيهة بتلك التي عرفتها إسبانيا.

تنشر هذه الظاهرة في منطقة الأطلس الكبير والمتوسط  في المناطق التي تقطنها قبائل أيت يحيى نواحي تونفيت و إملشيل وكذلك بنواحي أزيلال في قبائل أيت بوكماز وأيت عباس وأيت بلال وبقبائل أيت حديدو. ينتمي بوغانيم وباقي أعضاء فرقته إلى فئة مسحوقة اجتماعيا،  فهم من أصول قروية كانوا في صغرهم عبارة عن رعاة،  وبعد  ذلك يحملون في بطائق هويتهم مهنة فلاح وهي اسمية فقط  بسبب ضيق المساحة الزراعية و تراجع الغطاء النباتي  في قراهم ، جراء استغلال الغابة بشكل مفرط، يزاولون أيضا مهنة " أمدياز " الشاعر المتجول خلال فترة معينة من السنة بحثا عن  مدخول تختلف قيمته من سنة لأخرى، تمكنوا من  تعلم الفن بشكل عصامي  خلال السنوات الطويلة التي قضوها وراء القطعان وتعلموا العزف على الآلات الموسيقية عن طريق الاحتكاك اليومي والجلسات الجماعية التي كانوا يقيمونها وسط دواويرهم، أما نظم الشعر فيرتبط تعلمهم له بظروف الحياة الاجتماعية بالقرية حيث يصبح نظم الشعر ضرورة اجتماعية للدفاع عن العائلة أو للتغزل بالحبيبة أو لهجاء العدو في الأعراس والحفلات التي تنظم وسط القبيلة أو القبائل المجاورة، وهكذا نجدهم يتدربون منذ سن الطفولة على نظم الشعر في الأعراس ورقصة أحيدوس التي كانت تقام كل مساء وسط الدوار.

تتوزع المهام بين أفراد الفرقة كل حسب اختصاصه فالفرقة تتكون من أربعة عناصر، أحدهم يكون شاعرا متمكنا من نظم الشعر ينظمه في حالات كثيرة بطريقة ارتجالية حسب السياقات التي يحضرها يسمى ب " الشيخ" . إثنان من أعضاء الفرقة يسميان ب " إردادن "  يرددان مع الشاعر الرئيسي  نهاية كل مقطع من قصائده، ويكون دورهما متمحورا في المساعدة على تنشيط الحفل وحمل الأمتعة والدفاع عن الفرقة الفنية في حالة التعرض للاعتداء، كما يتحمل أحدهما مسؤولية التنشيط والتحكم في السير العام للحلقة ويتكلف بجمع النقود من الجمهور،  كما يتقن أحدهما العزف على الكمان. العنصر الرابع هو الذي يعزف " أغانيم "  وهو ركيزة الحلقة في كل ما يتعلق بالفكاهة بتفاعل مع باقي العناصر وبالخصوص مع المنشط الذي يسمى ب "عبيد"،  يعتمد أعضاء الفرقة على لغة خاصة للتواصل بينهم وسط الحلقة يسمونها  ب "تعجميت" من كلماتها نذكر : الهبر(الكلب) .  بوغانيم هو الذي يكون محور كل الحكايات ، يرقص ، يغني يقوم بألعاب بهلوانية يمثل دور المرأة، عندما تدعو الضرورة إلى ذلك، كما أنه يتقن العزف على الدف.

تمتد كل سهرة / حلقة أكثر من ثلاث ساعات،  حيث تنطلق مع غروب الشمس ولا تنتهي إلا بعد منتصف الليل، يحدث في  بعض الليالي أن يستمر السمر إلى طلوع الشمس. قبل التحاق "بوغانيم"  بمكان الحلقة / السهرة، يخرج رفقة أصدقائه إلى مكان منعزل في القرية لتغيير الملابس وفي نفس الوقت ينتشر الخبر بين سكان الدوار بحضور "بوغانيم" إلى قريتهم،  وللمزيد من الإشهار يقوم بدورة شرفية بين دروب الدوار،  بينما يلتحق أصدقاؤه بالساحة أو مكان تنظيم الحفل .

تقسم الأمسية إلى فترتين  زمنيتين: الأولى تمتد من غروب الشمس إلى أذان العشاء أو بعده بقليل ،خلالها يتم تقديم العروض الفنية من موسيقى ورقص وشعر وغناء وجمع النقود من المتفرجين بواسطة الدف،  مع تذكير الجمهور بعروض ما بعد العشاء. القسم الثاني بعد الانتهاء من العشاء وغالبا ما يكون في منزل أحد / ميسوري الحال في الدوار ، وعندما تتجه الفرقة  إلى المنزل تردد الأغاني و نفس العملية عند العودة . يبدأ الحفل على إيقاعات الكمان والدفوف والحركات البهلوانية ل " بوغانيم"، وتؤدى  بعض المقاطع المسرحية/ سكيتشات هزلية لتمرير الكثير من الرسائل وتعرف هذه التمثيليات في عرف فرقة بوغانيم بفقرة " تمغارت" وهي تمثيلية مشهورة تؤديها الفرقة كثيرا وأصبحت اسما لتلك الفقرة ومن الأمور الغريبة شيئا ما أن نجد الفرقة الفنية تخصص عائدات الحفل لفائدة مسجد الحي.

يتضمن القسم الثاني فقرة أخرى اسمها " تانبايعت" وهي فقرة تتسم بإعطاء المتفرجين لبعض القطع النقدية مقابل الحديث عن فرد من أفراد العائلة لا يكون حاضرا تشريفا له . ويتنافس الجمهور في الإشارة إلى ذويهم على لسان الفرقة. فقرة أخرى يمكن أن نسميها بأقدم برنامج للإهداءات خلالها يعطي أفراد من الجمهور مبالغ مالية للفرقة مقابل أداء أغنية معينة بالقرب من شخص أخر في الأمسية وعندما يؤدون الأغنية يرجع له الإهداء في أغنية أخرى وهكذا دواليك. يتم التنافس أيضا بين السكان في الإهداءات والمبالغ المالية التي تعطى للفرقة خاصة وأن بوغانيم أو أحد مساعديه يصرح بالمبلغ عند كل إهداء خاصة حين يكون مبلغا هاما. يستمر الحفل إلى أن يشعر الجمهور بالتعب وقد تستمر السهرة إلى الصباح،  في اليوم الموالي تلتحق الفرقة بدوار آخر لنشر البهجة في صفوف سكانها بنفس الطريقة وهكذا دواليك حتى تنهي الفرقة جولتها التي تمتد لأكثر من شهر في بعض الأحيان. من بين أسماء بوغانيم المشهورين في الأطلس الكبير الشرقي نذكر : عدي همو ، أحميدان سعيد ووالده عسو، عثمان اقيزا . .موحى أموزون ..

يرتدي أعضاء الفرقة ملابس تقليدية "" جلباب ، رزة ، بلغة "" في حين يرتدي " بوغانيم " لباسا خاصا يتميز بألوانه المزركشة ويتكون من ثلاثة قطع يغلب عليه اللون الأحمر ويضع فوق رأسه غطاء مصنوعا من ريش النعام أو الطاووس. وذلك لكي يثير الانتباه أثناء تحركه كما أن لباسه قريب من اللباس النسائي لتسهيل عملية الرقص. وهناك اختلاف بين ملابس بوغانيم نواحي إملشيل و نواحي أزيلال.  وفي هذا الصدد يرى الأستاذ لحسن أيت لفقيه في  مدونته الإلكترونية أن" الموسيقار (بوغانيم) يحمل زيا أمازيغيا يظهره على شكل الديك. ومعلوم أن الديك الأحمر يحمل كل الألوان الأمازيغية، لون جالوت المستخلص من نبتة الفوة  )تاروبيا)، واللون الأصفر المستخلص من نبتة (تاناغوت)، واللون الأحمر الناصع المستخلص من الفوة الممزوجة بالمشمش. وهناك الأسود. وأما رأس )بوغانيم) فحاد شبيه برأس الديك"

يخرج سكان الدوار جميعا للمشاركة في الاحتفال، يلتحق الرعاة الذين يرعون أغنامهم في مناطق بعيدة  عن الدوار ، وعندما تنتهي الأمسية يعودون أدراجهم إلى أغنامهم ليلا أو يلتحقون في الصباح الباكر. وتعتبر ليلة بوغانيم من أهم الليالي في القرى التي  تشكل فرصة لجمع شمل السكان ومشاركتهم في أفراحها مثل ما يحدث في  الأعراس أو مناسبة ختان الأطفال.