أحمد بيضي - خنيفرة / جديد انفو
 
إذا كانت بشرية العالم قد احتفلت، قبل أيام قليلة، بتساقط الثلوج لغاية استكمال شروط الاحتفال برأس السنة الميلادية، في جو راقص وسط شجيرات الصنوبر وهدايا “بابا نويل” وبطائق “العربات المجرورة بالغزلان فوق الجليد”، لا شك أن أطفالا في”المغرب العميق” يرتعشون الآن تحت بيوتهم الطينية، من شدة برودة هذه الثلوج، ولا يطلبون أكثر من خبز وحطب ولباس، ولا مبالغة في أن العديد من القرى والمداشر بإقليم خنيفرة تحولت إلى “جزر برية” من الصعب الوصول إليها بسهولة.
 
وغالبية سكان هذه المداشر والقرى من دون مؤونة ولا ما يكفي من الأغطية والألبسة والدقيق والأدوية، إلى جانب انعدام البنى التحتية والمرافق اللازمة، وتلف المراعي والمزروعات وارتفاع أسعار المواد الأساسية، في غياب تدابير استعجالية وتدخلات حاسمة، بل حتى ما يسمى ب “لجنة اليقظة والطوارئ” تكون قد عجزت بجلاء عن احتواء الوضع، إما لتقاعس مكوناتها أو لهزالة الاعتمادات والميزانيات المرصودة للمهام المنوط بها.
 
بمناطق أكلمام، أجدير، القباب، كروشن، أسول وغيرها، تعرف عزلة تامة عن العالم الخارجي، ولم يفت أحد الجمعويين القول: “إذا كان جميع الفلاحين والمزارعين قد استبشروا خيرا بالتساقطات المطرية التي انتشلت الموسم الفلاحي من لعنة الجفاف، فالمؤكد أن الأمر يختلف كليا بالنسبة للقابعين تحت سقوف المداشر بالمرتفعات”، إذ لا حديث للساكنة هنا سوى عن البرد القارس والثلوج وحطب التدفئة ومظاهر العزلة والتهميش والفقر المدقع، في غياب أية مقاربة تنموية تساعد على فك العزلة عن هذه المناطق الهشة.
 
جغرافية بلا خرائط
 
من هنا يأتي الحديث عن معاناة الأسرة التعليمية العاملة بالمناطق الباردة، وتشكيها المستمر من مشكل استخفاف المسؤولين بهم وبتلامذتهم الصغار الذين تتجمد أبدانهم الصغيرة داخل حجرات تشبه الثلاجات، ويعجزون عن الدراسة تحت البرد والصقيع، ورغم أن الدولة أعلنت عن وضعها لهذا الأمر بعين الاعتبار فإن العديد من الملاحظين سجلوا بامتعاض سياسة تخفيض الاعتمادات المرصودة للتدفئة، وبالتالي وقفوا على أن العديد من الفرعيات النائية لم تنل حقها من حطب التدفئة، بالأحرى الحديث عن الحجرات الدراسية التي لا تتوفر على مدفآت، أو المشيدة بالبناء المفكك الذي منه ما تجاوزت مدة صلاحيته، أو التي تكدست الثلوج على أسطحها.
 
وفي لقاءات خاصة ببعض أفراد الأسرة التعليمية، تم الوقوف من جديد على أن معظم أساتذة “العالم المتجمد” وتلامذتهم، على حد سواء، يعانون من جملة من الصعوبات، ليس أقلها ضعف البنى التحتية المدرسية، من افتقار الأقسام إلى شروط التعليم الكريم، إضافة إلى وعورة المسالك وانقطاعها بالكامل، ولفترات زمنية طويلة، ما يعمق معاناة رجال ونساء التعليم، في حين أجمعت شهادات عدد آخر من الأساتذة والمتعلمين، أو أولياء التلاميذ، على ما يؤكد بؤس وفداحة الواقع الذي ينعكس سلبا على تحصيل أبنائهم بسبب انقطاع المسالك والطرقات وتشتت الوحدات المدرسية.
 
كما أن الثلوج والأجواء الباردة تسببت في معاناة آلاف الأسر من أمهات وآباء التلاميذ، خلف المسالك الوعرة والرقع المتناثرة على جغرافية إقليم خنيفرة، حيث تحدث السكان هنا وهناك عن بشاعة العزلة، ليس فقط للتزود بحاجياتهم المعيشية والغذائية الضرورية وحطب التدفئة، بل أن العزلة أربكت حياة الدراسة من خلال مشاهد التلاميذ وهم يطلبون العلم في الثلج والطين والشعاب، وساهمت في إجبار التلاميذ والأساتذة على “استعمالات زمنية” استثنائية و”عطل” غير مبرمجة جراء “قرار” أحوال الطقس السيئة التي تتسبب في متاعب طول المسافات وبعد الفرعيات، وكم تتجمد أطراف التلاميذ في لحظة وصولهم للوحدة المدرسية ولا يجدون سقيفة تقيهم من التساقطات المطرية والثلجية عند انتظار فتح الحجرة، علما أن مئات التلاميذ شبه عراة يعيشون على “الخبر والأتاي” حول قبس من النار.
 
في نفس الاتجاه، أشار أحد الأساتذة إلى مشاكل أخرى متعددة، منها انعدام بنية الاستقبال، وغياب المرافق الصحية الذي ينتج عنه وضعا مؤثرا على السير الطبيعي للتمدرس، ينضاف إليه مشكل انعدام الماء الصالح للشرب، والذي فات ل “جمعية العقد العالمي للماء بالمغرب” أن بادرت بشأنه إلى مراسلة كل من وزير التربية الوطنية، ورئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين، دون جدوى، علاوة على مشكل المطاعم المدرسية المنعدمة، والتي حتى إن وُجدت فالتغذية بها دون المستوى المطلوب، إما بسبب “التقشف” أو “انعدام السيولة المالية” أو التأخر القائم في تسوية الديون والمتأخرات الخاصة بالمزودين والممونين، ولم يفت ذات الأساتذة التطرق لمعاناة الكثيرين منهم مع انعدام الصبيب وتأثير ذلك على رغبتهم في ولوج الشبكة العنكبوتية والاتصالات الهاتفية.
 
معاناة ناصعة البياض
 
وفي سياق آخر، كان للثلوج كلمتها بشأن السير العادي لامتحانات نيل شهادة الدروس الابتدائية، السادسة ابتدائي، بالمجموعات المدرسية التابعة للمديرية الإقليمية للتربية الوطنية بخنيفرة، إذ أن المديرية الإقليمية، بالتنسيق مع السلطات المحلية، اضطرت لتأجيل هذه الامتحانات، ليوم واحد، بعدد من المجموعات المدرسية، سيما بمناطق جماعة أكلمام وملوية، مثل بوكدجيك، اكلمام ميعمي، اوشنين، تاشا وغيرها من التابعة لجماعات أم الربيع مثلا والقباب وسيدي يحيي أوساعد ومولاي يعقوب، وذلك بسبب انقطاع المسالك والتخوف من تغيب التلاميذ الذين يصعب عليهم الالتحاق بمراكز الامتحان، وقد أكدت مصادر من المديرية الإقليمية أن هذا التأجيل الاضطراري لن يؤثر على السير العادي للامتحانات باعتبارها امتحانات محلية.
 
وارتباطا بالموضوع، ركز بعض الأساتذة على واحد من المشاكل الصعبة التي يعانيها نساء ورجال التعليم، وهو مشكل التنقل، وما يصطلح عليه ب “لانافيط”، في غياب المواصلات والطرق المعبدة، من حيث الموقع الجبلي للمناطق الباردة، وحتى إن كانت بعض هذه المسالك معبدة فهي خارج برامج الصيانة، ما يجبر المدرسين على تقمص شخصية “الكوموندو” عن طريق ركوب المخاطر، وركوب البغال والنقل السري، في ظروف تختلف باختلاف المناطق وظروف “سباق المسافات الطويلة” نحو أماكن العمل لأداء مهمة التدريس، مع ما يثيره ذلك من مشاكل نفسية وصحية واجتماعية، ومن انعكاس غير مباشر على مستوى أداء الرسالة النبيلة.
 
إذا كان الروائي الكبير عبد الرحمن منيف قد اختار لروايته اسم “عالم بلا خرائط” بهدف الإثارة، فالمؤكد أن الكثيرين اكتشفوا هذا العالم بعدد من المناطق الباردة بالإقليم، ويكفي الوقوف على الطوابير المصطفة أمام مواقع المساعدات والقوافل التي تقوم بتوزيع الإعانات الإنسانية، والتي تمنح في غالب الأحيان بمقاربة إحسانية (الصدقة) وليس تنموية أو حقوقية، وفي الحديث عن مبادرة “مليون محفظة” هذه السنة، والتي هي حق من الحقوق، يطول النقاش بخصوص تعثرها بالعديد من الفرعيات.
 
فقراء وسط الثروة
 
ما يجمع عليه المتتبعون هو التساؤل حول معنى وجود مواطنين فقراء لا يستفيدون من مناطقهم الثرية بمساحاتها وثرواتها الغابوية المدرة على الدولة والسلطات والجماعات واللوبيات مداخيل بالملايير، وما يؤكد ذلك هو أن غالبية الأسر لا تستطيع توفير حتى حطب التدفئة أو حتى الإمكانيات لشرائه، وكثيرا ما يتم توقيف كل من يتم العثور بحوزته على قطع من الحطب اليابس، ويتم تخييره ما بين أداء الغرامة أو الحبس بدعوى محاربة المخالفات الغابوية، في حين لا يخفى على أحد ما تقوم به المافيات التي تدفع الطبيعة إلى القبول بالفراغ، وكذا المضاربين والسماسرة المتاجرين الذين يعيثون في أشجار وأرز الغابة فسادا ويستغلون حاجة البؤساء إلى الحطب فيعمدون إلى رفع سعره رغم اعتباره في هذه الأثناء مادة في مستوى الخبز.
 
ويشار إلى أن الغطاء الغابوي بإقليم خنيفرة يفرش حوالي 40 بالمائة من المساحة الإجمالية للإقليم، أي نحو 526 ألف هكتار، منها 65150 هكتار من شجر الأرز وحده، أي لابد من القول إذا كانت منظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة تعتبر التصحر “مرض الأرض الأشد خطورة” فالمؤكد أنها ستصاب بفقدان التعليق على مناطق تعيش في حضن الاخضرار وتموت من الفقر والمرض، تماما مثل أطفالها وتلامذتها وسكانها الذين لا يتوفرون على مسالك صالحة وشبكة كهربائية ومساكن لائقة وحياة كريمة.
 
ويؤكد مسؤول تربوي في هذا الشأن أن مسؤولية معاناة التدريس بالمناطق الباردة تظل مشتركة، على خلفية عدم انخراط الجماعات الترابية في المنظومة التربوية على مستوى المسالك والتدفئة والدعم الاجتماعي، لأن هذه الجماعات ماضية في استغلالها غياب آليات قانونية تلزمها بالقيام بدورها في هذا المضمار.