أحمد بيضي - خنيفرة / جديد أنفو
 
ليس غريبا أن تشتد وتيرة حراك الشارع العام بخنيفرة، وإن دلت على شيء فإنما تدل على ما يعانيه الإقليم من مظاهر التهميش والفقر والفساد والهشاشة والبطالة المقنعة وغلاء المعيشة والفواتير، وارتفاع الضرائب وتدني الخدمات الأساسية وتردي البنيات التحتية، واستفحال حالة الركود التجاري وانعدام فرص الشغل، علاوة على انتهاكات حقوق الإنسان وانتعاش المحسوبية والزبونية، ولعل الأشكال الاحتجاجية غير المسبوقة قد أفسدت على بعض المسيرين راحتهم المألوفة، والمقصود بهم الذين نبتوا في “حدائق التحكم” وأخلوا بمبدأ التدبير العقلاني للملفات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأغلقوا الأبواب في وجه المواطنين والجمعويين والفئات المعوزة، وفشلوا في احتواء الأزمات، وشددوا الخناق على التظاهرات السلمية والأصوات الحرة والتدوينات الالكترونية.
 
و قد لا يبدأ الحديث أو ينتهي عن خنيفرة دون أن يكون المرء أدرى بشعابها وتناقضاتها بين التطرف والاعتدال، التسامح والعناد، التحرر والانغلاق، وهي الغامضة إلى حد اللغز والمتفتحة الى حد السرمدية، والمؤكد أن “الهدوء الحذر” الذي تعيشه أحيانا، لا يعني يأسا أو صمتا، بل يحمل رسائل “واضحة” من أجل فك الحصار المضروب على المنطقة التي باتت على وشك الوفاة ب”السكتة المجالية”، والمؤكد أن الصرخات الإعلامية والحقوقية والجمعوية، وكذا المسيرات والتدوينات الفايسبوكية، تدل بوضوح على درجة الاحتقان التي بلغتها أحوال البلاد والعباد، وتكون “مراكز القرار” قد لامست أسبابها دون علاج نهائي، وهي على علم بمنتهى الفساد المتفاقم والغابات المستنزفة والمشاريع المشبوهة والصفقات المظلمة، وكذا الإذلال الذي يقاسيه السكان بحجم الملح الذي يتجرعونه باسم الماء الصالح للشرب، وانعدام أية وحدات صناعية، اقتصادية واستثمارية، يمكنها امتصاص وضعية البطالة والبؤس والأزمة.
 
إرث خارج المجهر
 
 
وصلة بملف خنيفرة، أو “الحفرة” كما يحلو لأبنائها تلقيبها، لا أحد يدري متى ستتم معالجة الملفات الثقيلة من قبيل مشكل البناء العشوائي وأراضي الجموع والتحفيظ العقاري (وكالة التحفيظ العقاري ظلت غير محفظة)، ومشكل النزاع المتعلق بعقار “الكورص”، والمشاريع التي ينتظرها السكان (نواة جامعية، منطقة صناعية، متحف محلي، محكمة للاستئناف، ومندوبية للسياحة، مندوبية للثقافة، ملعب رياضي لائق، فضاء للاستقبال السياحي…)، بل على من يهمه الأمر أن يرى بأم عينيه كيف تعاني مدينة أطلسية كخنيفرة من فقر الاخضرار وفي قلبها يجري نهر أم الربيع، وكيف هي مساطر رخص البناء معقدة وباهظة.
 
ولا بأس لو تم التحقيق في المشاريع المدعمة بأموال الاتحاد الأوروبي (برامج ميدا مثلا)، ومراقبة الدعم المخصص للفلاحين والمزارعين في إطار مخطط “المغرب الأخضر”، فضلا عن ضرورة فتح ملف أشغال وأوراش وصفقات “برنامج تأهيل إقليم خنيفرة”، الذي أطلقه الملك محمد السادس، عقب زيارته للمدينة، أوائل ماي عام 2008، بغلاف مالي قدره220 مليون درهم، على أن يغطي الفترة الممتدة من 2008 إلى 2011، إلى جانب العمل الجدي على التحقيق في ما طبع المرحلة الأولى من “المشروع الألماني المغربي للتطهير” من شبهات مالية وتقنية، وضرورة الاستفسار حول سير المرحلة الثانية منه، مع سؤال عام حول مدى مواكبة الاتفاقيات الخمس التي تم توقيعها مؤخرا بين مجلس الجهة وجماعات ترابية بإقليم خنيفرة بغلاف مليار و660 مليون و100 ألف درهم.
 
وفي السياق ذاته، لابد من التساؤل حول ملف مشاريع “جبر الضرر الجماعي”، التي تمت في إطار الشراكة بين المجلس الوطني لحقوق الإنسان وصندوق الإيداع والتدبير والاتحاد الأوروبي، باعتبار الإقليم من المناطق التي تضررت جراء ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، ومنها إلى ضرورة المتابعة النزيهة في شأن الثروة الغابوية والمناجم المعدنية، ومقالع الرخام والفسيفساء، والمؤكد أن سكان العالم القروي ينتظرون التدخل لدعمهم بالماء الشروب والمسالك والطرق الضرورية ووسائل التمدرس، والتعامل بديمقراطية مع برنامج “كهربة العالم القروي”، وهناك مطالب قوية من أجل فك لغز حقيقة مبلغ 140 مليون سنتيم الذي قيل بصرفه في إنجاز “كتاب” مصور حول الإقليم، مع ضرورة الإجابة عن ملابسات “تفويت” ديور الشيوخ أو “تيدار زيان” في الظروف المحاصرة بالاستفهامات.
 
وإذا كان لا بد من “إعادة الإعمار” أو “بداية الإعمار” في الإقليم”، وفق مطالب “العدالة المجالية”، فربما ليس ثمة نية قوية وممنهجة من أجل رسم طريق سليمة لهذه العملية، وأن تكون مرتبطة بالبحث الجدي في مظاهر الاختلالات وتفاصيل الإخفاقات، ومكامن الفساد، المسجلة ضد بعض المسؤولين والإداريين والمنتخبين، كما في مظاهر هدر المال العام في المجالات غير المفيدة، و”المهرجانات” العبثية والترميمات العشوائية، علما أن الاقليم لطالما أثبت أنه عصيّ على كل المناورات، باعتراف حتى قادة الاستعمار الأجنبي من أمثال ليوطي، جيوم، هنريس وبعدهم قادة سنوات الرصاص الذين استعملوا كل الأساليب الجهنمية والأقبيات السرية، وكل فنون التعذيب والإعدام.
 
بياض ناصع السواد
 
 
بين الفينة والأخرى، ينتشر ما يفيد باقتراب زيارة ملكية للمدينة، فيسجل الشارع المحلي قيام “أهل الحل والعقد” بطلاء حياة المدينة بمساحيق التجميل وقتل الكلاب الضالة وكنس الأزبال وتزفيت الحفر وإنبات الشجر وتجميع المتسولين وإخفاء الباعة المتجولين، فضلا عما يصطلح عليه ب “الاصلاحات المستعجلة” التي يتم تمريرها تحت المائدة أو جعلها فرصة للنهب، وكم من الناشطين بخنيفرة تساءلوا حول مصير التحقيقات التي أجريت من جانب الجهات المعنية بالحسابات وظلت عالقة، كما تساءلوا كثيرا: هل تم رفع ما كان يروجه رموز سنوات الرصاص، في عهد الراحل الحسن الثاني، على “أن خنيفرة محكوم عليها ب”السورسي” (الحبس موقوف التنفيذ مدى الحياة)”، عقابا لها على أحداث 1973، والمؤكد أن بعض الأطراف المعلومة تريدها “محكومة” على الدوام، حتى يسهل عليها امتصاص خيرات الإقليم على طريقة سلطات الاحتلال الفرنسي التي كانت تصنف هذا الإقليم في خانة “المغرب غير النافع” لغاية نهب النافع فيه، من أياد عاملة رخيصة وثروات غابوية ومعدنية ومائية وزراعية، بينما حاولت أطراف أخرى تسويق صورة الإقليم على شكل أرض ل “الشواء والنشاط وقنص الخنزير” لغايات مفيدة لهم ولنفوذهم.
 
ترى كم يكلف رد الاعتبار لهذا الإقليم من ماديات ومعنويات؟ وكيف يمكن أن تتم محاسبة ومساءلة كل الذين “تناوبوا” على اغتصاب هذا الجزء الأطلسي؟ وتحويله إلى عبارة عن “مغارة علي بابا” المفتوحة في وجه الباحثين عن الثراء غير المشروع بكلمة “افتح يا سمسم”، على حساب ما راكمه هذا الإقليم من تاريخ بطولي واستقلال نضالي، ومن مآت قدماء المقاومين وجيش التحرير والمحاربين بأوروبا والمعتقلين السياسيين وشهداء الصحراء والمطرودين من الجزائر، ولعل “مغتصبي الإقليم” عمدوا، مع سبق الإصرار والترصد، إلى وضع هذا الإقليم وسكانه في قاع زجاجة تم الرمي بها في بحر بلا ضفاف.
 
ولا حرج في أن نأخذ من باب النكتة حكاية الرجل الذي هاتف زوجته وأشعرها بأنه “وصل إلى خنيفرة”، فردت عليه بلهفة “ومتى ستعود ياحبيبي إلى المغرب؟”، وهذه واحدة من تعاليق المواطنين الذين لم يعد في اعتقادهم أي رابط يشدهم بوطنهم غير البطاقة الوطنية طالما صفحات منطقتهم مفتوحة على فصول عهد ليوطي الذي أحرق أرضها وقتل مجاهديها، وأوفقير الذي دك بيوت بؤسائها وعذب مواطنيها على يد رجاله في الأقبيات السرية، إلى إدريس البصري الذي حلق شعر امرأتين منها بمقص أحد باشواته لأنهما رفضتا الرقص في بيته، قبل أن يعمد رجاله إلى تصفية شهيد المعطلين مصطفى حمزاوي، إلى باقي رموز الجرائم السياسية والاقتصادية وما فعلوه بالإقليم الذي لا يجد ما ينعش به نبضات اقتصاده غير عملة المهاجرين وراتب الموظفين ورحمة الأمطار.
 
عالم بلا بوصلة
 
 
ولا جدال مطلقا في أهمية الإقليم بالنظر لرمزيته المتميزة في تاريخ المقاومة ضد المستعمر الفرنسي، وسجله المحافظ على “خطاب أجدير”، المؤرخ في 17 أكتوبر2001، الذي أُعلن فيه عن تأسيس “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” الذي شكل محطة حاسمة في المسار التاريخي لتجسيد هوية الدولة المغربية، إضافة إلى أهمية هذا الإقليم على مستوى ثرواته الغابوية والمائية والفلاحية والمعدنية، وما يتوفر عليه من حرف تقليدية ومآثر تاريخية وتنوعات جيولوجية، وخصوصيات وموروثات وفنون شعبية، وأسماء لامعة في الفن والرياضة والثقافة والطب والاقتصاد، وكفاءات جامعية وأدمغة علمية، إما تم تهميشها أو هاجرت نحو خارج الإقليم ووراء البلاد.
 
وهناك تساؤلات ومطالب ما تزال عالقة بإقليم خنيفرة: لماذا لم يتم إحداث مندوبية إقليمية للسياحة ولا مندوبية للثقافة؟ ما معنى شعار “رؤية 2020” وبماذا ساهمت هذه الرؤية لفائدة المنطقة؟ ما مصير نداءات الفاعلين في مجال السياحة الجبلية المطالبة بإصدار “قانون للجبل”؟ وإلى متى سيطول الاستخفاف بالجانب الثقافي؟ وما مصير قاعة المسرح التي تمت برمجتها ليختفي خبرها في زحام اللامبالاة؟ علاوة على الكثير من التساؤلات التي بقيت خامدة إلى أجل قد تعترف فيه مراكز القرار بهذه المناطق وتعطيها حقها من الاهتمام.
 
من الضروري أيضا الالتزام بسياسة القرب والانفتاح، وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين والاقتراب من اهتماماتهم وحاجيات الفئات الفقيرة والمعطلة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، والتدخل لتقوية حاجيات قطاعي الصحة والتعليم، وإعادة المجد للفريق الزياني ومساءلة مسيريه، مع تحفيز الفاعلين الاقتصاديين والمنعشين السياحيين على الاستثمار، الى جانب العمل على حفظ ذاكرة المنطقة والهوية الأمازيغية، وفتح المجال لاكتشاف ما يزخر به الإقليم من مؤهلات طبيعية ومآثر مصنفة تراثا عالميا وإرثا إنسانيا، تعرضت كلها للاندثار و”الزحف العمراني”، ولا تقل عن قصبة موحى وحمو الزياني، الزاوية الناصرية، قنطرة مولاي إسماعيل، ضريحي أبا يعزة وسيدي بوعباد، آثار إغرم أوسار، مع ضرورة رفع “الضوء الأحمر” عن الزاوية الدلائية، وتقوية الاهتمام بالمدينة الأثرية (فازاز) التي اكتشفت ولم تنل حقها من الأضواء والأبحاث التاريخية.