حنان النبلي 

ينطقونها بكسر الميم "مِحيا " وبصوت منخفض، وتعلو وجوهَ بعضهم ابتسامة ماكرة حينما تسأله عنها "واش لقينا الماحْيا للدّوا؟" يقول أحد شباب المنطقة، في إشارة إلى ندرة مسكّر ماء الحياة نظرا إلى قلة العرض والسياسة الأمنية المتبعة لتجفيف منابع وأوكار صناعة المشروب الأكثر شعبية في إقليم تنغير...

هي "الماحيا"، "القاتلة"، "مرنيكا" "رويبعة" "بوخة" و"ويسكي الفقراء".. تعدّدت الألقاب والمسمى واحد لخمرة يجري استخلاصها من التين المجفف وتستعمل للتداوي من العقم وحب الشباب ولـ"التبواقْ" أيضا، بإضافة مكونات أخرى إليها.. ذاع صيتها، وظهرت نجاعتها في "تغييب" العقل العالِم؛ حتى غدت تجارة مربحة تدرّ الملايين على أصحابها الذين توارثوها – منذ سنين خلت - عن اليهود، الذين اشتهر فيهم دافيد ناهمياس وأبناؤه في الولايات المتحدة الأمريكية..

هذه التجارة التي يعوّل عليها منتجون محليون و"كرّابة" للاستفادة من مداخيلَ تخرجهم من دائرة الفقر وتغنيهم عن الالتحاق بأقربائهم الذين فضّلوا الهجرة إلى خارج الوطن هربا من شبح البطالة، الذي يقضّ مضاجع أبناء المنطقة. وجدوا أنفسهم الحلقة الأضعفَ في سلسلة الاستفادة من عائدات هذه التجارة، التي تديرها - حسب مصادرنا - شبكة منظمة في إقليم تنغير وسّعت من نشاطها وسخّرت لهذه المهمة شباباً أصبحوا يخلطون "الشّريحة" بمكونات سامة تزيد من درجة تأثير "الماحيا" وتذلل الصّعاب أمام متعاطيها، ولهذا السبب يطلقون عليها اسم "القاتلة".

"صحيفة الناس"، ورغبة منها في الوقوف على هذه الحقائق، تسلط الضّوء على عالم "الماحيا" وتقتفي أثر المنتجين الذين اتخذوا من هذه المهنة مجالا للاحتكار والمُضارَبة وإنتاج "ماحيا" مغشوشة قد تتسبب في موت متعاطيها أو تحولهم إلى مجرمين يقبعون وراء القضبان، وتقف على الوسائل والطرق المُستعمَلة في صناعتها، كما تكشف تفاصيلها وأسرارها من خلال هذا الملف، الذي يسبر أغوار هذه الصناعة السرية..

هل يتعلق الأمر بصناعة ذات صفة "موروث يهودي رمزي" مرتبط بطقوس مكون مجتمعي عريق؟ أم إنها لا تعدو أن تكون نشاطا هامشيا مستحدَثاً لـ"الكرّابة" ومروجي المشروبات الكحولية بطريقة غير مشروعة؟ ما هي كواليس صناعة "الماحيا"؟ وما هو واقع حال الاتجار فيها في مناطق الجنوب الشرقي للمملكة؟ من هم أهمّ الفاعلين المتدخلين في ترويج الماحيا ؟ ومن هم السّماسرة والوسطاء المستفيدون من هذه التجارة المحظورة؟..

************

تدر "الماحيا" المغربية ثروة حقيقية على أصحابها، والطلب عليها أكثر من العرض، حيث إن ثمن اللتر الواحد من "الماحيا" يتراوح بين 120 إلى 150 درهما. ورغم أنها نشاط محظور، فإن هوامش المدينة تعجّ بـ"صنّاعها"، وتتمركز خارج المدار الحضري والدواوير البعيدة، مثل ترموشت وحي أقبوب دوار سليلو واللائحة طويلة لأوراش معدة لصناعة "الماحيا"، غالبا ما تتخذ من البيوت والأماكن المهجورة معقلا لها، بعيدا عن الأعين ووشايات المخبرين، وغالبا ما تكون على شكل مخبأ يصعب الوصول إليه.

ارتبط وجود "الماحيا" في إقليم تنغير (بومالن دادس، قلعة مكونة، تنغير) باليهود، الذين فطنوا إلى كيفية تقطيرها وصناعتها في سرية تامة للاستمتاع بمذاقها الحلو ومفعولها السّحري، واستخدموها في أعيادهم ومناسباتهم لإشاعة الفرح والسرور..

و"الماحيا" هي لفظة مكونة من شقين : الأول "ما" أي الماء، والثاني "حيا" الذي يحيل إلى الحياة وما تحمله الكلمة من دلالة من كون هذا المشروب المقطر من التين المجفف يمنح الحياة لشاربه.. وبالنظر إلى أنّ الخمر يرمز في الدين اليهودي إلى البهجة، فقد كان اليهود يتخذون منها شرابا روحيا في مواسمهم وأعيادهم المُتعارَف عليها، وخصوصا في حفل "هيلولا"، حيث تمتزج الصّلاة بالرقص والغناء واحتساء "الماحيا"..

اكتفى اليهود، طيلة العقود الماضية، بإعداد الماحيا في محلات صغيرة في ملاحاتهم، ومنهم انتقلت هذه الصناعة إلى المسلمين واستمرّت معهم منذ سنوات خلت؛ بل إنها تحولت اليوم إلى تجارة تدرّ الملايين على أصحابها، واتخذ منها البعض مهنة للاغتناء وطرد شبح الفقر بالتعامل مع شبكات منظمة تسوق ماحيا يكثر عليها الطلب، وتسخّر تارة أخرى طاقتها لتقطير ماحيا مغشوشة مكوناتها جوارب وشفرات للحلاقة وعلب البيض وحبوب الهلوسة (القرقوبي).. ولم يقتصر الأمر على منتجين محليين، حسب مصادر، بل إنّ هناك مافيات تستفيد من هذا المسكر الشّعبي توجد خارج البلاد، وهي تكدس أموالها في بنوك أجنبية؛ أما الأموال التي تبقى في المغرب فإنها تـُستغل في مشاريع صغيرة..

وتذهب المصادر ذاتها إلى أن هناك أزيد من 500 موزع للماحيا في مناطق الجنوب الشرقي، غير أولئك الفارّين من العدالة،.. ويعدّ بايشو واحدا منهم، حيث قالت مصادر لـ "صحيفة الناس" إن التجارة التي أغنته وجعلت زوجته "المدللة" وشقيقه وراء القضبان دفعته إلى مغادرة منزله والتنكر في زي امرأة وحلق شعره.. من أجل التنقل وتجنب السّقوط في قبضة العدالة.. وغير "بايشو" هناك منتجون ومروجون يقضون حياتهم في الانتقال من مكان إلى مكان أو في دفع الإتاوات لبعض "أصحاب الحال" لكي يغمضوا عنهم الأعين.. 

*************

بومالن دادس.. ماحيا أزنداك عالية الجودة

 

هنا بومالن دادس الجماعة الحضرية التي تقع داخل نفوذ باشوية بومالن دادس عمالة إقليم ورزازات التابعة لجهة سوس ماسة درعة.

بومالن دادس تحظى بموقع إستراتيجي تتوسط فيه كل من قلعة مكونة وتنغير وإكنيون أمسمرير، وتشرف على هضبة يصل ارتفاعها 1580 مترا. تحد بلديتها من ناحية الشرق والشمال والجنوب جماعة أيت يول، وتحدها من ناحية الغرب جماعة سوق الخميس دادس، وتخترقها الطريق الوطنية رقم 10 المؤدية إلى بوعرفة والطريق الجهوية رقم 704 المؤدية إلى أمسمرير، وتبلغ ساكنة بومالن دادس 11179 نسمة على مساحة تقدر بـ76 كلم.

الوصول إلى بومالن دادس لم يكن سهلا، القيظ كان شديدا، والطريق الضيقة تتحول في محطات منها إلى فجاج بين مرتفعات جبلية، لا يكسر رتابتها إلا الجمال الذي تفضي إليه: قصور ترابية بين واحات نخيل وادي دادس.

 بدت المنطقة رابضة في العياء والاجترار، الأشجار مرتجفة ومرتعدة، لا ترى غير خطوات وئيدة ولا تستطيع مغالبة البؤس الذي تفضح سحنات ساكني هذه الرقعة الجغرافية..

المنطقة تعرف انتشارا واسعا لصناعة وترويج "ماء الحياة"، وتتمركز في بعض أحيائها الهامشية نقط لبيع "المرنيغا"؛ وهو ما جعلها في مأمن حوّلها خلال العقد الأخير إلى معقل لكبار مروجي مشروب الماحيا الشعبي وإنتاجه.

ونظرا إلى أن الجماعة لا تتوفر على حانات لبيع الخمور، فإن الماحيا أصبحت تشكل جزءا من الثقافة الخمرية لدى عدد من سكان المنطقة. كما أن عددا من الأحياء والدواوير التابعة لها قد اشتهرت بصناعة وتجارة هذا النوع من المسكرات. ويعد حي أيت يدير الشهير بالحفرة من النقط السوداء التي تروج فيها الماحيا، نظرا إلى توافد الشباب الراغبين في خدمات ممتهنات الجنس على هذا الحي.

في هذا الحي بالضبط، كان لنا لقاء مع منتج محلي، أفنى أزيد من عشر سنوات من عمره في تقطير شراب الماحيا ومد الزبناء الراغبين فيه بجرعات من مسكر "ماء الحياة" الذي تعلم أولى أبجدياتها على يد مروج وافته المنية بسبب الإدمان..

هروبا من الأعين، قادني "ح. ن" إلى ضفاف الوادي، حيث تنتشر أشجار التين التي تصعب مقاومة رائحتها.. وفي الطريق، كان يشرح لي كيفية تحضير وتقطير الماحيا التي اعتبر المتحدث أن أجود أنواعها تلك المستخلصة من كرموص أزنداك..

عبر عملية أساسية يتم الحصول على جوهر "ماء الحياة": التقطير، الذي جرى اختراعه حوالي العام الـ 800 ميلادية على يد جابر بن حيان بعد أن قام بتحويل "الكيمياء القديمة" إلى "الكيمياء الحديثة"، مخترعا العديد من العمليات الأساسية والأدوات التي لا تزال تستخدم إلى حد الآن.

هناك عدة خطوات تتّبَع في هذه العملية شرحها المصدر ذاته لـ "صحيفة الناس": "حسب المطلوب استخلاصه من الماحيا، يتم وضع مقدار التين المجفف في إناء كبير، وتضاف إليه الخميرة وسكر سنيدة حسب الرغبة، ثم يغلق الإناء بإحكام لمدة زمنية تتراوح بين 20 يوما إلى شهر؛ وهي عملية تسمى بالتخمر (Fermentation). بعد هذه المرحلة، تصبح للمادة المخمرة رائحة معينة يتعرف عليها المنتج عبر الاستنشاق ثم يتم وضع الخليط في إناء آخر، يتم إغلاقه بإحكام ما عدا فتحة صغيرة يخرج منها أنبوب نحاسي نهايته مغمورة في الماء، ثم تترك المكونات تحت درجة حرارة مرتفعة لتتفاعل.

يواصل "ح. ن" حديثه إلى "صحيفة الناس" موضحا أن مشروب الماحيا يختلف عن أي مشروب كحولي آخر؛ وذلك لكونه غير ثابت التركيز أو الجودة أو الطعم، بل يتغير تبعا لمهارة صانعه وظروف تحضيره، فإذا كــان الصانع لا يعتمد نظافة الأدوات والمعدات  المستعملة، فإن ذلك يؤثر على جودة المشروب، كما أن نوعية التين تتحكم في فعالية الماحيا، ويعتبر التين المائل إلى السواد من الأنواع المطلوبة في صناعة مسكر ماء الحياة..

أكثر من هذا، فإن  "ح. ن" تحدث عن شبكة لترويج الماحيا نشطت في السابق في بومالن دادس، حيث كان من بين عناصرها ضباط تم توقيفهم لسبب ما بعد الخدمة العسكرية الإجبارية يستخدمون في الترويج للماحيا التي يتم استيرادها من الصويرة ومكناس ودمنات ومن منطقة "إمكون" من أجل بيعها في منطقة بومالن وفي الحفرة مرتع العاهرات.

ثمن الماحيا المقطرة من التين والخميرة دون أية إضافات يتراوح بين 120 إلى 150 درهما للتر الواحد، وتسمى "ماحيا خام"  وهي مطلوبة بكثرة في المنطقة رغم ثمنها المرتفع حسب ما أفادنا به أحد "الكرّابة" على عكس الماحيا المخلوطة بمكونات أخرى والتي يتأرجح سعرها بين 20 إلى 80 درهما.

ويشرح المصدر ذاته أن أكثر الفئات استهلاكا لهذا المشروب هم المراهقين ورجال التعليم وبعض ممتهنات الجنس، مشيرا إلى أنه قد يبيع أزيد من 60 لترا من الماحيا في اليوم الواحد، ويتضاعف الطلب في فصل الصيف ويوم السوق الأسبوعي حيث تملأ المدينة بـ"البراني"..

تتمركز صناعة الماحيا، حسب المعطيات التي حصلت عليها "صحيفة الناس"، بالدواوير البعيدة عن الجماعة؛ كترموشت وحي أقبوب ودوار سليلو. وتتم تلك الصناعة، في الغالب، في أماكن بعيدة عن السكان، وتكون على شكل مخبأ يصعب الوصول إليه.

بعد عناء البحث عن منتجين محليين لمسكر "ماء الحياة"، دلنا أحد أبناء المنطقة على منزل معد لهذا الغرض بدوار ترموشت. يبدو المنزل لرائيه مهجورا ولا تسكنه إلا الأشباح، على جنباته ركام من قنينات مشروبات غازية وقاذورات وبراميل مختلفة الأحجام. فور الاقتراب منه تلفح أنفك رائحة تزكم الأنفاس. لم يكن من السهل إقناع الموجودين خلف هذا الوكر بالحديث إلينا؛ بل إننا طرقنا الباب طويلا، قبل أن نقنع أحدهم بإجراء مقابلة معنا شرط التحفظ عن ذكر الأسماء.

عند أول قدم تطأها بهذا المنزل، تدرك أنك في مصنع صغير للماحيا، فلا أثر يدل على الإقامة الدائمة فيه؛ بل إن بهوه ممتلئ بالأدوات المستعملة في صناعة الماحيا: براميل كبيرة للتخمير، وقنينات غاز، وأفران، وأوان مصنوعة من الألمنيوم خاصة بالتقطير، وعلب البيض المستعملة وبقايا غبار الدواب...

يعمل في هذا الورش السري ثلاثة أشخاص: الأول في الأربعينيات من عمره، وهو مختص في أشغال التخمير والتقطير التي تعلّمها على يد والدته التي كانت تقطر الورد في المنزل، إذ يؤكد هذا الأخير الذي له صاحب سوابق عدلية أن تقطير الماحيا لا يختلف عن تقطير الورد كثيرا، فالطريقة المستعملة هي نفسها مع بعض التفاصيل المتعلقة بإضافة الخميرة والسكر وبعض النكهات حسب الرغبة. ويضطلع الشخص الثاني بمهمة جلب البراميل والقنينات المستعملة في تسويق الماحيا. أما الشخص الثالث، وهو شاب لا يتجاوز العشرينيات من عمره، فقد حددت مهمته في تسويق ماء الحياة لزبنائه المعروفين، والذين يشكل الشباب القاعدة الكبرى منهم.

ليس دوار ترموشت وحده من يضم أوكارا لصناعة الماحيا؛ بل إن هناك نقطا سوداء كثيرة في المنطقة ما زالت تعمل في سرية تامة وتنسيق كبير فيما بينها رغم الحملات الأمنية التي تقوم بها عناصر الدرك الملكي، نظرا إلى  الإقبال الكبير على الماحيا من لدن المستهلكين لرخص ثمنها وقدرتها على الإسكار. وفي هذا الإطار، أفادت مصادر مطلعة لـ "صحيفة الناس" بأن عناصر الدرك الملكي بالمنطقة قد تمكنت، خلال بداية السنة الجارية، من تنفيذ عدد من المداهمات لتجفيف منابع صناعة الماحيا. وأوضحت المصادر ذاتها أن العملية الأولى، التي نفذتها مصالح الدرك خلال شهر يناير من هذه السنة بدوار ترموشت، أسفرت عن حجز طنين من الشريحة المخمرة و8 قنينات غاز و8 طناجر ضغط مختلفة الأحجام و400 لتر من الماحيا الخام المقطرة؛ فيما لاذ صاحب هذا المصنع الصغير بالفرار. وحسب المصادر ذاتها، فإن العملية الثانية جرت خلال شهر أبريل من السنة الجارية بحي أقبوب، حيث تمت مداهمة المنزل وحجز 500 لتر من الماحيا معد للبيع و6 قنينات غاز و6 طناجر للضغط، كما ألقي القبض على المسؤول على "المصنع" وهو من ذوي السوابق، وأدين بـ8 أشهر. وجرت المداهمة الثالثة خلال شهر فبراير الماضي بمكان مهجور بدوار سليلو، حيث تم ضبط مجموعة من الأدوات والمعدات المستعملة في تقطير الماحيا كطناجر الضغط وبراميل مختلفة الأحجام،وضبطت معه مجموعة من المحجوزات والأدوات، وهي العملية التي جاءت بعد سلسلة من التحريات سبقتها عمليات مراقبة ورصد همت محيط المنزل بعد ورود عدة إخباريات وشكايات في الموضوع.

‏ مصدر عاين العملية يروي ما وقع ذلك اليوم لـ"صحيفة الناس" قائلا: "لقد فاجأت عناصر الدرك المنزل المهجور، حيث تصنع كميات كبيرة من ماء الحياة، إلى درجة أن المروجين لم يكونوا يتوقعون أن يصل إلى مخبئهم أحد، وكانوا يظنون أن أي فرقة أمنية من الصعب عليها الوصول إلى مخدعهم، وأن لهم عيونا تراقب ما يقع؛ وهو ما يمكن أن يتيح لهم فرصة الهروب والاحتماء بمسالك وادي دادس، لكن حدث ما لم يكن متوقعا حيث جرت محاصرة المكان دون إلقاء القبض على أصحابه".

******************

قلعة مكونة.. الماحيا القاتلة

كانت مدينة قلعة مكونة وجهتنا الثانية لسبر أغوار صناعة الماحيا.. بدت مدينة الورد أشبه بالغارقة في حداد دائم، فقد انفض المهرجان الذي زرع فيها بعض الأمل وأنعش ركود محلاتها التجارية، لتعود إلى سابق عهدها، رتابة تطبع ليلها ونهارها.

عـدد كـبير من "الكرّابة"، الذين دلنا عليهم أبناء المنطقة، أنكروا تعاطيهم لهذه التجارة المحظورة، بعضهم فقط اعترفوا بأنهم توقفوا عن صناعتها في منازلهم لأن رمضان على الأبواب.

أيوب 35 سنة، مستواه الدراسي لا يتعدى الشهادة الابتدائية، اعترف بأنه يقطر الماحيا في منزله ويبيعها على نطاق ضيق لأصدقائه ومن يثق بهم، لأنه لا يريد أي مشاكل مع السلطات ويفضل أن يتحفظ على توسيع نطاق تجارته، ورغم كل ذلك يعترف هذا الأخير: "أقطر الماحيا بمفردي؛ فمنذ أزيد من ثلاث سنوات بدأت في هذه العملية كهاو، لكن سرعان ما تحولت إلى "كرّاب" يقصدني أصدقائي الذين يدفعون لي مقابل اللتر الواحد من 80 إلى 120 درهما".

أما إسماعيل وهو أحد منتجي المشروب الأكثر شعبية، فقد تحدث لنا عن صنفين من المنتجين التقليديين للماحيا؛ الصنف الأول هو الذي أطلق عليه محدثنا وصف الأباطرة أو تجار الجملة، وهؤلاء متخصصون في إنتاج كميات كبيرة موجهة إلى تزويد تجار التقسيط بالكميات المناسبة لترويج هذا المشروب وتوزيعه على الراغبين فيه. أما الصنف الثاني من المنتجين التقليديين للماحيا، الذي يصر إسماعيل على تسميته بـ"القاتلة" نظرا إلى قوة تأثيره وعاقبة مآلها، فهم المنتجون الذين يضطلعون بدور مزدوج يقوم على الإنتاج والترويج معا، ويرتبط مقدار الكميات التي ينتجها "بزناسة" هذا الصنف بمعدل الطلب الذي يتلقونه من المستهلكين المباشرين للماحيا.

يبلغ معدل الإنتاج اليومي لإسماعيل ينتج ما بين 130 لترا إلى 400 لتر، ويحقق حوالي عشرة آلاف درهم شهريا حسب سوق العرض والطلب. وعن الثمن الذي يتقاضاه من زبائنه "الكرابة" الآخرين الذين عليهم إعادة البيع بالتقسيط، أشار الرجل إلى أن البيع بالجملة الذي يمارسه لا يعتمد اللتر كوحدة؛ بل يعتمد "البيدون" الذي يسع خمس لترات وثمنه 120 درهم، وهو ما يترك، حسبه، لبائعي التقسيط هامشا كبيرا للربح، خاصة أنه يعطيهم "ماحيا مقطرة صافية" غير ممزوجة بعد بالماء، وهو ما سيقومون به من بعد، فتتحول كمية الخمس لترات إلى ما يقارب السبع لترات. هذا إذا لم يلجأ بائعو التقسيط، كما أفاد بذلك محدثنا، إلى أساليب التدليس والغش المعتمدة في هذا الصدد والتي سبقت الإشارة إليها.

وحول مسؤولية انتعاش تجارة الماحيا بالمنطقة، يقول سعيد، وهو طالب جامعي ومن أبناء المنطقة، إن الجهات الرسمية تتحمل هاته المسؤولية بالنظر إلى أنها حينما سنت قانون 110.13 الخاص بالسنة المالية 2014 ضرائب جديدة على الخمور والمشروبات الكحولية فتحت الطريق لتوسع شبكة تجارة الخمور في مجالها غير المهيكل الذي يعرف نشاطه رواجا كبيرا لاستهلاك هذه المشروبات لدى ما يعرف عند المستهلكين باسم "الگرابة" أو التجار الذين يزاولون بيع هذه المنتجات خارج القانون في محلات غالبيتها منازل وأقبية غير مرخص لها. كما فتح هذا القانون الطريق أمام التهريب الذي كانت سوقه أصلا رائجة قبل أن تنتعش مع أولى بوادر الضرائب الجديدة على الخمور، إضافة إلى توسيع شبكة ترويج الخمور والمشروبات لدى "الگرابة" وانتعاش سوق التهريب.

ويكفي، في هذا الصدد الإشارة، إلى العمليات الفاشلة التي تقوم بها عناصر الدرك الملكي في المنطقة والتي نادرا ما تفلح في الإيقاع بعصابات متخصصة في ترويج الماحيا وتفكيك محلات معدة لصنع الماحيا وبيعها بالتقسيط، كما هو العملية الأخيرة  التي نفذتها عناصر الدرك الملكي بقلعة مكونة في فاتح يونيو الجاري، حيث فككت وكرا معدا لصنع وبيع مسكر "الماحيا" بأحد الدواوير المجاورة للمدينة، وألقت القبض على المسؤول على "المصنع" والذي ضبطت معه مجموعة من المحجوزات والأدوات.

ومكنت العملية النوعية عناصر الدرك الملكي من حجز أكثر من 130 لترا من "الماحيا" و9 براميل من الحجم الكبير مملوءة بالتين المخمر و90 كيلوغراما من التين اليابس. بالإضافة إلى ذلك تم حجز 11 طنجرة ضغط "كوكوت" مختلفة الأحجام الحجم، و5 قنينات غاز إلى جانب مجموعة من الأواني والمعدات المستعملة في صنع "الماحيا"، كما تم اعتقال الشخص المسؤول عن هذا الوكر الذي يعد واحدا من بين أوكار كثيرة معدة لهذا الغرض.

ولعل ارتفاع الطلب وازدياد أعداد المستهلكين لهذا النوع من الخمر هو الذي دفع عددا من منتجي الماحيا إلى ابتكار طرق أخرى في صناعتها لها من التأثير الكبير على صحة شاربها الذي يغيب كل تفكير محتمل بالأذية ويتبع هوى " الماحيا القتالة"..

فكيف تجري عملية تقطير الماحيا المغشوشة؟ وما هي المواد الذي تدخل في هذه العملية؟ وكيف يميّز المستهلك بين الماحيا الطبيعية والمقلدة؟ وما هو تأثيرها على صحة المستهلك؟

***************** 

ماحيا مغشوشة وقاتلة

 

يختلف نوع "الماحيا" تبعا لاختلاف منتجيها، واختلاف الوسائل المستخدمة في تقطيرها من إضافة نكهات كالبسباس أو مكونات خطيرة.. كما تختلف نسبة تركيزها الكحولي التي تصل في بعض الحالات لمعدلات خطيرة قد تتسبب في حدوث تسمم كحولي. ولهذا، اعتبر مسكر ماء الحياة غير مأمون ولا يدعو إلى الطمأنينة ومن ضمن الأسماء التي أطلقت عليه "القاتلة"، حيث يعمد بعض منتجي هذا النوع إلى إضافة مكونات ومواد خطيرة على صحة المتعاطين بهدف زيادة نسبة تركيز المادة الكحولية المنتجة، وربح الوقت من جهة أخرى لأهداف تجارية.

واستنادا إلى المعطيات التي حصلت عليها "صحيفة الناس" من مصادر مقربة من صناعة هذا الشراب المحظور، فإنه غالبا ما يتم استعمال مواد أخرى بدل استعمال الشريحة. وعلى اعتبار أن المحاليل السكرية والنشوية إذا وجدت في حرارة معتدلة ومعها الخميرة اللازمة لعملية التخمر يمكن أن تتحول إلى خمر وتشكل مادة الكحول لذلك، فإن مروجي ماء الحياة غالبا ما يلجأون إلى الطريقة الأسهل، حيث يعتمدون في صناعة ماء الحياة على قليل من التين المجفف "الشريحة" والسكر (سنيدة) والخميرة فقط، يفضلون هذه الطريقة نظرا إلى أنها أقل تكلفة كما يفضلونها لأنها أقل رائحة وذلك لإحاطة عملية التقطير بأكبر قدر من السرية، فضلا عن كون مدة تخمر السكر لا تتعدى 5 أيام، كما أن كثيرا من صانعي ماء الحياة يلجأون إلى إضافة مكونات خطيرة على صحة الإنسان إلى إنتاجهم من الماحيا لأسباب تجارية، بهدف رفع نسبة الكحول وإعطاء إنتاجهم قوة إسكار تخدع المتعاطين، دون أن يدركوا أن وراء ذلك خطرا كامنا على صحتهم وأحيانا على حياتهم.

ويلجأ بعض المنتجين إلى استعمال العلب المستعملة في البيض، والجوارب المستعملة، وشفرات الحلاقة، وحبوب الهلوسة لماحيا أكثر تأثيرا، تخمر هذه المواد مع الشريحة والسنيدة قبل أن يجري تقطيرها وبيعها للكرّابة والمستهلكين، بالإضافة إلى أن هناك عددا من المختصين في صناعة "الماحيا" يعمدون إلى مزج الكحول أو أقراص القرقوبي بالمواد الأولية المستعملة في تحضير هذا النوع من الخمر، وذلك من أجل الحصول على مفعول تخديري أكثر نجاعة وفعالية. كما أن هذه المواد الضارة المستعملة في صناعتها يمكن أن تتسبب في الشقيقة المستمرة وتليف الكبد وأضرار المعدة والوفاة أحيانا كثيرة..

وحسب تصريحات أحد المستهلكين، فإن هذا النوع من "الماحيا" غالبا ما يتسبب في أضرار ومشاكل تؤثر سلبا على شاربها، الذي يقع تحت تأثير المخدر ولا يدرك ما يقع له إلا بعد فوات الأوان؛ فتدريجيا يتحول إلى مدمن لا يطفئ ظمأه إلى ماحيا "قاتلة"، ثم سرعان ما يصاب بالهزال وتبدأ مشاكل المعدة في الظهور. كما أن تناول جرعات زائدة من هذا المشروب قد تسبب في أزيد من حالة وفاة..

*****************

تنغير من الفضّة إلى الماحيا

وجهتنا الثالثة في هذا الملف كانت مدينة تنغير التي ارتبط اسمها في القديم بـ"تودغت"، إذ تقول الحكاية إن إحدى ساكنات الجبل جاءت إلى الواحة لسقي ماشيتها بالوادي والتي تسمى "تودغة" وهو تحريف لكلمة "تودرت"والتي تعني "الحياة". وبهذه المدينة المشهورة بالفضة ومضايق تودغى تنشط شبكة ترويج "ماء الحياة" وأنواع المخدرات..

وتنغير معروفة بإنتاج الماحيا بنوعيه: التين المجفف والتمر، رغم أن أغلب المنتجين يصرون على اعتبار ماحيا "الشريحة" هي المعتمدة والمطلوبة في سوق سوداء تفتقد إلى إحصائيات وأرقام رسمية ومعفية من رسوم الضرائب.

إعداد ماحيا التمر في المنطقة لا يكاد يختلف عن ماحيا التين، فهو يخضع لنفس عملية التخمير والتقطير والاجتهاد أحيانا بإضافة البسباس وبعض النكهات لإعطاء المذاق المطلوب لهذا المشروب.

إلا أن ماحيا التمر كما أفادنا بذلك أحد المنتجين لهذا المشروب تشترط الدقة في الإعداد والانتباه إلى الرائحة بعد إضافة الخميرة، إذ لا ينبغي أن تتجاوز مدة التخمير 15 يوما، يخضع بعدها التمر المخمر لعملية التقطير..

وحسب المعطيات التي حصلت عليها "صحيفة الناس"، فإن مروجي الماحيا يتخذون من البيوت المنهارة التي هجرتها السكان مصنعا لتقطير شراب الماحيا وبيعه؛ لكن الجديد  هو توسع الظاهرة إلى مناطق بالمدينة. ومن هنا، تحولت منطقة تودغى العليا، التي تبعد عن مركز المدينة بـ7 كيلومترات، إلى مركز محلي لبيع الماحيا يتوافد الزبائن عليه من المناطق المختلفة بالمدينة. ويعتبر الشباب العاطل أبرز الزبناء الأوفياء لخدمات هؤلاء المروجين..

شبكة ترويج الماحيا تنشط أيضا بمنطقة أفانور، حيث تتحكم عصابات في ترويج الماحيا وأصناف المخدرات على مرأى من السلطات الأمنية، على حد تعبير عدد من أبناء المنطقة الذين استنكروا ما وصفوه باللامبالاة وجعلهم يطرحون عددا من علامات الاستفهام حول إمكانية التواطؤ مع هؤلاء الأباطرة بتنغير.

******************** 

تجارة مدرة للأرباح

تدر تجارة "الماحيا"، في مناطق الجنوب الشرقي التي زارتها "صحيفة الناس"، أموالا مهمة على مروجيها ومنتجيها. وقد حافظ منتجو ماء الحياة بالمدينة ومحيطها على نمط واحد في التصنيع والتعبئة والتسويق، حيث تتم تعبئة الماحيا في أكياس بلاستيكية معدة أصلا للمواد الغذائية، من سعة 5 لترات. ويباع الكيس، الذي يحتوي على 5 لترات من ماء الحياة أو "الخامسة" على حد تعبير أصحاب المهنة، بمبلغ مالي قدره 150 درهما. ويتفاوت هذا السعر حسب الجودة.

أما تجار الماحيا بالتقسيط، فإنهم يقومون ببيع هذه المادة للمستهلكين بمبلغ مالي يصل إلى 50 درهما للتر الواحد، حيث يتفرقون في نقط معينة بالمنطقة كالحي الصناعي وأفانور ودوار ترموشت وحي أقبوب وغيرها، حيث تعرف بعض الأماكن داخل هذه الأحياء، توافد عدد من المستهلكين من أجل البحث عن بائع الماحيا أو "الكرّاب" على حد تعبيرهم.

وحسب مصادر الجريدة، فإن تجارة "الماحيا" يزاولها في الغالب صنفان: صنف يجعل من مقر سكناه محلا لبيع الماحيا، حيث يتوجب على الزبناء اقتناء المطلوب والانصراف. أما الصنف الثاني، فله مقر خاص في الهواء الطلق يحضر إليه بسلعته، حيث يمكن للزبناء بعد اقتناء الماحيا أن يحتسوها في ما يشبه حانة في الهواء الطلق. ويسمى مقر الكرّاب، وفق القاموس المتداول، بـ"القاعة"؛ على أنه لا علاقة لهذا الاسم بالحجرة أو الغرفة كما في اللغة العربية، بل له علاقة بـ"الكاعة"، أي البيدر الذي يعني في الفصحى الرقعة من الأرض، حيث يدرس المحصول الزراعي ويذرى بعد الحصاد.

يأخذ الصنف الأول شكل ما يشبه "مقاولة عائلية"، حيث إضافة إلى وقوفنا على حالات لعب فيها توارث مهنة المتاجرة في الماحيا دورا كبيرا، هناك أيضا واقع استعداد أفراد العائلة الواحدة للنيابة عن البزناس في حالة ما إذا تم إيقافه وإيداعه السجن، إذ يبادر الأخ أو الابن أو الزوجة وأحيانا حتى الأم إلى استئناف الإنتاج والترويج إلى حين عودة البزناس الرئيسي، كما وقع مع عائلة "بايشو" في القلعة، حيث بادرت زوجته وشقيقه إلى استئناف نشاط البيع بعد أن فر هذا المروج بعيدا عن أعين السلطات.. أما الصنف الثاني، أي صاحب القاعة، فإنه وبفعل الملاحقات الأمنية والسوابق التي ملأت سجله، فإنه يكون في الغالب منبوذا من لدن أسرته بسبب نشاطه بالذات، إضافة إلى أن ثمة حالات صادفناها ضمن هذا الصنف تجمع بين الاتجار في الماحيا وبين ترويج المخدرات كالحشيش والقنب الهندي. 

******************* 

مهرّبو الماحيا

‏يحكي أحد أبناء تنغير أن مهربي الماحيا يتكلفون بتوفير الوجبات الغذائية لعناصر الشبكة التي تنشط في هذا الإطار والتي تتلخص مهمتها في مراقبة أوكار صناعة الماحيا.

‏ويتقاضى عناصر المراقبة 100 درهم عن اليوم الواحد، وأغلبهم غرباء عن المنطقة يضطرون إلى قضاء شهر ونصف الشهر في تلك الأماكن المهجورة والبعيدة عن المناطق السكنية.

‏ويؤكد المصدر ذاته أن الماحيا تقطع مسارا من هذه الأوكار إلى نقط البيع المتمركزة في المدن ويتم شحنها في شاحنات أو سيارات رباعية الدفع تساهم في وصولها إلى مكانها المحدد. ويضيف: "الماحيا تهرب في شاحنات وسيارات تستبدل صفائحها خوفا من التوقيف؛ لكن في أحيان كثيرة تتغاضى عنها الجهات المخولة بالمراقبة وتتقاضى عمولات نظير ذلك".

رغم الجهود المبذولة لمحاربة "الماحيا" في المغرب، فإن هذه الأخيرة تظل في كل مكان، وتجارتها في تزايد مستمر فهي سوق رائجة ينشطها عرض واقع وطلب قائم.

يخضع تثمين مشروب الماحيا لقاعدة غير قارة حسب المنطقة وطبيعة المروجين وغالبا ما يعتمد تجار الجملة على اللتر؛ وذلك وفق ثمن غير قار محدد يتراوح من 80 إلى 150 درهما للتر الواحد.

تجارة الماحيا مكسبة للغاية، سواء كان البزناس منتجا ومروجا في الآن نفسه أو كان مروجا فقط. وهناك أكثر من حالة معروفة له لبزناسة استطاعوا، بعد سنوات من المتاجرة، تحقيق مشاريع أو حيازة عقارات وأراض، "ودارو من الماحيا لاباس" على حد تعبير أحد المصادر التي التقت بها "صحيفة الناس".

معطى آخر لا يمكن إغفاله في هذا الصدد وهو كون سوق الماحيا في المغرب لا تقف عند حدود تجارة مربحة تسهم في إنعاش الحركة الاقتصادية للسوق السوداء؛ بل إنها تعد مصدرا مقلقا لمجموعة من الجرائم والانحرافات المهددة للنظام العام، لكونه تجعل الطريق سهلا أمام متعاطيها للجريمة بمختلف أشكالها، ولا أدل على ذلك الحوادث التي ارتكبها مدمنون تعاطوا هذا الشراب منهم من يقبع وراء القضبان ومنهم المتابعون بتهم الضرب والجرح وحيازة السلاح الأبيض وإثارة الضوضاء والشغب في الشارع العام.

وفي هذا الصدد، أكد مصدر أمني أن الدرك الملكي والسلطات الأمنية عامة لا تدخر جهدا في مكافحة هذا النوع من الاتجار غير المشروع في الماحيا، وفي كل أنواع الاتجار في الممنوعات عموما انطلاقا من إدراكها الملموس، وعن قرب، لما يترتب عن هذه الأنشطة غير المشروعة من انعكاس خطير على معدل باقي الجرائم الأخرى؛ لكنه استدرك أن الأمر ليس بالسهولة التي قد يبدو عليها، وذلك بالنظر- حسب تصريح المصدر نفسه دائما- إلى أن العناصر النشيطة في هذه التجارة تمتلك قدرا من الاحترافية والتنظيم أيضا، ولها قدرة على تحدي التدابير التي تعتمدها السلطات في مواجهتها. كما أن لها وسائلها في استشعار التحرك الأمني باتجاهها، نظرا إلى كون المنتجين والمروجين هم من الخارجين عن القانون ومن المبحوث عنهم في أكثر من ملف؛ وهو ما يعني أنهم أصلا على استعداد دائم لتلافي السقوط في أيدي السلطات. كما أن المواقع التي يستخدمونها في الإنتاج أو الترويج هي مواقع منتقاة بعناية تعطيهم إمكانية مراقبة كل المسالك التي يمكن أن تشكل منافذ لمداهمتهم، إضافة إلى أن ثمة- وفق تصريح مصدرنا دائما- أسلوبا جديدا طالما تمت ملامسته، ويتمثل في استعمال الهواتف النقالة لإعلام البزناس بتوجه الدوريات الأمنية صوب منطقته. ويقوم بهذه المهمة، عادة، معاونون خاصون لهذا البزناس وأحيانا يتعلق الأمر بمواطنين عاديين غير متورطين معه أبدا..

*****************

المستهلك ... عند رخصو تخلي نصّو

 

عكس الصورة النمطية المألوفة في كون الإقبال على الماحيا لا يكون إلا من لدن المدمنين والمراهقين الذين ينتمون إلى الفئات الفقيرة والمهمشة، فإن "صحيفة الناس" اكتشفت بالإضافة إلى هذه الفئة التي تعتبر هذا الخمر مشروبها المفضل الذي يلائم قدرتها الشرائية، فإن هناك فئة متوسطة ينتمي أغلبها إلى فئة رجال التعليم والموظفين الذين يفضلون اقتناء الماحيا عن أي مشروب كحولي آخر، ومستعدون لأن يدفعوا ثمن 150 درهما يوميا نظير "سحر سكرها"؛ لكن ما يثير خوفهم هو الحديث عن مواد سامة تخلط بهذه الماحيا يصعب عليهم تصنيفها.

إن مستهلكي هذا النوع من الخمر الرخيصة ينتمون إلى شرائح اجتماعية مختلفة، كما أن حضور أفراد من شرائح متوسطة وأحيانا ميسورة لا يأخذ، مع ذلك، صفة الاستثناء، خاصة عندما يتعلق الأمر بحالات الإدمان التي تفرض على صاحبها تناولا انتظاميا ويوميا للخمر. وهو أمر، غالبا، ما يمثل مع المدة إنهاكا ماديا للمدمن، مهما كان مستواه الاجتماعي ودخله المالي، خاصة مع الارتفاع الكبير الذي عرفته أثمان الخمور الرائجة في السوق الرسمية. على أن الأمر لا يعدم -كما صادفنا ذلك- وجود من يتعامل مع الماحيا كما يتعامل مع ماركته المفضلة من السجائر، بحيث لا تحلو له معاقرة أي شراب آخر غير الماحيا..

ورغم أن الكثير من مستهلكي الماحيا الذين التقتهم "صحيفة الناس" واعون بخطورة المادة التي يتناولونها، خاصة من ناحية غياب الشروط الصحية أثناء عملية إعدادها، كما أن لهم شكوكا حول المواد التي يمكن أن تكون قد أضيفت إليها لهذا الغرض أو ذاك، إلا أنهم جميعا يردون على سؤال عن سبب الاستمرار في تناولها رغم شكوكهم وأحيانا يقينهم بالقول إن "البلية صعيبة"، خاصة إذا ما اقترنت بالبطالة وانسداد الآفاق..

ويعد التهاب الكبد الفيروسي من أكثر الأمراض التي تلاحق المدمنين على الماحيا. ويبقى حسن، وهو أستاذ متقاعد، مثالا يلخص رحلة معاناته مع التهاب الكبد الفيروسي جراء إدمانه شراب الماحيا، لما يربو عن خمس عشرة سنة قبل أن يتوب عن ذلك منذ ثلاث سنوات تقريبا.

********************

الماحيا.. لعلاج العقم وحب الشباب ونزلات البرد

 

يستعمل مسكر ماء الحياة الخالص، حسب الرواية التي استقتها "صحيفة الناس"، كعلاج لمشاكل الإنجاب وعقم الزوجين. كما تستعمل جرعة من الماحيا لعلاج تساقط الشعر ومشاكل حب الشباب. وفي هذا السياق، تشرح نزهة 25 سنة أنها كانت تعاني من مشكل تساقط الشعر لسنوات، حتى نصحها أحد أقربائها باستخدام الماحيا كزيت للشعر. تقول نزهة: "رغم رائحتها القوية التي تجعل عينيّ تدمعان، إلا أن أسبوعا واحدا من الاستعمال جعل النتيجة تكون مبهرة، حيث توقف شعري عن التساقط، وبدأ في النمو من جديد". وتذكر المتحدثة في هذا الإطار كيف أنه لم تسلم من سهام شك شقيقها الأكبر ووالدها، حيث هاجماها قائلين: "أصبحت تتعاطين الماحيا.. قبل أن يفطنا أنها تستعملها لعلاج تساقط الشعر".

كما تحظى الماحيا لدى مستعملي مواد التجميل بشعبية كبيرة، إذ تستعمل استعمالات خارجية، فهي مضادّة لتجاعيد الوجه.

وبفضل مادة "الميثالويثونيدز" التي يحتوي عليها التين، فإن عددا من المروجين يذهبون إلى القول بأن هذا المشروب يزيل أعراض الشيخوخة، ويوصف لعلاج آلام المعدة واللثة والبثور، ويزيل مشاكل الرشح والزكام وآثارهما على الأنف والحنجرة. كما تفيد في علاج الحمى ونوبات الإسهال ومشاكل البرد، خاصة في المناطق التي تتميز بالتساقطات الثلجية.

********************

اليهود يحتفلون بالماحيا ويقطرونها بسرية

يعود تاريخ صناعة مشروب "ماء الحياة" إلى سنوات خلت، إذ ربطه عدد من المؤرخين باحتفالات اليهود بأعيادهم قبل أن يحوله المغاربة إلى تجارة تدر الملايين.

وبالعودة إلى التاريخ، يحكي أحد اليهود أنه خلال حقبة الأربعينيات والخمسينيات كان يمنع صنع أو تقطير "ماحيا" في أحياء الملاح، التي يسكنها اليهود. ويضيف: "لم يكن ممكنا إيجاد ولو قطرة من ماء الحياة التي ألفنا شربها إلا بعد مجهود كبير، لأن السلطات منعت تقطيرها وأغلقت عددا من البيوت؛ ولكن من أجل الوصول إلى ماء الحياة كنا نلتجئ إلى أحد اليهود من أصدقاء والدي في الملاح، استطاع أن يجهز معملا حقيقيا لصناعتها وتقطيرها، والإشهار الذي كان معمولا به خلال تلك الفترة هو "إشعار الأذن" فقط وبسرية تامة".

تقطر الماحيا وفقا للتقاليد القديمة في المغرب، ويتم اختيار التين الطازجة بعناية قبل الشروع في التخمير والتقطير. لا تستخدم السكر أو المواد المضافة.

من جانبها، خصصت "نيويورك تايمز"، في أحد أعدادها، مقالا لمشروب ماء الحياة. الصحيفة الأمريكية ذكرت أن هذا المشروب يصنع من التين المجفف عكس المشروبات الروحية الأوربية التي تصنع من الفواكه الطرية. وساقت اليومية مثال اليهودي المغربي دافيد ناهمياس وزوجته دوريت، اللذين يصنعان ماء الحياة الخاص بهما بمدينة يونكرز (جنوب ولاية نيويورك الأمريكية) ويقومان بتسويقه تحت اسم العائلة. ويقول دافيد ناهمياس عن منتوجه، حسب عدد من المواقع الإلكترونية التي أوردت الخبر، إن "ماء الحياة يسري في دمي، لطالما راودتني هذه الفكرة؛ لكن زوجتي والآخرين كانوا يعتقدون أنني مجنون". وتذكر "نيويورك تايمز" أن اليهود بالمغرب كانوا دائما مصنعين لهذا المشروب، مشيرة إلى أن عائلة ناهمياس اكتسبت شهرة واسعة قبل قرن بقريتها الأصلية تازناخت بفضل جودة ماء الحياة الذي كانوا يصنعونه. وتشير اليومية الأمريكية إلى أن ناهمياس قد هاجر منتصف السبعينيات والتحق بإحدى الثانويات بباريس ودرس بجامعة بمونريال الكندية؛ قبل أن يشتغل بشركة للمعلوميات بنيويورك؛ غير أن زوجته تقول إنه لطالما عبر لها عن حلمه، قبل 18 سنة من لقائهما الأول، في أن يمثل الجيل الثالث من عائلته في صنع "الماحيا"، لكنها كانت ترفض فكرة هذا المشروع إلى غاية سنة 2009، حين قررت خوض هذه المغامرة مع زوجها".

وتجدر الإشارة إلى أن منتوج ناهيماس حصل على الميدالية الفضية في عام 2012 معرض نيويورك الدولي للـ Sprits المنافسة و93 نقطة من قبل مجلة لوحة تذوق.

الصور تعبيرية
















المصدر: صحيفة الناس