وسط الغبار المتطاير في أزقة بلدة كرامة .. و بين المقاهي و المحالات التجارية و تحت حيطان المنازل المهجورة و في كل مكان في القرية، قد يصادفك “اسعيد” و هو شاب في مقتبل العمر يترنح في الطرقات بإعاقته الجسدية و العقلية .. يحمل حدبة على ظهره تعرقل تسكعه اليومي ...
“اسعيد” فظل أن يعيش وحيدا بعيدا عن أهله و أقاربه الذين دفعتهم ظروف الفقر و الحاجة و الترحال إلى التخلي عن ابنها .. و بذلك قرر أن يعيش حياة العبث داخل اللاجسد .. منذ الصباح الباكر تراه ينتظر أن يفتح أول دكان بابه كي يقتات على ما تجود به أيادي التجار .
“اسعيد” لا يمد يده و لا يطلب سنتيما واحدا بل إن الذين يشفقون على حاله هم الذين يفهمون أن قدومه يعني أنه جائع ، لذلك فهو مثال للعزة و الشهامة و الأنفة و الكبرياء رغم الفقر و ضعف الحال ..
و لعل اسمه هو خير دليل على أنه من أسعد المخلوقات على وجه البسيطة لأنه يخلق السعادة لنفسه بنفسه دون الحاجة للآخرين ، تارة يحمل قارورة بلاستيكية و يضرب عليها مرددا أغاني قديمة تعبر عن عمق درايته بأهازيج و قصائد و أشعار قبيلته، بل أحيانا يتفنن في هجاء الناس بالشعر و القوافي و نادرا ما يفهم المتمرسون كلامه و ألغازه، و تارة أخرى يتكلم بلسان متلعثم ثقيل و يستفز الناس و يحتقرهم بعبرات نابية و كلام ساقط و عنصري و يردف كلامه بقهقهة كبيرة و ضحكة صاخبة يستغرب لها المارة ، ”اسعيد” لا يبالي بأي شيء فهو يفعل ما يحلو له غير آبه بالزمان و لا المكان و لا المقام ..
ففي إحدى الأعياد الوطنية و بينما احتشدت جموع المواطنين لحضور تلك المناسبة و على مرأى من العديد من الشخصيات المدنية و العسكرية أخذ يتبول بكل أريحية و بشغف حتى انتهى و انصرف و هو يتكلم مع نفسه ، “اسعيد” يعيش اللحظة دونما اكتراث بالمستقبل فشغله الشاغل هو توفير القليل من الخبز و الكثير من الضحك و السخرية ، لكن من الأشياء التي تقلقه و تُنَرْفِزُ راحته هي حينما يطلب منه أحدهم أن يصمت بعبارة “شوووت” (اسكت) .. اعلم حينها أنك سوف تتحمل عواقب ما سيحدث لاحقا عندما تقمعه ففي إحدى المساءات الباردة و بينما كان الناس محتشدين بالمقاهي يتفرجون على مقابلة أوروبية و الكل يحملق بمقلتيه على الشاشة الكبيرة و الصمت يعم المكان .. دخل سعيد و في يده “كارطونة” وهو يغني فقال له أحد الجالسين “شوووت” و ما إن سمعها اسعيد حتى قذف بكأس قهوة على المعني بالأمر فأصابه بجرح بليغ.. هنا تكمن عزة النفس بل يمكننا أن نعتبر هذا التصرف نظالا من أجل الكرامة و حرية التعبير و استرجاع لحق لازالت منظمات تطالب به بينما “اسعيد” قد استرجعه من زمن و بالقوة …
و لأنه فظل الإعتماد على نفسه في كل شيء، فقد قرر أن يحمل معه أفرشته و أغطيته أينما حل و ارتحل لذلك سماه المواطنون ب “اسعيد بو الكاشة” فهو لا يدري أين و متى سيحل به الظلام .. و ما إن تغرب الشمس ويعم الليل حتى تراه منكمشا في ركن داخل السوق دون خوف لأنه نال احترام الجميع بشجاعته و دفاعه عن نفسه .. متحديا التاريخ و الجغرافيا و المناخ . إن حياة ”اسعيد” هي فقط انعكاس و صورة للعديد من القصص التي يعانيها المشردون و المختلون و المعاقون والذين تسوء حالتهم مع البرد في فصل الشتاء، لذا استوجب إعادة النظر في تصرفاتنا تجاه هؤلاء البشر الذين نلسعهم طوال اليوم بنظرات الإحتقار و الإستفزاز، في حين وجب أن نعرف همومهم و مأسيهم و تطلعاتهم بكل رحمة و شفقة و إنسانية.
المصدر: جريدة كرامة