إن الحديث عن التنمية كسيرورة طبيعية تحيلنا إلى التجارب المبكّرة التي قام بها الإنسان، لإدراك التغيرات التي تحصل من حوله. وقد ارتبط ذلك بالتجارب الحية والتأمل في الاختلافات التي تحصل في البيئة بما تتضمن وتشمل، وهي التجارب التي من خلالها ثبت لنا أنّ العالم في حركة دائمة وفي تغيّر مستمر؛ وهو ما فتح الباب أمام نقاش فلسفي حول ماهية الأشياء، وطبيعة المتغيّرات التي تحدث فيها.

إذا كانت التنمية في اللغة العربية تعني النمو وارتفاع الشيء من مكانه إلى مكان غيره، فإن المفهوم الاصطلاحي يحيلنا إلى تحقيق زيادة سريعة تراكميّة ودائمة عبر فترة من الزمن في الإنتاج والخدمات نتيجة استخدام الجهود العلميّة لتنظيم الأنشطة المشتركة الحكوميّة والشعبية.

وتناول فلاسفة اليونان مفهوم التنمية من حيث كونها ظاهرة التغير التي يشهدها العالم؛ ومنهم "هرقليطس"، الذي قال في فلسفته أموراً عن التغيير وأوضح أنّ العالم في تطوّر وتغير دائمين، ثم أرسطو تحدّث عن التغيّر من جانب آخر، فأوضح طبيعة الدولة في كتاب السياسة بوجود نظام في الكائن العضوي ينتقل من فترةٍ إلى أخرى؛ يبدأ بالولادة، فالنضج، وأخيراً الاضمحلال، والموت.

أما الأمم هيئة الأمم المتحدة فقد عرّفت التنمية سنة 1956 بأنّها العمليات التي بمقتضاها تُوجّه الجهود لكلٍّ من الأهالي والحكومة بتحسين الأحوال الاقتصاديّة والاجتماعية والثقافية في المجتمعات المحليّة؛ لمساعدتها على الاندماج في حياة الأمم والإسهام في تقدّمها بأفضل ما يمكن.

ومن هنا، لن نختلف لو زعمنا أن التنمية هي العمليّة التي تنتج عنها زيادة فرص حياة بعض الناس في مجتمع ما، دون نقصان فرص حياة بعضهم الآخر في الوقت نفسه، والمجتمع نفسه، وهى زيادة محسوسة في الإنتاج والخدمات شاملة ومتكاملة ومرتبطة بحركة المجتمع تأثيراً وتأثراً، مستخدمةً الأساليب العلمية الحديثة في التكنولوجيا والتنظيم والإدارة. وتجدر الإشارة إلى أنّ أهم أشكال التنمية هي التنمية البشريّة للإنسان وبالإنسان، للإنسان لنفسه الفاعلة ومعارفه المتغيّرة والمتجدّدة، وبقدراته الماهرة، وبعقله الذكي والفطن.

لا بد في البداية أن نقف على معطى أساسي، وهو عدم انتمائنا سياسيا، حتى لا نرمى بالانحياز إلى هذا أو ذاك اللون السياسي، أو بكون صرختنا خرجة إعلامية ذات عمق سياسوي ضيق، أو حتى لا يستغلها بعض المتحزبين الاتكاليين لتصفية حسابات ننآى بأنفسنا عن الخوض فيها.

لسنا ندري هل سينفع تشخيص واقع التنمية بجهتنا أم أن الجميع يدرك حجم النقص والعوز الذي تعرفه هذه الجهة المنتفع بها، ولكن على كل، سنركز على مواطن نجدها مهولة تجسد وبقوة الوضع المرضي الذي لم يعد له من تبرير:

الوضع الصحي: لا يمكن بتاتا الاستهانة بالأعداد الهائلة للمرضى من ساكنة الجهة ممن يتجهون نحو مراكش وفاس أو مكناس عطفا على الرباط والبيضاء طلبا للاستشفاء، وما لهذا التنقل من أعباء نفسية ومالية على المرضى، فالجهة رغم وجود مستشفى جهوي بالرشيدية بعد أن كان إقليميا -بتغيير يافطته لا غير -، ثم مستشفى إقليمي بوررزات، فالعرض بالجهة لا يتحمل الكم المتزايد من الطلب على الخدمات الصحية، خصوصا أمام قلة الموارد البشرية والتجهيزات والتخصصات، زد على ذلك تلكؤ بعض الأطباء من العمل بهذه الجهة لاعتبارات سنأتي عليها لاحقا.

الوضع التعليمي: بالرغم من كونها جهة مستقلة بذاتها، فإن السلطات التربوية لا تزال تتشبث بجعل درعة-تافيلالت تابعة وملحقة بمؤسسات جامعية أخرى (جامعتا مولاي إسماعيل بمكناس وابن زهر بأكادير)، زد على ذلك غياب بعض التخصصات العلمية ذات الإقبال الكثيف بالملحقتين؛ وهو ما يضطر أبناء هذه المناطق للتنقل بعيدا طلبا للعلم، وما يتفرع عن ذلك من إكراهات اقتصادية ومشاكل اجتماعية ونفسية وغيرها، ناهيك عن انعدام معاهد ومدارس عليا تستطيع تحفيز أبناء الجهة على ولوج قطاعات بعينها.

الوضع المواصلاتي: إذا كان الطريق السيار حلما بعيد المنال، بالرغم من أنه يوجد على مسافة 320 من الرشيدية (مدخل مكناس) إلى 220 عن ورززات (إلى مراكش) وأقل من ذلك عن تنغير (إلى بني ملال)، فإن الطريق السريع على الأقل يعتبر مطلبا مشروعا، خصوصا أننا نتحدث عن مركز جهة مترامية الأطراف ومتاخمة للحدود، فعندما نتحدث عن الطرق، نحن بصدد الحديث عن فك العزلة، وهذه العزلة هي التي تقف أمام كثير من المشاكل الأخرى التي تعيق التنمية سواء من حيث الاستثمارات أو الخدمات العمومية وحتى الخاصة. وهنا نشير إلى أن الحديث عن ربط بالسكة الحديدية يبقى حلم يقظة، ولكن نستحضر مشروع نفق "تيشكا" وضرورة الإسراع بإنجازه. وما قيل عن المواصلات البرية يقال عن نظيرتها الجوية، حيث غياب رحلات جوية خارجية من وإلى الجهة لتشجيع السياحة القصيرة المدة (ثلاثة أيام)، وما التطبيل للرحلات الداخلية إلا درّ للرماد في العيون التي تعاني أصلا من "التراكوما"، حيث تستنزف العملية ميزانية الجهة ولا يستفيد منها إلا طبقات معينة ومحدودة، وكان ولا يزال على الجهة التفكير في فتح أجواء الجهة أمام النقل الجوي للشركات الخاصة التي يمكن أن تخفف معاناة الساكنة مع قلة ذات اليد في مواجهة البعد وغياب البنية التحتية.

الوضع الاستثماري: تعيش جهتنا فقرا مدقعا من حيث حجم الاستثمار فيها سواء العمومي أو الخاص، وهو وضع أملته وبكل صراحة عديد العوامل التي ترتبط بالتاريخ والجغرافيا والإنسان، فلا مصانع ولا معامل ولا شركات، بل مقاولات صغرى برساميل كبرى تستنزف الجهة وتفقر مواردها دون أي وقع على واقع الساكنة، وكم أحسسنا بالغبن يوم صرح رئيس حكومتنا في البرلمان بأنه لا يستطيع "جر" المستثمرين إلى جهتنا، في فهم تسطيحي للوضع.

ربما سنجمل معيقات التنمية في هذه الجهة حسب تقديرنا المتواضع في سبع نقاط أساسية إلى جانب أخرى:

غياب الإرادة السياسية للمركز: لعل ما صرح به رئيس الحكومة خلال مساءلة شهرية حول العدالة المجالية في البرلمان تعكس غياب هذه الإرادة كما أسلفنا، وفي ادعائه مغالطات كثيرة بحيث إن المستثمر تجره الإغراءات والتسهيلات والتشجيعات وليس يد فلان أو علان. غياب الإرادة السياسية طبعا يمكن ربطه أيضا بسياق تاريخي متجذر وكذا اعتبار المنطقة منطقة تأديب بشكل لا ينقصه إلا التصريح المباشر به، ولعل في تأديب المسؤولين عبر نقلهم إلى هذه الجهة خير دليل على ما نزعم .

ضعف البنية التحتية: وطبعا نقصد بها ما أتينا على ذكره سلفا في باب التشخيص، حيث تعرف هذه البنية ضعفا كبيرا وعوزا مهولا في المواصلات والخدمات؛ وهو ما يجعل من كل محاولات الإقلاع الإنمائي تبوء بالفشل، وهو ما يفرض الإسراع بفك العزلة عن الجهة وإنصافها خدماتيا.

المقاربة الانتخابوية للتدبير والتسيير: ونقصد بها غياب رؤية واضحة وعقلانية للتنمية وتغليب منطق جبر الخواطر والإرضاءات، خصوصا في البرمجة الذاتية، حيث تصرف أموال طائلة في مشاريع صغرى، كثيرة ومتناثرة لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تحقق الأهداف والتنمية المنشودة.

ضعف التواصل واحتكار المعلومة: فبالرغم من تنصيص الدستور على الحق في المعلومة، فإن أغلب المؤسسات تسود بها العقلية التقليدية التي تحتكر المعلومة وتتجنب اللقاءات التواصلية؛ وهو ما يجعل المجتمع المدني والمواطن العادي بعيدين كل البعد عما يسطر ويخطط، في إعدام شبه تام للمقاربة التشاركية والقوة الاقتراحية التي أتى بها الدستور.

تجاهل برنامج التنمية من جانب المجالس المنتخبة: وهي من النقاط الفيصلية، فعلى صعيد إقليم الرشيدية مثلا، لا تتجاوز نسبة الجماعات الترابية التي أعدت برنامجها التنموي 10 في المائة، علما أن هذا البرنامج يتم تجديده كل ثلاث سنوات وعلى ضوئه يتم إعداد البرنامج التنموي الإقليمي ثم الجهوي.

ضعف تدخل الجهات الشريكة: وهي ترتبط بالنقطة أعلاه، حيث إن غياب البرامج التنموية لدى الجماعات يجعل الجهات الشريكة، داخليا كالوزارات وخارجيا كالمنظمات الدولية تحجم عن التدخل والمساهمة سواء من خلال التمويلات أو الدراسات؛ وهو ما يجعل الجماعات حبيسة الفائض الذي لا يمكن أن يفي بالمطلوب.

ضعف تكوين المنتخبين والموارد البشرية: وهو ضعف يعزى إلى عوامل متشعبة، لعل أهمها عدم أجرأة البرنامج الخاص بالتكوين سواء لفائدة الموظفين أو المنتخبين. ولا يمكن أن نتصور تنمية حقيقية تأتينا من مسؤولين ضعيفي التكوين، خصوصا أمام سيل التغييرات والمستجدات في المساطر والإجراءات.

استئثار الرئيس بالاجتماعات واحتكاره للقرارات: وهو مشكل كبير أيضا أملته ظروف ذاتية وموضوعية، وهنا يتعين الاسراع بأجرأة التقاسم على الأقل، وتحسيس الرؤساء بضرورة تبادل الأدوار وإشراك الفريق في العمل التدبيري والمشاركة في اللقاءات والتكوينات وغيرها.

غياب العقلانية في التخطيط التنموي: وهنا أستحضر مثال طريق المجهول من تافيلالت إلى زاكورة، الذي يعتبر حلما ربما يتحقق بعد ربطنا بالقطار السريع بعقود أخرى، وهو ما يمكن اعتباره سياسة إلهاء ينهجها مسؤولونا الذين يعدوننا بالذي لن يأتي لننسى ما يمكن أن يأتي.

بعيدا عن لقاءات "البريستيج" والمنتديات المكلفة، لن نبالغ إن قلنا إن جهة درعة-تافيلالت من أهم مصادر الموارد الطبيعية والبشرية التي بنت المغرب المحظوظ؛ فالجهة ليست فقيرة كما يزعمون، بل يكفي رفع "الحصار" عنها من باب رد الجميل. إن الدولة مدعوة إلى القطع مع مفهوم "المغرب غير النافع" كمفهوم سياسي واقتصادي وسوسيولوجي مضلل وخادع ورثته عن الاستعمار الفرنسي وكرسته دولة الاستقلال في تدبير السياسة المجالية، لتبرر التفاوت الاقتصادي والتنموي بين جهات المغرب.