ذ محسن الأكرمين

أثر الحراك الشعبي بالحسيمة سارت شعلته تمتد بالاتساع إلى مجمل المدن المغربية عبر انتفاضات شعبية جنينية وعفوية بالتلقائية. سقف المطالب بدأ يزيد ويرفع عاليا عبر تجمعات ومسيرات احتجاجية. الكل يجمع القول أن للدولة يد المسؤولية الكبرى فيما يحدث. كيف لنا أن نحدد مسؤولية الدولة بالتمام والحراك لا زال قائما ، والأخبار الواردة لدينا تتناسل بالتباين؟ كيف لنا أن نفكر في تطويق أزمة حراك مستفحلة وممتنعة الاستيعاب؟.
 
المؤسف أن هناك انتظارية جماعية على أن يتدخل" المخزن" بقوة تجاه الحراك -(نقصد بالحراك: الوعي الشعبي غير المؤطر سياسيا و الداعي إلى كسر شوكة الأزمة الاجتماعية) - الريفي . وهي الحقيقة التي نعاينها في تفكير كل من يتابع ويراقب تطورات الحراك الشعبي في الريف يوميا. تفكير يقفز كليا عن مرحلة تاريخية قطعتها الدولة تجاه الإقرار الصريح بمبدأ المصالحة وجبر الضرر وتطبيق دولة الحق والقانون.
 
 
فبين الحراك الشعبي بالحسيمة التلقائي و المقاربة الأمنية للأزمة حديث نريد الكشف عنه، حديث يتجلى في عمق سياسة إطفاء وهج الأحزاب الوطنية وجعلها تقتصر على أدوار الكومبراس المتحول، الذي تنتهي صلاحيته بانتهاء التعبئة في تدبير الشأن العام، فيما المخزن( بمفهوم السلطة) هو الجزء الثابت، حديث في تنميط اللعبة السياسية وإفراغها من الشكل المحصن عبر تبخيس محكم لأدوار الأحزاب الوطنية، وترك الشعب وحيدا بدون وعي سياسي ولا تأطير تنظيمي. حديث عن تلجيم الفعل النقابي ومنظمات المجتمع المدني وبعث التشرذم وخلق الزعامات الكارطونية، حديث تثبيت فقدان مناعة المصداقية في كل الهياكل المنتخبة. نعم كل هذا يدخل بالتمام ضمن المقاربة الأمنية الاستباقية للدولة، و هي بخلفية بريئة من التحكم حسب رؤية (السلطة) الاستمرار في مواكبة الإصلاح في ظل الاستقرار.
 
بين مفهوم الفوضى العمياء الحارقة والمطالب الاجتماعية السلمية للحراك انقسم المغاربة. انقسام بين مؤيد بالمساندة للحركة الاجتماعية بالريف، وبين من يرى أن الأمر لا يعدو إلا أن يكون مؤامرة موجهة ضد المملكة وبأجندات خارجية معلومة، وبأن الحراك الشعبي بالمملكة مصطلح دخيل، لم تصنعه الأحزاب والتنظيمات السياسية ، وإنما صنعه شباب أتقن استيعاب المعنى الجديد للتنظيم والسلمية.
 
ففي البعد الأول يتم صياغة مجموعة من المبررات السليمة مادام الحراك سلميا " سلمية سلمية لا موس لا جنوية"، مع أن كل المطالب ما هي إلا مطالب تشمل العدالة الاجتماعية وحفظ الكرامة والحرية. فيما مسوغات الجانب الثاني فتروم إلى أن الفتنة نائمة وممكن إيقاظها. وللملاحظة التحليلية نقف عن مفهوم الفتنة من حيث هو التبرير الذي يعترف بسوء تدبير المجالات الاجتماعية من طرف الحكومات السابقة (الإرث القديم الثقيل) ، إنه الإعتراف الصريح بوجود فتنة (نائمة) تهدد الاستقرار الوطني. فما هي إذا أسباب تلك الفتنة النائمة؟ هل من حلول إجرائية تحول دون إيقاظ الفتنة النائمة من سباتها؟ فإلي متى سنترك الفتنة تنام والتهميش/ التنموي يأكل جل المدن المغربية؟ لا تعليم جيد، لا رعاية صحية تحفظ صحة المواطنين، لا تشغيل عادل وتنمية بشرية مستقيمة، ولا سكنا لائقا. إنها الإختلالات التي كان من المفروض أن لا يطالب بها الشعب بتصحيح وضعيتها مادام توفيرها هو من اختصاص الحكومات المتعاقبة على دواليب الحكم، والدستور أقرها بالنص والقانون كفلها بالإلزام.
 
لنعد إلى حكومة السيد بنكيران، ونعمل على محاسبتها من جوانب عدة. سنجد أنها تتحمل مسؤولية ما آلت إليه أوضاع المغاربة حاليا. مسؤولية في سد باب الحوار الاجتماعي واللعب بالنار في الحوارات الموسمية العقيمة، مسؤولية في صنع وتزكية التيئيس من ممارسة الحق في الإضراب والخروج إلى الشارع في مسيرات أو وقفات احتجاجية سلمية، مسؤولية في القرارات المجحفة المتخذة تجاه قفة المواطنين المعيشية، فمن المقايسة إلى رفع الدعم عن صندوق المقاصة، إلى تحرير سوق المحروقات وتغييب الحكامة العادلة بين السعر المحلي والدولي، إلى الزيادة العمرية في سنوات العمل، إلى تجميد الأجور وتكثير الاقتطاعات، إلى لغة التعاقد وسد باب التوظيفات، إلى تعويم الدرهم والاقتراض الخارجي. إنها سياسة حكومة التيئيس وممارسة القتل البطيء ضد الشعب وطموحه في حياة أفضل.
 
الشعب أحس بالحكرة من طرف الحاكمين (الإرث القديم الثقيل) باختلاف رموز أحزابهم، الشعب أحس بأن أناسا قلة يعيشون الرفاه والترف الباذخ، فيما أغلبية تسحق يوميا إلى حد الموت. الشعب أحس بفشل الأحزاب السياسية ودكاكينها الانتخابية في الحديث بلغته وحمل همومه بالوفاء، الشعب اكتسب مناعة ضد مناورات النقابات الفولكلورية غير البريئة. هنا الشعب حمل لواء الدفاع عن نفسه ونظم صفوفه بالعفوية والتلقائية. هو ذا الخوف الذي عبرنا عليه غير ما مرة في سلبية سياسة إضعاف الأحزاب والمنظمات الاجتماعية و إفقادها المشروعية، هو ذا التخوف الذي يخلط أوراق مؤسسات الدولة بين التحديث والديمقراطية وبين التحكم والمقاربة الأمنية، هو ذا الأثر القاتل حين تفقد الدولة هيبتها السلطوية. لنقر جميعا أن المغرب عاش عدة كبوات اجتماعية خرج سالما منها بالمصالحة، فيما الآن نعيش تصرفات و تضاربات للآراء مخيفة بمستقل الوطن ووحدته الاجتماعية، وضرب للاستقرار والأمن الاجتماعي في الصميم.
 
الآن الاحتقان يتزايد ضغطه ولا بد من متنفس للأزمة، متنفس ممكن أن يكون من أعلى سلطة بالمملكة والتي تضمن العدل والأمن والاستقرار للدولة. متنفس يكون برعاية أخلاقية فضلى لعموم مواطني الوطن. متنفس تتحمل فيه الأحزاب أدوارها الفعلية لا الإنتخابية ، أدوارا تتمثل في تأطير المواطنين والدفاع عن الحق والكرامة الاجتماعية لعموم الشعب. متنفس في إعادة صياغة أهداف بديلة للجهوية المتقدمة والجماعات الترابية في علاقتها بالمركز. متنفس في تقديم بدائل إجرائية لمعالجة الحراك الريفي ولو بالامتداد. متنفس في خلق وساطة المؤسسات الثابتة بدل الأشخاص. متنفس في استفادة جل المدن المغربية من المال العام بدون وجه تفضيل و لا محاباة. متنفس في تفعيل وجه التضامن الدستوري ومطالبة أغنياء المغرب بدعم نهضة اجتماعية وطنية شمولية.