ذ محسن الأكرمين

 

الفصل الأول: الشغب الطفولي.

 

صغر مساحة المنزل جعل من الأسرة ذات عدد إخوة يوسف تتقاسم مرافق المنزل بعرف وضع اليد والأسبقية العمرية  . من باب الدار تظهر علامات خليط الأجيال الجدة والتي قارب سنها العمري المائة سنة ، وحفيدها الأصغر ذو السنة الأولى . الأب لا يعنيه إلا توفير دخل يغطي به مصاريف الفريق الأولمبي المنزلي. 

في الزاوية الصغرى اليمنى من الغرفة  الثالثة ترتكن واسطة العقد نوارة جالسة ، نور هو اسمها بدون ترخيم و لا إضافة ، مع أنه يغطي مساحة ذات المسمى من حيث سحر جمالها وانسياب شعرها، وسلطة عينيها كتاريخ وثق محاسن الكلمة لكل أزمنة شعراء الغزل . خفة روحها الخدومة كالعصفورة التي تطير بين أركان المنزل فتبعث فيه الدفء والسكينة ، ملمحها الأملح لا يخفي قيمة رصيدها المعرفي الثقافي فهي تعشق الفكر وتمتلك نهم القراءة والكتابة.

رفعت مسامع رأسها إلى الأم أريناس التي جاءت تستنجد بها من شغب الإخوة، إنها تلعن سياسة تكثير سواد الأمة بالإنجاب وقلة حيلة اليد .ابتسمت نوارة ولم تبح بأية كلمة للأم المسكينة لكي لا تزيد من طين البكاء بلة، لأنه الدمع حاضر في عيونها بدوام التدفق. استدارت الأم ولا زالت كلماتها المشفرة غير مفهومة بالتداول تعم المكان . همت نوارة بالنهوض واقفة ولسانها يعدد أسماء إخوتها المشاغبين من زيد إلى عَمرُو، فيما لا يزال الصياح يعلو المكان وصداه يُسترجع من الشارع القبلي.

وهي منتصبة القامة كالحرس الجامعي "الأواكس" تذكرت أيام الإضرابات لأن إخوتها كونوا حلقة وهم صياح بترديد لازمة " بالروح ... بالدم ... نفديك يا كوديم ... " وفي الوسط قعد المشاكس الرافض لعملية كم الأفواه من صياح البراءة الشبابية العاشقة للفريق الغريق بمدينة مكناس.

تذكرت نوارة الشعارات الرنانة وصوت المدفع الذي لا يرهب ، وأنها لن تركع أبدا...ابتسمت من ركعتها المعطلة بزاوية البيت الصغرى تلعب على هاتفها النقال لعبة القراصنة والسندباد البحري... وصلت إلى محجة وسط الدار، فيما الإخوة المناضلون خوفا أو احتراما تراجعوا إلى الخلف و كلامهم المباح لا زال يسمع " كوديم ...كوديم ..."  . لكن المفاجأة الكبرى أن الصغار دفعوا بها إلى حلبة النقاش التقدمي /الكروي " الحلقة "  مستعملين لغة الخواسر بسيوفهم الخشبية وأعلنوا خضوعها عنوة لولاية الطاعة والانحناء ، فلم تركب نوارة العصيان المدني ولم تنخرط في حركة 20 فبراير، بل انخرطت طواعية بأوامر سيد القوم مادامت من الرعية المعطلة المكفوفة الأيدي والتفكير . سيد قوم أطفال الخواسر قال لها : انبطحي أرضا و" اسرطي " ابلعي  لسانك ، لقد طلعت لنا القردة إلى السطح من وضعية الفريق الكوديمي المتأزمة " ، هنا لم " تسرط " / تبلع نوارة لسانها وأعلنت الثورة على ضحك الخواسر الصغار ، صياحها هز المكان رجفة فآوى النمل الصغير إلى جحوره للإختفاء خوفا من دوس رجلي نوارة .

التفت نوارة بعينين تمسح بهما المجال العلوي السماوي وتؤثث رؤية الموضع المكاني المجالي بالحركة البطيئة دون ارتداد الطرف . لأول مرة تُشاهد الدموع تغزو العيون العسلية لنوارة وكأنها تعرضت لقنابل الخواسر الصغار،لأول مرة وقع أمر الأوامر بالانبطاح أرضا. قالت نوارة لا ثم ألف لا. لن نركع أبدا ، لن نركع، لن يرعبنا صوت المدفع...

تفكيرها المعياري خلخل عليها وقع المصطلح ذي سلطة سياسة الخواسر الكبار بحجم الصعاليك الجدد  . أحست بعمق وجدانها الداخلي الشبابي يهتز عرشه وكأنها تعيش لحظة موضع أسفل حذاء القهر ، أحست أنها لا تساوي إلا تلك الزاوية المنغلقة بغرفتها  بمساحة شراكتها بالأرجل عند النوم ليلا . دوخة التفكير استحضرت من خلالها بالتوالي سرعة مراحل عمرها ما بعد النجاح بشهادة يتيمة .

في ظل فورة تضارب الآراء الداخلية والحنق على لازمة الوضعية الاجتماعية المنكسرة ، مكنت لها أمها دون كلام أخاها الأصغر مع البكاء والعويل يعلو بالتناغم الموسيقي ويسكن المكان ، والرائحة النتنة تعلو وتعطر جو المنزل ...فهمت نوارة القصد واتجهت بأخيها صوب الغرفة وفتحت النافذة بصغر حجمها وشرعت في تنظيف مؤخرة الأخ الصغيرة وهي تلعن الوضع المأزوم بمملكة الفوارق الاجتماعية و غياب مسلك العيش الكريم.

اليوم حر، والجو العائلي صفاؤه عكره كلام الصعاليك /الخواسر الصغار. المسألة عند نوارة لم تنته بل أرجعتها إلى القاموس اللغوي وما ورد في شأن الانبطاح، إنه لباس ثوب المسكنة والذل، إنه الحركة البوليسية للصعاليك الجدد ولو بسيوفهم الخشبية والمطالبة بالاستلقاء على البطن والوجه موال للأرض ... إنها وضعية سلب الكرامة والحرية.

لم يعم السكون مسطح تفكيرها ولم يتوقف إلا بقبلة حنان من الجدة ، هنا كومة الغضب بدأت تتمدد ، وبشائر الانشراح على وجه نوارة بدأت تسترجع مكانها ، فيما سلطة الابتسامة سكنت الشفاه الشبابية ... ضحكت الجدة من نزق سرعة قلق الجيل الحديث لأنها كانت تتابع الأحداث ...أمسكت الجدة بيد نوارة  وتوجهت بها صوب الصٌوان ، فتحته بعد أن بسملت بصوت خافت وأخرجت منه صندوقا خشبيا يطبعه النقش البلدي ... لأول مرة نوارة ستتطلع على محتويات ما بالصندوق ...عقلها طار كياسمينة السندباد البحري نحو الكنز الذهبي " افتح يا سمسم"... جلست الجدة بأمان فوق سريرها وشرعت في تفكيك قن القفل الحديدي بمفتاح معلق في رقبتها  ...الوضع يزداد فرجة من طرف نوارة والعقدة الأساسية لصندوق الجدة لازالت قائمة ، طالبت الجدة حفيدتها بإغلاق باب الغرفة ... الأمر عند الجدة ليس في القيمة المادية لمحتويات الصندوق وإنما في دلالاتها التاريخية . وقعت الإطلالة الأولية على محتوياته ،حيث شرعت الجدة في شرح مرجعية كل تحفة تاريخية توجد به من عقد زواجها والموقع من طرف الفقيه الطاهر البعاج المرشيشي قاضي محلة مكناس وأحواز المدينة ، إلى خاتم زواجها الفضي ... إلى سبحة جدتها المصنوعة من خشب العود المشرقي... إلى جلباب عرسها ولثامها . هنا توقفت الجدة بتنهيدة عن الزمن الماضي البهيج وكأنها تلقي بتغريدة  "يا ليت أيام الشباب يعود يوما فأحكي لها بما فعل المشيب..." . دفعت  الجدة بالجلباب واللثام إلى نوارة راغبة منها أن تلبسهما ومن خلال ملمح عيون الجدة الغابرة في الماضي قبلت نوارة العملية بدون تردد ، إنها نوستالجيا الذات العائدة عند الجدة.

(يتبع بالفصل الثاني: الخواسر الجدد...).