تهدف هذه المقالة إلى تحليل الجزء الأول من خطاب العرش الذي ألقاه الملك في عيد العرش الأخير. سأبين بأن هذا الجزء طرح سؤالا واحدا بثلاث صياغات مختلفة كل منها في موقع مختلف من الخطاب. كما سأشرح جواب الملك على هذا السؤال. أخيرا سأقدم وجهة نظري في هذا الجواب الملكي.

أولا- سؤال الملك

اتخذ سؤال الملك في خطاب العرش الأخير ثلاث صياغات طُرح كل منها في سياق خاص بحيث يوضح ثانيها أولها ويزيد ثالثها في توضيح سابقيه. 

الصيغة الأولى للسؤال هي:

"هل ما نراه من منجزات، ومن مظاهر التقدم، قد أثر بالشكل المطلوب والمباشر على ظروف عيش المغاربة ؟ وهل المواطن المغربي، كيفما كان مستواه المادي والاجتماعي، وأينما كان، في القرية أو في المدينة، يشعر بتحسن ملموس في حياته اليومية، بفضل هذه الأوراش والإصلاحات ؟"

والصيغة الثانية هي:

ماذا فعلنا بما حققناه من تقدم ؟ هل ساهم فقط في زيادة مستوى الاستهلاك، أم أننا وظفنا ذلك في تحقيق الرخاء المشترك لكل المغاربة ؟ وإلى أي درجة انعكس هذا التقدم على تحسين مستوى عيش المواطنين ؟

والصيغة الثالثة هي:

أين هي هذه الثروة ؟ وهل استفاد منها جميع المغاربة، أم أنها همت بعض الفئات فقط ؟

تتحدث الصيغة الثانية للسؤال عن "ما حققناه من تقدم". لماذا؟ لأن الملك، مباشرة بعد الصيغة الأولى لسؤاله، يقرر دعوىً مقتضاها أنه "يجمع الخبراء والمهتمون، الوطنيون والدوليون، على أن المغرب عرف، خلال هذه الفترةء 15 سنة على تولينا العرشء تقدما كبيرا في مختلف المجالات."

ويوضح أن "ما حققنا من تقدم" يبدو جليا على المستويات التالية:

  * مستوى التطور الديمقراطي، "الذي يجسده دستور 2011، ومنظومة الحقوق والحريات التي تتوفر عليها بلادنا، والإقدام على ورش الجهوية المتقدمة."

  * مستوى البنيات التحتية الكبرى، التي تم إنجازها :

                                                 • أكبر ميناء بحوض المتوسط

                                                 • أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم

                                                 • الطريق السيار من أكادير إلى طنجة/ من الجديدة إلى وجدة

  * المستوى الاقتصادي : "عرفت نسبة النمو ارتفاعا ملحوظا، بفضل اعتماد مخططات قطاعية طموحة، كمخطط المغرب الأخضر، ومخطط الإقلاع الصناعي، وغيرها."

  * مستوى التنمية البشرية : "يشهد المستفيدون من برامجها، بكل مناطق المملكة، بأثرها المباشر في تحسين ظروف حياتهم، وبدورها ".

ميزة الصيغة الثالثة للسؤال الملكي أنها طرحت ب"استغراب":
"أتساءل باستغراب مع المغاربة : أين هي هذه الثروة ؟ وهل استفاد منها جميع المغاربة، أم أنها همت بعض الفئات فقط ؟".

لكن لماذا يستغرب الملك في الصيغة الثالثة؟ .. منطق النص يقول: الملك يستغرب لسببين سبق أن شرحهما:

1- لأن المغرب حقق تقدما على المستويات المذكورة أعلاه. 

2- لأنه "سبق للبنك الدولي أن أنجز في 2005 و2010 دراستين لقياس الثروة الشاملة لحوالي 120 دولة، من بينها المغرب. وقد تم تصنيف بلادنا في المراتب الأولى على الصعيد الإفريقي، وبفارق كبير عن بعض دول المنطقة."
يمكن انطلاقا من هذا التحليل أن نعيد صياغة سؤال الملك بطريقة تشمل جميع الصياغات الثلاثة وذلك على النحو التالي:
لقد حقق المغرب تقدما ملموسا على المستوى السياسي والإقتصادي وعلى مستوى البنى التحتية والتنمية البشرية، وصنفت أبحاث البنك الدولي في دراستين المغرب "في المراتب الأولى على الصعيد الإفريقي، وبفارق كبير عن بعض دول المنطقة."، فلماذا يعاني كثير من المواطنين من الفقر والهشاشة؟.

ثانيا- جواب الملك

لا يفترض الملك بأنه عنده جوابا عن السؤال الذي طرحه، بل يثير ملاحظة أساسية ويعِد باتخاذ إجراء مهم.

الملاحظة

لاحظ الملك أنه قد " شهدت المعايير التي يعتمدها المختصون في المجالين الاقتصادي والمالي لقياس الثروة، عدة تطورات، وأن المعايير الدولية الجديدة أصبحت تدرج معيار "الرأسمال غير المادي" في قياس ثروات الأمم"، وأن البنك الدولي " أبرز أن القيمة الإجمالية للمغرب، شهدت خلال السنوات الأخيرة، ارتفاعا ملموسا، وخاصة بفضل النمو الكبير لرأسماله غير المادي."

الوعد

وعد الملك بأنه سيوجه "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بتعاون مع بنك المغرب، ومع المؤسسات الوطنية المعنية، وبتنسيق مع المؤسسات الدولية المختصة، للقيام بدراسة، لقياس القيمة الإجمالية للمغرب، ما بين 1999 ونهاية 2013" ــ دراسة تأخذ الرأسمال غير المادي بعين الإعتبار.

لكن ما معنى "الرأس مال غير المادي" وما هو الهدف من هذه الدراسة؟

الرأس مال غير المادي :

رأس المال غير المادي" مفهوم ظهر في التسعينيات بعد نشر كتاب عنوانه Intangible Capital: Putting Knowledge to Work in the 21st Century Organization لصاحبيه Mary Adams وMichael Oleksak . القصد من هذا المفهوم تقييم مؤسسة إنتاجية بأخذ جميع العناصر الضرورية لتقييم إنتاجية هذه المؤسسة تقييما صحيحا وتقدير قيمتها تقديرا شموليا لا يغفل أي عنصر من العناصر. ويتضمن رأس المال غير المادي أربعة مكونات على الأقل: رأس المال البشري ورأس المال العلائقي ورأس المال البنيوي ورأس المال الإستراتيجي.

رأس المال البشري هو مجموع القدرات والمواهب والمهارات التي يتوفر عليها العمال والموظفون، أي كل ما يغادر مقر العمل ليلا بعد انتهاء العمل.

رأس المال العلائقي هو كل العلاقات الخارجية الأساسية الضرورية لنجاح المؤسسة: علاقات مع الزبناء والشركاء والممولين وغيرهم.

رأس المال البنيوي هو المعرفة التي تبقى في المؤسسة بعد أن يغادرها المستخدمون: وثائق، سجلات ورقية وإلكترونية، برامج إلكترونية متطورة، إلخ.

رأس المال الإستراتيجية هي اللحمة التي تربط بين كل هذه الأنواع من رأس المال غير الملموس وتجعلها تعمل بنجاعة وإنتاجية عالية. وهو يتضمن الرؤية التي يخدمها مشروع المؤسسة وآلأهداف الوظيفية الدقيقة التي تترجم هذه الرؤية إلى مشاريع ملموسة.

هدف الدراسة : 

المفهوم من كلام الملك أن هذه الدراسة تهدف إلى تحقيق غايتين:

1. إبراز قيمة الرأسمال غير المادي لبلادنا

2. ضرورة اعتماده كمعيار أساسي خلال وضع السياسات العمومية، وذلك لتعميم استفادة جميع المغاربة من ثروات وطنهم.

يعد الملك أيضا أنه سيتخذ إجراء "عمليا" لتحقيق هذين الهدفين حتى لا تبقى الدراسة حبرا على ورق ــ إجراءً مكونا من ثلاثة عناصر وهي:

1. نتائج هذه الدراسة على أوسع نطاق

2. دعوة الحكومة والبرلمان، وكل المؤسسات المعنية، والقوى الحية للأمة للانكباب على دراسة التوصيات البناءة التي تتضمنها، والعمل على تفعيلها.

3. الدعوة لأن يشمل الإحصاء العام للسكان، الذي سيتم القيام به خلال هذه السنة، المؤشرات المتعلقة بالرأسمال غير المادي للمغرب، بمختلف مكوناته.

ثالثا- رأيي في جواب الملك

أولا- أسمي المشكلة التي أشار إليها الملك بمشكلة "الإغتراب السوسيو اقتصادي". "الإغتراب" مفهوم هيڭلي معناه أن يحس الإنسان بأنه غريب عن منتجاته. فكلما أنتجنا أكثر ما نعتقد أنه سيكون لخيرنا، كلما أحسسنا بأن هذا المنتوج يبتعد عنا ويخون الغايات التي من أجلها أنتجناه أصلا. مثال ذلك أن نطور علوم التيكنولوجيا لصناعة الرفاهية فنصنع الحرب، وأن ننتج وسائط الإعلام لتحرير وقتنا لنكتشف أننا استعبِدنا لهذه الوسائط وصرنا مدمنين عليها. قياسا على ذلك فإن المشكلة التي أشار إليها الملك هي نوع من "الاغتراب" من طبيعة سوسيو اقتصادية: لقد حقق المغرب نوعا من التقدم على المستوى الإقتصادي والإجتماعي والسياسي لكنه لا يزال يعاني من مستويات عالية من التفاوت الإجتماعي والفقر والهشاشة.

ثانيا- لقد وعد الملك بأنه سيوجه "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بتعاون مع بنك المغرب، ومع المؤسسات الوطنية المعنية، وبتنسيق مع المؤسسات الدولية المختصة، للقيام بدراسة، لقياس القيمة الإجمالية للمغرب، ما بين 1999 ونهاية 2013". والسؤال الذي يطرح نفسه هل يمتلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والبنك الدولي المقدمات الضرورية للبحث في "اليد الخفية" (كما كان يسميها ڭرامشي) التي تخلق الإغتراب الوسيو اقتصادي وتزيد في تعميقه يوما بع يوما. وهذه المقدمات في نظرنا هي كما يلي:

1- إن الثقافة الإبتكارية المبدعة، التي تُبث في المجتمع بشكل معمَّم وعادل، بواسطة المنظومة التربوية هي العامل الحاسم في تأهيل مختلف طبقات المجتمع لإنتاج الثروة على المستوى الفردي والإستفادة من الثروات المتراكمة على المستوى الوطني. فهل ينطلق البنك الدولي من هذه الحقيقة؟ لا. فمعظم المنظمات الدولية تأخذ الثقافة الإبتكارية بنوع من البداهة معتقدة أنها مبثوثة أصلا في المجتمعات أو بأنها مجرد مسألة فردية فقط لأنها مبثوثة أصلا في المجتمعات الغربية التي يستعملونها نماذج للمقارنة. ولم تتخلص الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من هذا الوهم إلا بعد أن عقدت مؤتمرات وندوات كثيرة لفهم مشكلة الإنحصار الإبتكاري. 

2- إن مقاومة الإغتراب السوسيو اقتصادي تحتاج إلى سياسة شجاعة في تدبير الموارد الطبيعية وإتاحة ملفاتها للعموم. فمادامت الموارد الطبيعية محتكرة في يد بضع عائلات نافذة، فإن الأفراد يبقون دائما محرومين من الحصول على رساميل ابتدائية وعلى قروض بنكية يمولون بها مشاريعهم المبتكرة. ف"اليد الخفية" التي تخلق كل التِواء ات الإغتراب السوسيو اقتصادي هي عندما يتحالف ضعف التكوين الإبتكاري مع غياب مصادر التمويل.

3- إن مقاومة الإغتراب السوسيو اقتصادي تحتاج إلى طاقة اجتماعية لن يولدها إلا زخم الوعي بالهوية الجذر للمجتمع المغربي. فما دمنا نماطل في تفعيل المقتضيات الدستورية لاسترجاع الهوية الأصل ( = تيموزغا)، وما دمنا نتسامح مع من يراوغ في تفعيل هذه المقتضيات، وما دمنا لم نع بعد بطوفان الحياة الذي يحمله مشروع استعادة الهوية الجذر فسنزيد في تعميق الإغتراب السوسيو اقتصادي بالإغتراب الهوياتي.

4- إن الإستقرار وبناء الثقة (وهما مطلبان أساسيان في رأس المال غير الماي) لن يترسخا إلا بالقطع مع كل مظهر من مظاهر التسامح مع الفساد (الرشوة والزبونية والمحسوبية والتعتيم على المعلومة وعدم احترام المواطن). فلن ينفتح الفرد على إمكانية تحقيق الفرد للرفاه إلا إذا تيقن من أن الدولة والسلطات العمومية تتعامل بالمستوى الصفر من التعامل مع الفساد.

5- إذا افترضنا أن البنك الدولي والسيد نزار بركة انطلقا من مقدمات صحيحة وأنتجا دراسة قويمة، فمن الذي سيفعل توصيات دراستيهما. يعد الملك أيضا بأنه سيدعو "الحكومة والبرلمان، وكل المؤسسات المعنية، والقوى الحية للأمة للانكباب على دراسة التوصيات البناءة التي تتضمنها، والعمل على تفعيلها". لقد أثبتت الحكومة بدون أي مجال للشك أنها أفشل حكومة عرفها المغرب لحد الآن، ويصعب تقييم كفاءات البرلمانيين، فمن هي "القوى الحية" التي ينبغي أن نترك لها مسألة تفعيل توصيات دراسة البنك الدولي والسيد نزار بركة؟ 

6- يعد الملك بأنه سيدعو "لأن يشمل الإحصاء العام للسكان، الذي سيتم القيام به خلال هذه السنة، المؤشرات المتعلقة بالرأسمال غير المادي للمغرب، بمختلف مكوناته." مما يعني أن صيغة الإستمارات التي ستستعمل في الإحصاء لا تزال قابلة للتعديل. فلماذا لا يتفضل جلالته بدعوة السيد الحليمي إلى إعادة النظر في الإستمارة المستعملة في الاستعلام حول مسألة اللغات في المغرب والتي بينا في مقال آخر أوجه قصورها الخطيرة التي تأثر السيد الحليمي في صياغتها بأيديولوجية الحزب الذي ينتمي إليه؟

خاتمة

أعتقد أن الملك محمد السادس رجل ذكي وطيب وذو نية حسنة. لذلك كتبت هذا المقال أعبر فيه عن وجهة نظري بنية حسنة.