أهدف من هذا المقال إلى تعريف القارئ الكريم بنظام سياسي أمازيغي جهوي لم يهتم به المثقفون المغاربة، ولم يستثمروه في بناء الديموقراطية المغربية المعاصرة. يعرف العامة هذا النظام ب"خْمس خْماس"، ولكن معظم الناس لا يتذكرون أمورا كثيرة عن خصائص هذا النظام ووظائفه. سأبين بأن هذا النظام مظهر من مظاهر الذكاء السياسي الأمازيغي وأسلوب من أساليب مناهضة الإستبداد كان على المفكرين المغاربة (والشمال إفريقيين بصفة عامة) أن يدرسوه بعناية بغية استثماره في التأسيس لنظرية أصيلة حول الجهوية الموسعة والديموقراطية التشاركية.

ما هو الإسم الأصلي لنظام "خمس خماس"؟

ما دام هذا النظام السياسي نظاما سياسيا أمازيغيا سابقا لانتشار الإسلام في شمال إفريقيا (كما أكد علماء الأنتروپولوجيا [العلم الذي يدرس الثقافات الإنسانية]) فلا شك أنه كان يتوفر على اسم أمازيغي لم يعد معروفا اليوم. انطلاقا مما نعرفه عن خصائص ووظائف هذا النظام، يمكن أن نسميه نظام "أمسمّوس"، التي معناها "النظام الخماسي". فالأمازيغية تفرد ألفاظا مختلفة للخُماسيات. فإذا كان الأمر يتعلق بخمس من الإبل سميناها ب"أغاير" جمعها "ئغويار"، وإذا تعلق الأمر ب"خُمس" الشيء دعوناه ب"سمّوس تْوال". لكن إذا تحدثنا عن نظام خماسي، سميناه "أمسمّوس" جمعها "ئمسمّوسن". لذلك نقترح أن نصطلح على تسمية نظام "خمس خماس" بنظام "أمسمّوس".

من أين نستمد معلوماتنا عن نظام أمسمّوس؟

لا زال كثير من سكان المغرب يحملون ذكريات عن هذا النظام لأنه بقي معمولا به حتى استقلال المغرب. فقد عرفته واستعملته قبائل أمازيغية عديدة مثل أيت ورغايل ودكالة وأيت عطّا وسكان الأطلس المتوسط. من أهم الدارسين لهذا النظام الفريد الأنتروپولوجي الأمريكي المُستمزِغ داڤيد هارت الذي أفرد كتابين علميين دقيقين عن قبائل أيت عطّا و هما كتاب ”دادّا عطا وأحفاده الأربعون" (1981) و كتاب "أيت عطا في جنوب المغرب" (1985).

ماهي خصائص نظام أمسمّوس؟

نظام أمسمّوس هو أشبه ما يكون بنظام جهوي موسع أو وحَدة فيدرالية تمارس به اتحادية من القبائل سلطتها على مجال ترابي معلوم. ويتميز هذا النظام بخمس خصائص نجمعها كما يلي:

أولاـ الخلفية الفِكرانية: لاحظ دايڤيد هارت أن نظام أمسمّوس ليس مجرد اتحاد لخمس قبائل أو انشطارا لقبيلة إلى خمس عشائر، بل هو نظام سياسي يعي أصحابه بوجوده وعيا حقيقيا، ويفتخرون به، ويعتبرونه مظهرا من مظاهر قوتهم وانتمائهم لنفس الجدّ ( أي ”دادّا عطا“ في حالة أيت عطا). لذلك فإن هارت ينتقد الأنتروپولوجيا الكولونيالية التي كانت ترى في هذا النظام اتحادا فيدراليا فرضه المخزن من أجل بسط هيمنته على القبائل، وساق دلائل عديدة تفيد بأن الأمر يتعلق بتطور انقسامي طبيعي في القبيلة الأمازيغية.

ثانياـ الوحدة الترابية: لكل أمسمّوس عاصمة تضمن لهذا النظام وحدته الترابية وانسجامه المجالي رغم عادات الترحال الموسمي التي كانت تميز القبائل التقليدية. فقد كانت العاصمة الإدارية لأسموس ن أيت عطا، مثلا، هي مركز ئغرم ن أمازدار (التي معناها الأصلي هو "البيت الأصلي")، وهو مركز يوجد بين جبلي صاغرو وبوڭافر، يبعد بحوالي 25 كيلومترا عن مركز ئكنيون في الجنوب الشرقي. ويوجد بهذا المركز محكمة عرفية كانت تعتمد على قوانين إزرفان الأمازيغية. وتقع في منطقة مقعرة عرضها من كل ناحية 29 كيلومترا تحيط بها الجبال من كل ناحية كما يحيط الخاتم بالأصبع. لذلك فهذه المنطقة تسمى بـ"تافروات ن أيت عطا" التي معناها "إناء أيت عطا". ومن أحكام قوانين إزرفان العرفية أنها كانت تمنع التقاتل والحروب في تافراوت ن أيت عطا منعا كليا.

ثالثاـ الوحدة السياسية: تتجلى الوحدة السياسية لأمسمّوس في اعتماده على نظام فريد في انتخاب رئيس للجهة يسمى ب"أمغار ن ؤفلّا (القائد الأعلى). فقد كان كل أمسمّوس يتكون من خمس عشائر (قد يرتفع العدد إلى ستة أحيانا)، يُختار أمغارها الأعلى كل فصل ربيع (17 مارس عادة) باستعمال قانونين سماهما الأنتروپولوجي والفيلسوف الأمريكي أرنست ڭيلنر بقانوني "الدور والتناوب" Rotation and Complementarity ومقتضى هذين القانوننين أن اختيار أمغار ن ؤفلا يتم بشكل دوري، بحيث يُختار الأمغار كل سنة من عشيرة من العشائر بشكل تناوبي (وهذا هو "الدور")، و لا يساهم في انتخاب الأمغار في كل مرة سوى العشائر التي لا ينتمي إليها المرشحون لهذا المنصب (وهذا هو "التكامل"). يساهم الدور في خلق تناوب ديموقراطي حقيقي على السلطة، ويساهم "التكامل" في تقوية لحمة الوحدة القبلية ما دام كل مرشح يعي بأن اختياره لن يكون من المقربين (أي عشيرته) بل الأبعدون (أي العشائر الأربعة الأخرى).

يتم الإنتخاب السنوي للأمغار على النحو التالي: تلتقي اللجان المكلفة باختيار الأمغار مع المرشحين وأهله في منطقة بتافراوت ن أيت عطا تسمى بأدمام قرب نهر الرّْڭّْ، فيجلس المرشحون بشكل دائري، ثم تأتي اللجنة الرباعية المكلفة بالإختيار فيطوفون بالدائرة ويضعون أصابعهم على المنتخب الذي ارتضوه أمغارا عاليا. فيوقفونه على قدميه، ويتقدّم أڭرّام (رجل صالح ورع من "الشرفاء")، ليضع شيئا من العشب وسكينا في عمامته إشارة إلى ما يأمله ويتمناه من الخصب (رمزه العشب) والوفرة (رمزه السكين الذي يستعمل في الجزارة)، فتُقرأُ الفاتحة وتتلى الأدعية. ومما قد يفعله أڭرّام أنه يقدم شيئا من التمر والحليب للأمغار تعبيرا عن الترحيب به، ثم يوزع نفس الشيء على الحاضرين تأكيدا على مساواة الأمغار بمن جاء ليتولى أمورهم. ثم يشرب الأمغار الجديد بعض الحليب من إناء يسمى "تيكينت"، ويفرض عليه أن يغمس لحيته في الحليب وأن يسمح بتدفق بعضه على ثيابه كناية على تواضعه في السّمت والمظهر.

رابعاـ الوظيفة الإقتصادية: لأمسموس وظيفة اقتصادية وهي أن هذا النظام يسهل توزيع المحاصيل الفلاحية بحسب حجم العشيرة. وجوهر نظام التوزيع في هذا النظام أنه كان يجمع أكبر العشيرتين فيعطيهما الخمس، ثم يقسم الباقي على خمسة فيعطي أحد الأخماس للعشيرتين الأقل عددا، ثم يقسم الباقي على خمسة، وهكذا إلى أن يتم التوزيع كاملا بحسب حجم العشيرة. وبما أن القبائل كانت رحالة، فإنها كانت تكلف أشخاصا معلومين بحراسة ممتلكاتها وخطاطيرها كلما اتجهوا شمالا. فكان يسمى حارس الخطاطير ب"أرسّام" جمعه "ئرسّامن" هم من كانوا يتكلفون بالإعداد للإنتخاب السنوي للأمغار. وتكلفتهم بذلك مظهر من مظاهر اختلاط السياسي بالإقتصادي في نظام أمسمّوس.

خامساـ الوظيفة التشريعية: فقد كان إغرم أمازدار مركزا للمحكمة العرفية العليا (الإستئناف) التي تجمع الخبراء بقوانين إزرفان (التشريعات الأمازيغية). و رغم أن هذه القوانين كانت عرفية غير موثقة، فقد اكتشف دايڤيد هارت نصا مكتوبا لهذه القوانين مكتوبا بلغة عربية فقهية ممتزجة بمصطلحات أمازيغية كثيرة. فترجمه إلى اللغة الإنجليزية وضمنه في الملحق الأول لكتابه الموسوم "دادا عطا وأحفاده الأربعون".

خلاصات

لقد عرف التاريخ المغربي المنسي نظاما سياسيا جهويا فريدا ينبني على نوع أصيل من الديموقراطية التشاركية في تدبير التسيير. إلا أن اغتراب المثقف المغربي عن تاريخه الأصيل وضياعه في تواريخ مشرقانية ومغربانية بدوافع أيديولوجية معروفة، حرمته من إدراك حقيقة أنتروپولوجية لا غبار عليها، وهي أن بلدنا عرف في تاريخه نظاما جهويا ديموقراطيا تشاركيا حقيقيا، غايته القصوى مقاومة احتكار السلطة، وأن الإستبداد و"طبائعه" دخيل ثقافي كان من الممكن تجنبه لو أننا بنينا قيمنا السياسية على هذا التراث السياسي ـ نظام أمسمّوس ـ لا على أنظمة استبدادية محتكرة للسلطة.