بدا الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى "ثورة الملك والشعب" معقدا وعسيرا. لكن أعتقد أن هذا الخطاب سيصبح واضحا ومنسجما إذا فهمنا السؤال الذي طرحه والكيفية التي أجاب بها على هذا السؤال. السؤال الذي طرحه هو: "هل المغرب دولة صاعدة". وجوابه على هذا السؤال هو: "لا يحتاج المغرب إلا للقليل ليدخل إلى منتدى الدول الصاعدة". سأحاول، في هذا المقال، أن أشرح خطاب الملك على ضوء هذا السؤال وهذا الجواب لأختم بست ملاحظات شخصية على مضمون الخطاب.

سؤال ومقدمتان

السؤال الذي طرحه الملك في خطابه وحاول الإجابة عليه في الجزء الأكبر من هذا الخطاب هو السؤال التالي: 

"فأين وصل المغرب اليوم ؟ وأين يمكن تصنيف الاقتصاد الوطني بين الدول؟ وهل يمكن اعتباره بلدا تنافسيا؟ أم يمكن وضعه ضمن الدول الصاعدة؟"

لم يعط الملك جوابا حاسما على هذا السؤال في بداية خطابه، بل أرجأ الجواب إلى موضع متأخر في الخطاب، كما سنرى، واقترح مقدمتين أساسيتين للإجابة عنه، وهما:

المقدمة الأولى ــ أن ليس هناك نموذج واحد للدولة الصاعدة، وأن هذه النماذج تختلف حسب ثلاثة عوامل:

1- الموارد الإقتصادية والبشرية لكل بلد

2- الرصيد التاريخي لكل بلد

3- العوائق والصعوبات التي تعترض كل بلد

أقتبس من نص الخطاب: 

"معروف أنه ليس هناك نموذج محدد للدول الصاعدة. فكل بلد يواصل مساره التنموي الخاص، حسب موارده البشرية والاقتصادية والطبيعية، ورصيده الحضاري، وحسب العوائق والصعوبات التي تواجهه."

المقدمة الثانيةــ أن الحلم بانتقال المغرب إلى مستوى دولة صاعدة ليس مجرد حلم بل هو حلم ينبني على ما حققه المغرب في 15 سنة الماضية. والمنجزات التي حققها المغرب حسب نص الخطاب هي:

1- الإستراتيجيات القطاعية: المخطط الأخضر، مشروع الإقلاع الإقتصادي، الإستراتيجيات الناجعة للمكتب الشريف للفوسفاط، فرص الإقتصاد الأخضر (مثل المخطط المغربي للطاقة الشمسية والريحية)

2ــ الشراكات الإستراتيجية التي حققها المغرب: مع مجلس التعاون الخليجي، مع دول إفريقيا، والوضع المتقدم الذي يربط المغرب بإفريقيا، اتفاقيات التبادل الحر مع عدد من الدول على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، الشراكة التي يسعى المغرب إلى تعميقها مع روسيا والصين.

جواب الملك

بعد أن صاغ الملك هاتين المقدمتين، أجاب عن سؤاله الأول بشكل واضح:

"وإذا كان المغرب يحتاج لبعض الجهود فقط، لمواصلة السير بخطى واثقة، للانضمام إلى الدول الصاعدة ..." 

يفهم من هذا الكلام أن المغرب ليس من الدول الصاعدة رغم نجاحه في سياساته القطاعية ورغم الشراكات الإستراتيجية التي طورها. لكن لماذا؟ جواب الملك هو: "المغرب يحتاج لبعض الجهود فقط". فما هي هذه "الجهود" التي يحتاج إليها المغرب حسب الملك؟

يؤكد الملك في آخر خطابه أن "كسب رهان اللحاق بركب الدول الصاعدة ليس مستحيلا، وإن كان ينطوي على صعوبات وتحديات كثيرة."

فما هي هذه "الصعوبات" و"التحديات الكثيرة " ؟
لنبدأ ب"الصعوبات". الصعوبات التي ذكرها النص يمكن تلخىصها على النحو التالي:

1- " تشتت وضعف النسيج الصناعي، ومنافسة القطاع غير المنظم"

2- المشاكل المرتبطة بالحكامة الجيدة وتخليق الحياة العامة، وهي: اختلالات النظام القضائي والإدارة وتفشي الفساد.

كيف ينبغي أن نواجه هذه الصعوبات؟ يقترح الملك تصورا مكونا من ثلاثة محاور للإصلاح (أو الإستمرار فيه)، وهي:

أولاـ " تطوير مجموعات ومقاولات قوية (لمواجهة المنافسة الدولية، وتطوير شراكات مع المقاولات الصغرى).

ثانياـ "مواصلة تحسين مناخ الأعمال (بإصلاح القضاء والإدارة ومحاربة الفساد بمشاركة جميع مكونات المجتمع)

ثالثاـ " تعزيز الدور الاستراتيجي للدولة، في الضبط والتنظيم، والإقدام على الإصلاحات الكبرى، لاسيما منها أنظمة التقاعد، والقطاع الضريبي، والسهر على مواصلة تطبيق مبادئ الحكامة الجيدة، في جميع القطاعات."

والتحديات التي صرح بها نص الخطاب هي أن النمو الذي حققه المغرب لم يكن نموا عادلا لأن هناك " أغنياء يستفيدون من ثمار النمو، ويزدادون غنى وفقراء خارج مسار التنمية، ويزدادون فقرا وحرمانا."

كيف نواجه هذا التحدي؟ لم يعط الملك جوابا واضحا ولكنه ذكر بأن المبادرة الوطنية للتنمية تدخل في إطار مواجهة هذا التحدي وبأهمية العامل البشري وبقدرة المغاربة على " العطاء والإبداع، كلما توفرت لهم الوسائل اللازمة، والظروف الملائمة، للقيام بأي عمل، كيفما كان نوعه، صغيرا أو كبيرا، فكريا أو يدويا، وذلك رغم آفة البطالة."

خاتمة بروتوكولية

يذكر الملك فيما تبقى من خطابه بأن كل ما تحقق في 15 سنة الماضية "ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج رؤية واضحة، واستراتيجيات مضبوطة، وجهود وتضحيات جميع المغاربة." ومن هنا أشاد الملك بدور الحكومات المتعاقبة، و"المقاولات المواطنة"، ومنظمات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، والمنظمات النقابية، ولنساء ورجال التعليم جميعا.

وفي الختام يؤكد الملك على أن رهان الدخول إلى مصاف الدول الصاعدة رهين بالشباب الذين يتحلون ب"روح وطنية" و قيم "المواطنة الإيجابية" وما يتوفرون عليه من "عبقرية خلاقة".

ملاحظات ختامية

سأبدي في خاتمة هذا المقال ست ملاحظات على خطاب الملك.

أولا- من الواضح أن خطاب الملك يهدف إلى الإجابة عن سؤال شبه تقني وهو: هل المغرب "دولة صاعدة"؟ وعدم تداول هذا المصطلح في الثقافة المغربية والإعلام المغربي جعل مقاصد الخطاب الملكي وأطروحاته الأساسية غير واضحة عند العديد من المعلقين الذين قرأت لهم لحد الآن. فقد ظهر مصطلح "السوق الصاعدة" أول مرة عام 1981 عندما بدأت مؤسسة التمويل الدولية أولى عمليات استثماراتها المالية في الدول السائرة في طريق النمو .. ومنذ ذلك الحين ظهرت محاولات متعددة للتمييز بين الدول الصاعدة التي تجذب فرص الإستثمار وتلك التي توجد دون هذا الإستحقاق. ومن المعايير المتفق عليها في تحديد "الدولة الصاعدة" أن مستوى الدخل الفردي يكون ضعيفا، ومستوى النمو عاليا، والأسعار فيه تكون غير مستقرة، ومداخيل الإستثمار تكون عالية(Kimberly Amadeo) . لذلك فالسوق الصاعد يكون دائما جذابا للإسثمارات الخارجية ومعرضا لخطر اصطدام القيم الوافدة مع الإستثمار بالقيم المحلية . والأسواق التي التي تعتبر صاعدة اليوم حسب مؤشر MSCI عددها 21 (من بينها البرازيل والشيلي والصين وكولومبيا والتشيك والمغرب والپيرو ...).

ثانيا- إن المشكلة في تعريف "الدولة الصاعدة" و"الإقتصاد الصاعد" أنه يعتمد دائما على عوامل مرتبطة بصلاحية الدولة للإستثمار فيها، أي بالنفع الذي سيعود على المستثمر الأجنبي إذا ما استثمر أمواله في البلد. لذلك فمعايير هذا التصنيف لا تعتبر عوامل النمو الذاتي مثل انتشار ثقافة الإبتكار في المجتمع التي لا يمكن صناعة الثروة بدونها، لأن انتشار مثل هذه الثقافة يجعل اليد العاملة ذات مهارات خلاقة عالية الثمن، وتخلق بروفيلات مقاولاتية لا تختلف في قيمتها في السوق عن قيمة البروفيلات في بلدان المستثمرين. ولذلك أيضا فإن المؤسسات المالية الدولية لا تهتم كثيرا (بل لا تفكر أصلا) في تأهيل المنظومة التربوية لمستوى إنتاج المعرفة وخلق بروفيلات ابتكارية تساهم في صناعة وطن تنافسي حقيقي.

ثالثا- إن رهان "الصعود" الإقتصادي والإجتماعي رهين بشكل حاسم بثورة داخل المؤسسة التربوية تستفيد منها جميع فئات المجتمع المغربي من شأنها أن ترفع من قدرة الفرد المغربي على الإبتكار وصناعة الثروة وتدبير الموارد بشكل فعال وخلاق. هذا هو ما سيحصن ما حققه المغرب لحد الآن من مكتسبات قطاعية وشراكات استراتيجية ... فسر التنافسية هو قدرة المنظومة التربوية على إنتاج البروفيلات الإبتكارية الراقية في جميع التكوينات الأكاديمية والمهنية.

رابعا- لا ينبغي ربط تخليق الحياة العامة (محاربة الفساد، الرشوة، إصلاح القضاء والإدارة) بمجرد الرغبة في الرفع من جاذبية السوق المغربية، بل لا بد من خلق ثقافة هوياتية جديدة بواسطة المنظومة التربوية تقاوم الفساد على مستوى الحياة الأخلاقية للأفراد. كما ينبغي أن تتبنى الدولة سياسة المستوى الصفر في التسامح مع الفساد وخرق القانون.

خامسا- لا يمكن تحصين مكتسبات النمو الإقتصادي بالمغرب والسير بها إلى الأمام إلا بدعم المكتسبات الحقوقية التي على رأسها ترسيم اللغة الأمازيغية (التي هي العامل الأساس في تصالح المغاربة مع أنفسهم) وزجر الإستهتار الذي أظهره أحمد الحليمي العلمي في إقصاء الإستعلام حول اللغة الأم بالمغرب، مما قد يهدد السلم الإجتماعي ورصيد الإستقرار الذي ينعم به البلد, والعمل من أجل إعادة توزيع الثروة بشكل عادل بفرض ضريبة ثروة على الحيتان الكبيرة تستثمر في النهوض بالمنظومة التربوية ودعم المقاولين الصغار ومحاربة الهشاشة في المجتمع المغربي.


سادسا- لقد كان الملك واضحا إذ رهن دخول المغرب إلى منتدى الدول الصاعدة بالشباب الحاملين للقيم الوطنية والمواطنة الإيجابية والذي يتوفرون على عبقرية خلاقة ... فلماذا لا يدعم جلالته حزبا شبابيا جديدا يتجاوز عقلية الأحزاب التقليدية ويوحد القوى الحية في البلد وينشر ثقافة الإبتكار ويثبت أركان الحكامة الجيدة من موقع صناعة القرار ويطهره من الفساد بشكل حاسم؟ ... إذا فعل ذلك، فستكون تلك بالفعل "ثورة للملك والشعب" معا.