محسن الاكرمين - مكناس / جديد انفو

لليوم الثاني لم تغمض أطراف عيوني نومها الطبيعي ، حينها قررت الترجل والتجول كالمتسكع بين أزقة حواري المدينة القديمة .ثقل النوم يبرز من قسمات وجهي منتكسا بالتشويش وعدم  تهديف الاتجاه، لحد الآن لم يلازمني الفرح منذ أن تحولت دفة حياتي بمتحول القدر. فما دام التفكير يشتعل داخليا بالتساؤل، فالرأس يشتعل شيبا.

بالأزقة الضيقة  لا تسمع إلا صوت من يستعطفك ويطلب الصدقة ، لا تسمع إلا دقة نجار شيخ بمطرقة على خشب جاف وبه عيون معزة تتحرك . في آخر الدرب لاحت لي بالتقابل غير البعيد  امرأة قصيرة القامة مكتنزة الجسم ، تلتحف حايكا ، ولا تتحرك إلا بمساعدة عكاز من غصن شجرة خروب غير مستو، أقترب منها بالاتجاه المعاكس، حاولت أن أسحب عيناي من التقاط نظراتها، لكني وللأسف لم أفلح ، إنها امرأة مميزة بقسمات وجهها المستديرة وجبهتها العريضة المتجعدة ، ونور رباني يسطع بخفة الحركة . لحظة توقفت عن المشي واستدارت بملمح الإبصار رافعة رأسها نحوي ، فمادام قصر قامتها قد منحا ولو للحظة تعديل تقويسة ظهرها بالتمام . هنا لامست من عينيها  قسوة الزمان ، وحينها لم استطع لا إتمام سيري ولا الكلام ، كنت أتابع حركاتها باهتمام وكأنني أعرفها متم المعرفة، وكل صغيرة أو كبيرة إلا وعيني تتبعها بالتسجيل والمعاينة. استبدلت المرأة يد العكاز من اليسار إلى اليمين بالتوسط ، ولحد حركاتها المتتالية لم تبح لا بكلمة واحدة . هنا استرجعت ماضي الطفولة عندما كنا نتبع تلك المرأة التي لا تزور حينا إلا مرة كل شهر ، كنا نطلق عليها (أم صاندلة) تسمية كانت تتردد على ألسنا الصغيرة لا نعرف دلالتها إلا من أنها كانت تنتعل صاندلة بلاستيكية من فردتين مختلفتي اللون  .

أحسست بيد خشنة تقبض على أطراف أصابعي ،حينها فزعت رعبا وتخيلت أن( أم صاندالا ) عادت لتنتقم مني اليوم ومن شقاوة الصغر. في دواخلي سكن خوف شديد ، ولم يسحبني منه إلا صوت طالب معاشو بحماره الأشهب (عنداك  عنداك...) ، حينها سحبتني العجوز برفق من مكاني لأفسح الطريق للحمار والذي من المؤكد الأكيد أنه خبر الأزقة، وعرف أن المارة يفسحون له الطريق كرها. مر الحمار متبخترا ولم يبد أية التفاتة إلينا مادام انه يحمل ثقلا يترنح تحته وبالكاد يرفع رجلا تلو الأخرى . تابعت مسيرة الحمار رغم أن صاحبه تخلف عن إدراكه بالسير وهو في قراره أن حماره لن يتيه في مدينة الأحاجي .

وبمتم إطلالة أشعة شمس من فجوة صغيرة بين المنازل العتيقة المتهالكة، أعادتني إلى المكان بعين طرفها الأكبر المغمض من نور الشمس، وسببا أخر من شدة الأرق الذي يركب جسمي كليا. عودتي إلى من لا زالت تشد على رؤوس أصابعي اليمنى ، حينها سحبت يدي برفق وأردت أن التقط ولو درهما من جيبي للسيدة التي تبدو عليها اثر قساوة زمن الجذب ، لكنها أشارت أنها لا تعنيها الصدقة وليست في حاجة إلى درهم قتل الحلاج بسببه ، وابتسمت، حينها لاحظت أنها لم تعر ملمح عيناي لها بالاستفهام ولا الملاحظة ، لكنها أسرت على الحديث معي ، لحظة توجست خيفة من أمرها ،وبدأ لعبة تكاثر التفكير في مخيلتي ، أكثر من طلب وسؤال واستفسار ، لكنها سحبتني من مكاني منادية علي بأسلوب نداء القريب ،أيها التائه الغريب في مكان الأجداد. لقد كان حلمي الواقف المتردد الليلة باللقاء بك في نفس المكان أمام زاوية الشرفة، هنا تلفتت يمنة ويسرة فلم أجد إلا دربا أحدب الهندسة ضيق الجوانب ...قاطعتها برفق لالة الشريفة ما مسك من حلم إن هو إلا أضغاث أحلام . أنا ابن المدينة هذه ، ولست بذلك الغريب التي تقطعت به السبل وتخلفت عنه الطرق . ضحكت بالتكرار الخفيف ، لحظتها ألقيت نظرة خاطفة على فمها فلم أجد سنا بادية فيه  إلا بقيا جذور سوداء . هنا اختلط علي أمر المرأة بملامحها الذي شاخت وهرمت، وشان مدينتي التي تتقاذفها الأيدي والسياسات التي لا حكمة فيها إلا من نفع المنتفعين منها .

أقسمت المرأة بغليظ الأيمان أنني غريب ليس على المدينة ولا على شوارعها وأزقتها الضيقة ، ولكن غريب عن ذاتي ،عن تفكيري، عن مستقبل حياتي. هنا استولى علي الفزع كمن يلطمني على وجهي الأيسر بقوة ،  فق مالك ناعس وأنت ماشي ،ما لك مغمض "عنيك وأنت وسط مدينيك وناسك" ... ثم استويت مستقيما في وقفتي، ولمحت شقا قليلا من عيناها ، فلم ألحظ عليها أثر الشيخوخة ولا شح الحياة،  إنها نظرة مرتدة سريعة  بين الأولى والثانية .

آه، لو كانت المرأة جنية المدينة الماردة ، لأمرتها حالا بالإصلاح وتشكيل مدينة مك..و...ناس. لحظة أحسست بمن يسرق أفكاري ،أحسست بأنها الحقيقة الإنسية الماثلة أمامي ،أحسست باني من أبناء هذه المدينة المنسية ، حتى ولو اسمها ضاع بين الأوراق والتقارير . تشجعت قليلا ورحت بيدي امسح ما علق على رأسها من وهن بيت العنكبوت ، الآن وجهت خطابي إليها عن حلمها الذي راودها غير ما مرة باللقاء معها . استندت إلى الحائط الذي يماثلها بالتاريخ الماضي ، وأكدت أنها زارت جميع زوايا المدينة ،زارت جميع المزارات و الأضرحة وحين تغفو في نومها تلحظ أهل المدينة يسيرون فرادى في حلقة مكشوفة وهم نيام ولا حول لهم ولا قوة ...الآن،  فكرت في قولها بالصدق من أنني واحد من ناس أهل المدينة التعيسة  ...

(يتبع بحلم المرأة / الجزء 2)