
سليمان محمود.
خيري. هذا اسمه الذي لا يعرف إن كان اسماً جاء جف القلم الذي قدرَه له، وطويت الصحيفة التي كُتِب فيها بمداد الألم والحرمان، أم أنه سخرية حقيرة من زمن بؤسه. ولكن الأكيد عنده، والمثبت في الوثائق المخزنية، أنه شاب من الجنوب الشرقيِّ، لم يبلغ بعد سنَّه العشرين. حمله التهميش المضروبُ على جغرافيته إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، ليدرس فيها الأدبَ، ويحلم بأن يكتبه يوماً، بدموع تجاربه، قبل قلمه.
يتذكر بمرارة ذلك الأسبوع الذي كان بوزن سنوات. حينها كان يدرس في السنة الثانية من الجامعة. الطلبة يتأهبون للعيد الكبير، ولشوائه وكوطْلِيطِه وبولفافِه. أما هو، فعلق في غرفته التي يكتريها معيةَ ستةِ طلبة ينحدرون جميعاً من مدينته الجنوبية. حمل الجميع حقائبهم، وتوجهوا لمعانقة فرحة أسرهم باقتراب العيد، تداعبُ آذانَهم ثرثرةُ النساء في المطابخ، ويملأون الأسواق ضجيجاً وأزبالاً، وهم يقتنون ملابس جديدة، ولوازم الحلويات، وعلف الأكباش التي يُسمِّنونها للسكاكين. وكان هو يُعد نفسه لامتحان شفوي في مادة لم يَعُد يهمه اسمها. الجمعة امتحان، والأحد عيد. لم يكن معه سوى ما يكفي لبطاقة الحافلة من أكادير إلى مدينته التي تبعد كيلومترات بُعْد عاصمة دولة عن دولة، وستِّ دراهم للطاكسي التي ستنقله إلى محطة إنزكان. ولم يتبقَّ له بعد ذلك غير 260 ريالٍ مغربيٍّ فقط، وعليه أن يجد طريقة ليعيش بها أسبوعاً كاملاً.
أغلق أصدقاؤه أبواب غرفهم في الحي الجامعي، وغرف الشقق المستأجرة، وأغلق خيري باب الغرفة عليه، ليستعد للجوع والصمت، ولشيء يشبه النسيان.
حي الداخلة الآن يعجُّ بصوت الفراغ، بعدما كان مكتظاً بالحياة، وصار كصحراء إسمنتية. الشوارع تئن من الفراغ، والأبواب مغلقة، والدكاكين موصدة. حتى "مول الحانوت" الذي كانت مذكرته للكريدي تُسعِف بطون الطلبة، عندما تتأخر عنهم المنحةُ، مضى إلى تَمازيرت، إلى دُوّاره الذي يقبع في عمق الجبال، أو دوَّاره بين نخيل الواحات، تاركاً وراءه دعماً مؤجلاً لبطن سيجوعُ أسبوعاً.
لقد كان خيري منسياً تماماً كقلعة طينية لا يتذكرها إلا بَوْل المارة الذين يدفئون أسوارها وجدرانها، وأحس وكأنه خطأ في دفتر حسابات مدينة لا تعترف إلا بالذين لهم ناسهم وعائلاتهم، وسياراتهم التي تنتظرهم عند باب الكلية.
غادر "مُعادُ" ليلةَ الخميس، وكان آخر رفاق الغرفة من أصدقائه، لما اجتاز امتحان في مادة ما في شعبة البيولوجيا، وكان غذاؤهما يومها ما تبقى لديهم من خضر، أعدا بها طاجيناً قزديرياً تغير لونه الفضي، واعتلته صفرةٌ تميل للبني. المطبخ فارغ تماماً. ولا يملك خيري سوى تلك الدراهمَ الثلاثةَ عشرَ. كان على خيري وضع خطة لتدبير صرفها طعاماً يضمن عدم موته، ويحفظ عزة نفسه، فاقتسمها إلى سبع حصص. كل حصة لا تتجاوز دراهم معدودات. سيشتري خبز المْحْراشِ الذي لا يكلِّف سوى 15 ريالاً، وقطع جبنٍ، وثلاث علب رايبي. في كل يومٍ، يقطع الخبز بعناية، كأنه يوزع وقتاً، لا رغيفاً. في أحد تلك الأيام السبعة، اشترى بيضتين، ووضعهما في كسرولة صغيرة، وأشعل النار الخفيفة، يرقبها كما لو أنها كنز. أكلها ببطء، ثم شرب ماءً ساخناً، محلى ببعض السكر الذي وجده في قعر كارطونةِ سكر لم يتبق فيه سوى ذلك الفُتات.
كان خيري، في كل مرة، يحاول أن يقرأ، أن يراجع ما تبقى من دروس، لكن الكلمات كانت تذوب في حلقه كما يذوب السكر في الماء. معدته تئنُّ من الجوع، فتُعلِّق على كل جملة بصريرٍ ساخر.
يخرج وحيداً، رفقة صمته، يتمشى في الحي، كأن خطواته تهرب من رائحة الوحدة التي تخنق الجدران. ورأى، ذات يومٍ، قطةً تنبش في كيس قمامة، فعلت وجهه ابتسامةُ حسدٍ؛ فالقطة قد تجد شيئاً تأكله. أما هو، فكل ما وجده كان علبة سردين فارغة، وهو يكنس المطبخ الذي يتقاسمُه عشرة طلبةٍ يسكنون شقة ضيقة. ضحك كثيراً من هذا القدر القذِر، وهو يسخر منه هكذا، بأدنى شفقة.
حاول كثيراً ألا يفكر في طعام، ولا شراب، ولا في العيد، ولا في أهله الذين لا يعلمون شيئاً عن حاله. لقد أخبره للتو أن كل شيء بخير، وأن امتحان سيؤخره عن اللحاق بهم، ليحضر مراسم ذبح الخروف الأقرن الذي اشتراه أبوه من أغنام ابن عمه "عمِّي عدِّي"، لم يُرد أن يُقلقهم. كبرياؤه الذي ورثه عن والده منعه من إخبارهم بالأمر، ولا أن يطلب منهم إرسال بعض المال له ليتدبر به أمره.
وجد نفسه يكتب في دفتره:
- “لا أحد يسمع من يصرخ داخل المدينة، حين تكون المدينة نفسها تصفِّرُ خواءً”.
اليوم السابع، كان الأسوأ. بقيت دراهم معدودات. جلس على الأرض، بجوار نافذته، يراقب الغروب. الألوان التي تتغير في السماء كانت الشيء الوحيد الذي لم يطالبه بثمن. فكر في كل ما مرّ عليه. في الامتحان الذي اجتازه، في القلق، في الجوع، في صمت المدينة. لكنه لم يبكِ، رغم أن داخله ملئٌ بجفافٍ قديم، وبكاء لا يخرج. صمت فقط، لكنه صمتٌ كثيف، كأن العالم كله قد انكمش داخله، وسكن هناك.
*******
ركب الحافلة مساء السبت، واتجه نحو الجنوب، نحو أهله، نحو البيت الذي يعرفه جيداً، لكنه لا يعرف ما يحمله داخله الآن. ما في رأسه يدور يميناً ويُسرة، مع تموجات الطريق، يمتزجه عياؤه وشحوبه مع اهتراء الحافلة، وهشاشة الطريق التي تبدو عليها تجاعيد التهميش. لقد أتعبه اليوم السابعُ. لم يتبقَّ لديه من الدراهم شيءٌ. وضع ست دراهم فوق طاولة الطعام، يتحسسها، ويقلب وجهيها. كانت خمسة دراهم كبيرة الحجم، فضية اللون، تحمل وجه الملك، وعلى ظهرها رمز العرش الملكي، وتاريخ صكها، وبجانبها درهم واحد. يتخيلهما قطع خبز وبيض ورايبي جميلة. لكنه لا يملك قدرة صرف القطعتين، فهي وسيلته لبلوغ محطة الحافلات.
جلس خيري قرب النافذة المفتوحة على الوجع، وصوت عوَّا الذي يُسمَع من بعيدٍ، يراقب السماء الملبدة، كأنها تشاركه العبوس. لم يعد يشعر بالجوع. لقد بدأ جسده يعتاد على الغياب، لكن الرأس كانت ممتلئةً بصرخات صامتة، بحوارات يتخيلها، وكأن وحدته صنعت له أشباحاً يبادلها الحديث، وتملأ فراغه. لقد تعلَّم، في هذه المدينة التي تصدر أصوات الموتِ، أن يصمت حتى لا يسمعه أحد، وأن يبتسم كي لا يخون كرامته وشموخه الواحيَّ الذي نشأ عليه. هكذا كتب في دفتره.
لم يكن ذلك نصراً، إنما هو بوح ومناجاة يناجي بها نفسه، ليكون له نوعاً من النجاة المؤقتة.
توضأ مساءها، ووضع جسده المنهَكَ فوق فراشه اليتيم، ونام، كما نام الآن نوم المتعبين في حافلته المهترئة، ولم يعد يبالي بتلاعبها بحَفَر الطريق.
ـ "الحمد لله على سلامتك أولدي، راك بقيتي فبالي هاد الأيام كاملة. ياك لاباس؟"
هكذا استقبله أبوه الذي قُدِّر أن يفتح له الباب، عندما نزل من الحافلة قبل الفجر بلحظات. كان أبوه قد استقيظ ليصلي. لكنه لم يجبه، واكتفى بتقبيل يده ورأسه، كعادتهما في الاستقبال. احتاج عناقاً، لكنه سلوك نسائي لا يليق بالرجال.
وجد غرفته قد استوطنها أخوه الأصغر منه، فنام في الصالون دون غطاء، فما كان له أن يدخل على أخيه وهو نائم، ليأخذ بعض الأغطية. خشي أي يوقظه، ويزعج أحلامه. تكوَّم من البرد فوق "السدَّاري"، حتى أحس بدفء غطاء علم لاحقاً أن أمه من غطته.
حل العيد، وجلس بينهم، وأكل، وشرب، وضحك قليلاً. لكنه كان يعلم أن فمه فقط هو من يضحك، أما قلبه فكان هناك، في حي الداخلة، مع علبة الرايبي، وقطعة خبزٍ يابسة، وجبنٍ لا طعم له سوى طعم الوحدة.
كل لقمة شواء كانت تطعمه ناراً، لا دفئاً، وكل صوتٍ من أصوات العيد كان يضرب في رأسه كأنه يذكره بخيانة صامتة: "أين كنت حين كنا نأكل ونضحك؟".
لم يقل شيئاً، لم يرد أن يكدر العيد. فطوى الألم كما تطوى جريدة قديمة، وخبأه في جيب قلبه، وعاد يوزع ابتساماتٍ مُقنّعة.
لكن الحقيقة، التي لم يرها أحد، هي أن خيري لم يُفطر يوم العيد، بل أفطر في داخله ذكرى أسبوعٍ من الصمت والجوع، لا تزال تعانقه، كأنها لا تريد له أن ينسى، رغم مرور السنين.
صار خيري اليوم كاتباً مرموقاً، ينشر مقالات وقصصاَ، ويحاضر في الجامعات. لكنه لم ينسَ ذلك الأسبوع الذي يزن دهراً كاملاً، ولا المدينة التي صفرت في وجهه، ولا المئتين وستين ريالاً التي علّمته ما لم تعلمه له الكتب التي هضمها في مسيرته الأدبية والعلمية.
كلما كتب عن الجوع، وعن الوحدة، وعن البرد والقسوة، وعن الناس الذين لا يُرون في المرايا، أحس بأنه كان يكتب عن نفسه. عن خيري. عنّا جميعاً.