
سليمان محمود
لقد استوردنا كثيراً من الأفكار التي بُنيت عليها إيديولوجيا عقيمةٌ، تقوم على القمع والمنع والاستبداد، ولا تُنتِج سوى الانفصام والاضطراب؛ إيديولوجيا أُلبِسَت لَبُوسَ الدين والفضيلة، لكنها في العمق لم تصنع إنساناً متوازناً، ولا مجتمعاً سليماً، بل صنعت كائناً منافقاً، مزدَوَج المعايير، ممزَّقاً بين ظاهرٍ مُتْقِنٍ للتقوى والحياء، وباطنٍ مثْخَنٍ بالكبت والحقارة والدناءةِ. وهكذا، بدل أن تتحول هذه الإيديولوجيا إلى مصدر قوةٍ أخلاقيةٍ، غدَتْ عِبئاً ثقيلاً يُعَطِّل نموَّ المجتمع، ويعمّق هشاشته، ويعيقُ تحضُّرَه.
ويكفي أن نُطِلَّ على واقعنا القريب، لندرك حجم البؤس الذي نجذِّفُ في قذارته؛ فلا يكاد يَمُرُّ يومٌ دون أن نسمع خبر اغتصاب طفل، أو نشاهدَ تحرشاتٍ لا تنتهي بفتاة هنا وهناك، أو ممارسات شاذة تتستر بالظلام، والأركان المخفيةِ عن الأنظار. ثم تأتي التبريرات الجاهزة لتصدمَنا أكثر، حيث يبرر الذكرُ المغربيُّ أفعاله بمقزلات جاهزةِ، من قبيل: “اللباسُ هو السبب”، “البنات يثرن الرجال بماكياجهن وعُرِيِّهِنَّ”، وكأن الجسد الأنثوي هو المذنبُ الوحيدُ في تطاوله على النساء والفتيات! لكن ماذا عن الأطفال الذكور الذين يتعرضون للتحرش، أو الاغتصاب؟ ما الذريعة إذن؟ وماذا عن تلك الجريمة النكراء التي ارتكبها أربعةَ عشر مغتصباً في حق طفل واحدٍ، ولم يجد واحد منهم شجاعةً ليرفُض الفعل، أو ليصرُخَ: "هذا لا يعقل"؟ أي وعي هذا؟ وأي ضمير بقي في قلوب الناس؟
إن التحرشَ ليس طبيعةً، والاغتصابَ ليس قدراً، إنما هما صناعةُ ثقافةٍ فاسدةٍ، تُعيد إنتاج الجريمة جيلاً بعد جيل، وجوهر المشكلة ليس في "لباس المرأة"، ولا في "مكياجها"، ولن. يقول بذلك عاقلٌ، ولا شخصٌ سويٌّ، فالمشكلُ يكمن في بنية ثقافية واجتماعية تمنع التواصل الإنسانيَّ الطبيعيَّ بين الجنسين؛ ذلك أننا نعيشُ في مجتمع يعتبر كلَّ علاقةِ صداقةٍ بين شاب وفتاة "حراماً"، أو "عيباً"، وينظر إلى ذلك بمنظار السلوك المقيت غير اللائقِ، لكنه في المقابل يتغاضى عن ثقافة التحرش، والهيمنة الذكورية. وبهذا نصنع جيلاً يعيش على الكبت والنفاق، ويعجز عن التعبير عن مشاعره بشكل سويٍّ، فيلجأ إلى الخفاء، أو ينفجر في أشكال من العنف الجنسيِّ/الجسديِّ.
وهذا دليلٌ على أنَّ الكبتَ في جوهره لا يصنع الأخلاق، أكثر مما يصنع العنف، ويحوّلُ الطاقة الإنسانية إلى قنبلة موقوتة، لأن العلاقات العاطفية والإنسانية لا يمكن كبتها بالكامل، مهما حاولنا، ولهذا نجد أن المجتمعات التي تحرّمها علناً هي نفسُها الأكثر عُرضةً للانحرافات، والجرائم الجنسية، على عكس المجتمعات التي تشرِّعُ للتواصل الصحي، وتسمحُ للأفراد بأن يختبروا مشاعرهم، ويتعلموا التعبير عنها في العلن، تحت مراقبة التربية والقانون، إذ تصير مجتمعاتٍ أكثرَ تحضُّراً، وتنخفضُ نسب التحرش والاغتصاب فيها. وفي مثل هذا الوسط الاجتماعيِّ، يتعلم الأطفال والمراهقون -منذ الصغر- معنى الرضا، وحدود الجسد، وكيفية بناء علاقة قائمة على المساواة، لا على الهيمنة والتحكُّم. وبهذا الانفتاح المؤطَّرِ يربح الجميع، أما في مجتمعات المنع، فالجميع خاسرون.
ولا يعني رأيي هذا أن علينا أن نستورد هذا النموذج من الدول الأوربية والأمريكية التي يراها البعض من مثقفينا نموذجاً للحضارة، فيمكنني القولُ بكل ثقةٍ بأن لدينا في تراثنا الأمازيغيِّ المحليِّ ما هو أصدقُ وأقربُ؛ فقد طوَّرتِ الثقافةُ الأمازيغيةُ -في الجنوب الشرقي المغربي- منذ قرون، طقسَ "ⵜⴰⵇⵔⴼⵉⵢⵜ/تاقْرْفِيْتْ"، وهو فضاءٌ علنيٌّ يُفسَح فيه المجالُ للذكور والإناث للحديث معاً بحرية أمام الملأ، بالكلام والنكتة، والشعر والغزل، تحت أنظار الأهل والجماعة. والقاعدةُ الأساسُ فيه هي: "تكلم بفمِك، ودَعْ يدك جانباً"، أي أنَّ الكلمةَ هي الوسيلةُ الوحيدةُ للتواصل في هذا الطقسِ، لا الجسد، ولا العنف. وفي هذه الفضاءات ينشأ الحبُّ أحياناً، وتُختبَرُ المشاعرُ في الغالب، وتُبنى جسور التعارف على الأقل، دون أن يتحول الأمر إلى خيانة، أو انحراف، أو تطاولٍ لا أخلاقيٍّ. وبهذا يكون الجنسان غير غريبيْن عن بعضِهما، مألوفيْن ومتآلفيْن.
لقد كان هذا النموذج، في بساطته، أكثرَ حكمة من مجتمعات الحظر والتجريم التي ورثناها فيما بعد، لأنه يُشرعِن التواصل بدل منعِه، ويضعُه في الضوء، ويخرجُه من الظلام، ويؤطرُه بجعله مسؤوليةً جماعيةً، بدل تركه فعلاً سرياً معزولاً. وأظنُّ أنه نموذجٌ يحتاج إلى أن يُستعاد بروح جديدةٍ ملائمةٍ للعصر، باعتباره مدرسةً للتربية على المساواة، والاعتراف بالآخر، والتكامل بين جنسيْ المجتمع، دون النظر إليه كأنه فولكلورٌ ميتٌ.
ويبدو أن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه في النهاية هو: هل نريد مجتمعاً يستمر في إنتاج العنف والكبت والنفاق، باسم "العيب والعار، والحْشومة والحرام"، أم أننا مستعدون لأن نتعلم من تجاربنا المحلية، ونستفيد من تجارب العالم، كيف نصنع ثقافة تواصل إنسانيٍّ صحيٍّ، متشبِّعٍ بقيم حقوقية وإنسانيةٍ، تضع حدّاً لدوامة الاغتصابات والتحرشات؟
والجواب، بطبيعة الحال، ليس سهلاً، لكنه حتماً يمر من هنا؛ أي من إعادة الاعتبار للتواصل، وللوعي، وللحرية المسؤولة.